من الذي أغرى ذئاب الريح؟ِ

ذات فجر بارد، وشديد القسوة، ضاق الحبل الغليظ على الرقبة. واختلطت نكهة العيد بالدم النافر من عنق التمثال. قبل تلك اللحظة بسنوات، وفي فجر دموي آخر من عام 2003. عبرت الجسر دبابتان متجهمتان متجهتين إلى جانب الرصافة، إيذاناً بانهيار البلاد على أهلها، وكانتا تقصدان ساحة الأندلس تحديداً. ثمة تمثال طويل القامة، صارم القسمات، يتوسط تلك الساحة الشهيرة. قبل تلك اللحظة كان مرأى ذلك التمثال، مجرد مرآه، يبعث الرهبة في قلوب الكثيرين، لكنه، وفي اللحظة ذاتها، كان يبعث مشاعر الانتماء إلى البلد والاعتزاز به في نفوس الكثيرين أيضاً.

٭ ٭ ٭

حين أدخلوني عليه، ذات مساء، في منتصف السبعينيات، أذهلني حضوره المربك الوسيم، عن كلمات كنت هيأتها للدفاع عما جئت من أجله. كان في تلك الفترة يحتكر تسمية خاصة به: السيد النائب، وهي تسمية تبدو للكثيرين أقل من ظله الممتد على البلاد جميعاً، غير أنه كان يضفي على كل منصب يشغله ما يجعله ساحراً ومخيفاً في الآن نفسه. كنت قد اتصلت به تلفونياً، قبل ثلاثة أيام، فقد كان رقم هاتفه متاحاً للناس، في دليل الهاتف العام. كان ردّه، شخصياً، على التلفون مفاجأة لها وقع الصدمة لا المفاجأة، وحين عرّفته بنفسي، أكد لي معرفته بالاسم. وحدد لي موعداً للحضور إلى مكتبه في المجلس الوطني، وطلب مني تلخيص قضيتي في سطرين أو ثلاثة.
كنت مضطراً إلى ذلك اللقاء، بعد أن صدر حكم قضائي جائر بإخراجي من البيت الذي كنت استأجره في حي القادسية في بغداد. كان صاحب البيت ضابطاً كبيراً، سبق له أن شغل العديد من المواقع الخطيرة، وتربطه برئيس الدولة قرابة عائلية، وقد تقاعد مؤخراً. كان يدّعي كتابة الشعر، وكثيراً ما ورد اسمه مقروناً بأحد شعراء العراق الكبار، كان يمكنني كسب الدعوى، لولا انحياز القاضي بدافع الخوف أو خراب الضمير. كانت لحظة لقائي السيد النائب عصية على النسيان، حتى في خضم اختلاطها بتاريخه الموغل في الإنجازات والانهيارات على حد سواء..

