من باريس إلى لندن: فقاعات الرأسمالية التي تتفجر

حجم الخط
5

ملايين في ساحات باريس، ومئات الآلاف في شوارع لندن، هذه الأيام؛ وقبلها، خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة، في عواصم ألمانيا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا والنمسا وكبرى المدن والمراكز الصناعية فيها، وفي سواها؛ والمحتوى المشترك في خلفيات الاحتجاج، الموحّد أيضاً على نحو أو آخر، هو غلاء المعيشة مقابل تدني الأجور، والسياسات الاقتصادية التي تكرّس التضخم والبطالة وانحطاط الخدمات العامة. أما المحتوى المباشر، المعلَن الراهن في فرنسا على الأقلّ، فهو تمويل صناديق التقاعد تحت حزمة أسئلة مثل هذه: كيف نسدّ عجزاً سنوياً بقيمة 33 مليار يورو؟ وإذا استبعدنا فرض ضرائب جديدة لتغذية الصناديق، فهل نرفع سنّ التقاعد إلى 64 (حيث يرتفع إلى 65 في معظم الأنظمة الرأسمالية الأوروبية)؟ أم نكسر بعض محظورات تقاليد التأمين الاجتماعي الفرنسية العريقة، فنلجأ أكثر فأكثر إلى القطاع الخاصّ بأنظمته الاستثمارية الاستغلالية؟ وإذا كان غالبية رؤساء فرنسا خلال الجمهورية الخامسة (1958 -) قد حاولوا إصلاح ملفّ التقاعد، فتملصوا أو تراجعوا؛ فهل يفعلها الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون بوصفه ربيب ليبرالية صيرفية تلعب على حبال اليمين واليسار والوسط، ولم يعد لديه ما يخسره أصلاً لأنه حاز ولاية ثانية ذات طابع تاريخي واختراقي في جوانب عديدة، ولا يجوز له الترشيح للمرّة الثالثة؟
صحيح أنّ الإضراب أحد الأسلحة الماضية التي يمكن للتنظيمات النقابية أن تشهرها في وجه السلطات الرأسمالية الحاكمة، في الديمقراطيات الأوروبية بصفة خاصة، وقد كانت سابقة الإضراب الفرنسي الشهير سنة 1995 قد أجبرت الرئيس الفرنسي جاك شيراك ورئيس وزرائه آلان جوبيه على التراجع عن مشاريع وتعديلات وقوانين مماثلة؛ إلا أنّ الصحيح، في المقابل، هو أنه سلاح مؤقت محفوف بالمخاطر، وهو أيضاً ذو حدّين في أفضل تطبيقاته الحديثة والمعاصرة. على سبيل المثال، إذا كانت ثماني منظمات نقابية فرنسية قد توافقت على مواجهة تعديلات سنّ التقاعد، التي ينوي ماكرون تمريرها في الجمعية الوطنية وسنّها كقانون، ونجحت في إخراج 1,27 مليون متظاهر في شوارع فرنسا؛ فهل هي على الاتفاق ذاته، بصدد المضيّ أبعد، وأطول، في أشكال الضغط على الحكومة؟ كلا، بالطبع، لأسباب ليست بعيدة كثيراً عن واحدة من معضلات النظم الديمقراطية الأوروبية؛ لأنّ «الكونفدرالية العامة للشغل» الأعرق التي يعود تأسيسها إلى سنة 1895 والأشدّ توجهاً نحو اليسار والفعل الراديكالي، تقترح التصعيد في منشآت تشلّ قطاعات المصافي والطاقة والمواصلات؛ بينما تساجل «الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للشغل» الثانية من حيث أعداد المنتسبين والأكثر اعتدالاً وميلاً إلى المقاربة الإدارية، بأنّ الإضراب في تلك القطاعات سوف يعطّل إيقاع الحياة اليومية لملايين الفرنسيين ويُفقد حركة الإضراب بعض التأييد الشعبي، وربما الكثير منه.
من جانبها، لن تقف إدارة ماكرون مكتوفة الأيدي إزاء استمرار أعمال الاحتجاج والإضرابات، وثمة مستويات تكتيكية عديدة يمكن أن تلجأ إليها؛ من داخل، وفي صميم، القوانين ذاتها التي تحكم الحريات الدستورية للنقابات وهوامش تحرّك السلطات. هنالك خيار أوّل يتمثل في تقديم تنازلات هنا أو هناك، سواء لشرائح عمل معيّنة ودون سواها، أو لقطاعات سوسيولوجية وديمغرافية تخصّ النساء مثلاً؛ وهنالك خيار تحويل هذه التعديلات إلى منصات اختلاف وشقاق داخل كُتل الجمعية الوطنية، بين برلماني يساري متشدد وآخر معتدل، وبين يميني جمهوري وآخر عنصري، بالإضافة إلى شقّ صفوف النقابات استطراداً.

وتلك فقاعات لا تتفجر مجموعة منها حتى تُخلي الساحات والشوارع لفقاعات أخرى، وهكذا؛ على منوال يعيد التذكير بنبوءة كارل ماركس حول رأسمالية لا تكفّ عن مراكمة التفاوت بين رأس المال والعمل، فلا تتوقف تالياً عن… إنتاج حفّار قبرها.