٭ ٭ ٭

ارتقى منصة الإعدام، بعد أن اختار الهيئة التي يواجه بها لحظة الموت كما يريد، فبدلاً من ملابس السجن المعتادة، في مثل هذه اللحظات، ارتدى معطفاً أسود، وابتسامة خفيفة مشوبة بشيء من الغموض أو السخرية، وهو ينظر في وجه الرجل المكلف بتنفيذ عملية الشنق. كان الحبل الذي تم اختياره غليظاً وخشناً، وكانت عملية التنفيذ على درجة واضحة من الارتباك والعجلة. حين ارتقى المنصة، بدا وكأنه يصعد من أنقاض بلد مهدم، غير أن قدراً من الصلابة، أو التماسك الشخصيّ ما يزال واضحاً للعيان، حتى وهو مثقل بالقيود والاتهامات.
سألني، وهو يقرأ اسمي، عن الموطن الأصلي للعائلة: «العمارة، الحلة، أم النجف؟» عجبتُ من معلوماته التي تتصل بالقبائل والعوائل العراقية ومناطق سكناها. وما أثار استغرابي أيضاً، أنه لا يُخدع بالبلاغة التي تطفو على السطوح. التفتَ اليَّ وقال بنبرة صارمة: «إن هذا الرجل» ويعني الضابط الكبير الذي هددني بصلته العائلية بالرئيس، «لا يعرف من القيادة أحداً». ثم أردف، وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح أمامه: «ستستمر أنت في سكنى البيت الحالي وبإيجاره الراهن حتى تتركه بمحض إرادتك». ثم دوّن هذه العبارة بخط أحمر، مختومة بتوقيعه. وفعلاً تركت البيت، وبمحض إرادتي، بعد أربع سنوات أو خمس حين سافرت إلى بريطانيا لإكمال دراستي العليا.
في تلك اللحظة التفتُّ ناحيته، كان ما يزال منشغلاً بكتابة هامشه الذي لا أنساه. ومع التفاتتي رفع رأسه فجأة كمن فوجئ بنظرتي إليه، كأنه أحس بارتباك حركة الهواء المحيط به، كان شديد الحذر، لكنه شديد التعاطف أيضاً. شعرت لحظتها بالخوف على قصيدتي منه. خشيت أن تضيق المسافة بينها وبينه، أو بيني وبين هذا الإنسان الجبار الذي ينتصر لقضيتي، في هذه اللحظة، بطريقة لم تخطر لي على بال.
بعد يومين، وفي ساعات الصباح الأولى تماماً، رنّ جرس الهاتف في غرفتي في المجلة. كان معي على الخط مكتب مدير العلاقات في دائرة الأمن العامة، بعد أقل من ساعة كنت في الزمان والمكان المحددين. كان الضابط الكبير المتقاعد قد سبقني إلى هناك. في وضع مرتبك، وهو يقف أمام ضابط شاب حاد الملامح واللغة معا:
سأعتبر مرورك في الشارع أو المنطقة تهديداً لحياة الأستاذ علي.
قال ضابط الأمن الشاب عبارته تلك بنبرة شديدة الانحياز إلى قضيتي. لم تصدر عن الضابط الكبير المتقاعد ردة فعل غير ما بدا عليه من العجز وقلة الحيلة. واضح أن ضابط الأمن كان يتحدث بقوة السيد النائب، وسلطته الماحقة، ولم يكن أمام الضابط الكبير سوى الاستسلام المطلق لتلك السلطة وتداعياتها الخطيرة .
أخذتني الدهشة تماماً. أيّ قوة هذه؟ جملةٌ واحدة، يكتبها الحاكم القوي، فتنتشر، كالنار، في المفاصل السرية للحكومة، ويتم العمل بها من قِبَـل الأجهزة المعنية في منتهى الصرامة، خلال أربع وعشرين ساعة أو أقل ربما.

٭ ٭ ٭

وقبل أن يكمل ترديد الشهادة الثانية، هوى جسد الرئيس الوسيم والحاكم المطلق إلى الهوة المظلمة، وانزلق معه، منذ تلك اللحظة، بلد بأكمله إلى هاوية التفكك، والفوضى، والجهل، والرشوة، واندلعت حقبة سوداء من الفتن والتخلف لم يشهد لها التاريخ مثيلاً. غير أنني كنت في خضمّ حوارٍ لا يرحم، يمتدُّ صاعداً من أقاصي تخوم الحيرة وقرارات التهلكة، ومن صميم لحظةٍ تخلى فيها التاريخ عن حكمته، ليستجيب لنداء الغريزة التي لن يخمد لهيبها إلى قرون مقبلة ربما :
هكـذا عدتَ وحدك..
لا مركباتُ الغنائمِ لا مطرُ العازفينَ..
فأينَ خيولُ الفجيعةِ، أو عشبةُ الوهـمِ
أين هي العربةْ؟
هل حملتَ إلينا الندى؟
أم نشيداً من القشِّ، والجثَثِ المتربةْ؟
هل حملتَ البيارقَ، أم أنهراً خَـرِبـَةْ؟

٭ ٭ ٭

في لندن عام 2009، وفي أمسية شعرية أقامها منتدى الكوفة، وقدمني فيها الشاعر الصديق فوزي كريم، سألني أحد الحاضرين، وهو شاعر، كما كان يبدو من لغته، عن تصوري لما جرى ويجري منذ 2003. لم يكن ما جرى في بغداد تغييراً لنظام مستبد. هكذا أجبته. ثمة آلةٌ كونيةٌ شديدة اللؤم اقتلعت البلد كله، وزرعت، بدلاً عنه، غابة من غرائز الانحطاط والعودة إلى ماضٍ غاطس في آبار الدم.
كان في سؤال الشاعر الكثير من المرارة، وفي إجابتي مرارة أشد. في صوته مرارة العراقيّ المنفيّ عن بلدٍ لم ير منه إلا ما تقدمه له الذاكرة. وكان لي لغتي المرضوضة تحت فداحة اليوميّ، وتراجيديا الخبرة التي تكرر نفسها على مدى عقود وأجيال. كان لنا، نحن الذين بقينا في الداخل، القليل من الوطن، والكثير من الحرمان والخوف والهلاك. كان يصدر، أو كأنه يفعل ذلك، عن فكرة جاهزة عن نظم شمولية لم يعشها. يلعنها وهو في ذروة استرخائه في فضاءات المتع التي هي، بالنسبة للعراقيّ البعيد، بهجة محرمة، لا يمتلك حتى حرية تخيلها. كان في متناوله، كاتباً وإنساناً، كل ما حُرّم على العراقيّ، بصفتيه هاتين أيضاً، من متع سائبة، وأخرى عالية القيمة، من ممكنات هي طوع حواسه، وفي متناول لغته وتشهياته: متعة البار، وبهجة البصر، وفتنة السرير، والوجبة المشتهاة، ونعمة الأمان، والشيخوخة الكريمة. كل ذلك وكثير غيره: حرية الحلم، والعيش والموت، والسفر، والخيار في تفاصيل الحياة ومفاصلها الكثيرة. وكان له ذلك الممكن الجميل: القصيدة حين يتلقاها القارئ، حرة، ومتاحة للنشر والترحل عبر الأمكنة والأزمنة واللغات.

٭ ٭ ٭

في تلك الفترة العصيبة التي تلت 2003 تحول البلد كله من كون إلى كون آخر، في تضاد صارخ بينهما لا يصدق: من بلد عاشَ فائض القوة حد التخمة، إلى كيانٍ مهلهل كالخرقة. يأكل ذاته، وتستبيح مكوناته بعضها بعضا. صار الاستثناء والطارئ والشاذ ثقافة تحكم الناس وتشكل معايير سلوكهم: سرقة المال العام، وانتهاك قيم الفضيلة في السلوك السوي. وطن أعزل في عراء وحشي، صارخ. ترى الظلم ولا تملك له رداً. ليس أمامك إلا أن تحتج، في السر، وأنت رهين عجزك وإحساسك بالامتهان.

هذا النص من السيرة الذاتية للشاعر علي جعفر العلاق التي ستصدر قريبا في عمان وعنوانها: إلى أين أيتها القصيدة؟

شاعر عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد شهاب احمد:

    عندما يضطرّ أو يلجأ المواطن بمحض إرادته للسلطان للحصول على حقٍ ما ، و ليس القضاء فذلك بداية النهاية ، مهما بعدت

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      صدقت

    2. يقول محمد شهاب احمد:

      و أنت الصادق أخي الفاضل

  2. يقول محمد شهاب احمد:

    بحكم عملي جمعني مكان واحد مع صدام حسين مرّتين أو ثلاث .
    المرة الأولى خريف عام ١٩٧٨ حيث كنت الطبيب الحافر في مستشفى إبن سينا و جِيء بولده عدي مصاب بإلتهاب الزائدة الدودية .
    وقع نظري على شخص كان لوحده يدخّن السيجار الدي حجب جزء من وجه. بعد لحظات أدركت من الرجل .
    كان لوحده
    قد أكتب تفاصيل أكثر عن ذلك يوم آخر
    لكن وقتها بمزيج من عدم حكمة الشباب و طيشه لم أتوجه للسلام عليه و منعت نفسي من عرض الغبن الذي وقع علي عند إستثنائي من الإنظمام لهيئة التدريس بعد تخرجي بتفوق من كلية طب البصرة عام ١٩٧٦
    بدلاً من ذلك تسائلت هل له الحق في تدخين السيجار الكوبي؟!
    رحمه الله كان قائد الرجال لكن نقصته البصيرة الكافية

  3. يقول حيدر المحسن (حيدر عبد المحسن):

    حيّ القادسية لا يسكنه في بغداد غير الوزراء وكبار التجّار والضبّاط في الجيش، فمن أين لشابّ ينحدر من أصل ريفيّ ووظيفته معلّم أن يسكن في بيت من بيوت الحيّ العامرة والفارهة، ، حيث يؤدي انحدار العملة بمرور الزمن وتغيّر الحال إلى أن يكون ثمن الإيجار لا يعادل سعر علبة سجائر، وللحديث بقيّة عديدة…

  4. يقول قاسم سعد - باريس:

    العبودية صفة من الصعوبة يتخلص منها المستعبد حتى بعد وفاة الطاغية. هؤلاء كتبوا وطبلوا ومدحوا طاغيتهم ورقصوا على جثث الضحايا.

اشترك في قائمتنا البريدية