وأمّا في خيار ثالث يوفّره دستور الجمهورية الخامسة ذاته، ففي وسع الحكومة أن تلجأ إلى المادة 49,3 التي تتيح تمرير بعض التشريعات من دون المرور بالتصويت المعتاد، أو إلى المادّة الأخرى 47.1 (التي لا عجب في أنّ لقبها هو «المقصلة»!) نادرة الاستخدام، تختصر مناقشة التشريعات إلى 20 يوماً فقط. وليس خافياً أنّ الرساميل والشركات الصناعية الكبرى وأرباب القطاع الخاص وأصحاب مليارات الاستثمار الراهن أو المحتمل في قطاع التأمين والتقاعد، هم أشرس مساندي خطط ماكرون وحكومته، ونفوذهم في قلب الجمعية الوطنية يتعدى الصداقة مع هذا النائب أو تلك الكتلة البرلمانية.
ولأنّ مشكلات/ أزمات/ استعصاءات، مثل هذه التي تشهدها ساحات الرأسمالية الأوروبية المعاصرة، تتكدس تباعاً وتتفاقم باضطراد، وعلى مبدأ متصاعد؛ فإنها أقرب إلى فقاعات تواصل الانتفاخ حتى تبلغ درجة الانفجار، وتسجيل معدّلات أعلى فأعلى من السخط والاحتجاج، ثمّ الفاقة والإدقاع المريع مقابل التخمة والإثراء الفاحش. وإذْ كان شاهد من أهلها قد شهد ذات يوم، بلسان الملياردير الأمريكي وارن بافيت، الذي اعتبر أنّ هذا الطراز من الانفجارات تليق به تسمية «أسلحة التدمير المالي الشامل»؛ فإنّ شهوداً آخرين تعاقبوا على توصيف الحال من قلب شبكات التسليم بأقداره الكاسحة المدمّرة، والعجز بالتالي عن اقتراح الحلول العلاجية، فكيف أصلاً بتطبيقها على الأرض إذا اعتُمدت حكومياً أصلاً. بعض البريطانيين، الذين صوّتوا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بنسبة 51,9٪، حصون اليوم خسائرهم ابتداء من الجيوب والمحافظ، مروراً بالحسابات المصرفية وفواتير الطاقة والرهن العقاري ونفقات البقالية، وليس انتهاء بالتأمين الصحي؛ في مناخ (حسب المصرف المركزي البريطاني) من ركود متسارع ضاغط، بات يدفع غلاة من دعاة «بريكست» السابقين إلى الاستنجاد بما يسمونه «النموذج السويسري» في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي: رضوخ من دون انخراط، وتبعية من دون انضمام !
أكبر الأوهام، وأعلاها زيفاً وخداعاً وباطلاً هو التذرّع بالاجتياح الروسي في أوكرانيا، وانفلات أسعار الطاقة والأغذية، لأنه إذا كانت الحرب على جبهات الاقتصاد مستعرة حقاً، ضارية إلى أقصى السلوك الهمجي، فإنها تدور فعلياً بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من جانب أوّل، وبين روسيا والصين على الجانب المقابل. ودلائلها الأوضح، لأنه يصعب تمويهها، بادية في مؤشرات التضخم المذهلة وتخبّط البنوك المركزية لدى الأقطاب الرأسمالية الكبرى في اللجوء إلى علاج التدمير الذاتي عن طريق رفع معدلات الفوائد. وليس من دون دلالة منطقية صاعقة، لأنها أقرب إلى خلاصات رياضية خارجة مباشرة من مخابر الاقتصاد، أنّ عجز حكومة ريشي سوناك عن تعديل الأجور في بريطانيا مرتبط أيضاً بالعلاقة الطردية مع انفلات التضخم إلى مستويات قياسية؛ في غمرة انزلاق ارتدادي هستيري نحو حلول مارغريت ثاتشر وأزمنة أخرى غابرة من المال وراس المال واقتصاد السوق.
على المنوال ذاته، افتُضحت واحدة تلو الأخرى أكاذيب التمويه حول أزمات الرأسمالية المعاصرة خلال الـ 20 سنة الأخيرة فقط: تلك المعروفة باسم dot.com crisis في ربيع 2000، حين تفجرت فقاعة مؤشر ناسداك بنسبة 400٪ دفعة واحدة؛ وأزمة الرهونات العقارية في الولايات المتحدة، ثمّ العالم طولاً وعرضاً، سنة 2008؛ وأخيراً، وليس آخراً أغلب الظنّ، أزمة كوفيد ـ 19. ومن المسلّم به أن إمبراطورية الولايات المتحدة، على أصعدة الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والمالية والتكنولوجية المختلفة، أخذت تواجه منافسة مضطردة من الصين، وقليلاً بعض الشيء من كتلة الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يحيل الصراعات إلى ملفات أخرى غير التنافس الجيو ـ سياسي والصناعي؛ أي إلى ملفات الداخل، حيث مشكلات رأس المال تتقاطع أكثر فأكثر مع المعضلات الاجتماعية ومشكلات التعاقد بين الحاكم والمحكوم، والحقوق المدنية، وظواهر التطرف والتشنج القومي والانعزالية والعنصرية…
وتلك، وسواها كثير، فقاعات لا تتفجر مجموعة منها حتى تُخلي الساحات والشوارع لفقاعات أخرى، وهكذا؛ على منوال يعيد التذكير بنبوءة كارل ماركس حول رأسمالية لا تكفّ عن مراكمة التفاوت بين رأس المال والعمل، فلا تتوقف تالياً عن… إنتاج حفّار قبرها.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول باقر العسفة العتفة:

    [وتلك، وسواها كثير، فقاعات لا تتفجر حتى تُخلي المكان لفقاعات أخرى، وهكذا على منوال يعيد التذكير بنبوءة كارل ماركس حول رأسمالية لا تكفّ عن مراكمة التفاوت بين رأس المال والعمل، فلا تتوقف تالياً عن… إنتاج حفّار قبرها] انتهى المقتبس
    عزيزي أبا صُبَيْحٍ، هذا الكلام قد تكرَّر كثيرا وفي مواضع شتى، الكلام بأن الرأسمالية لم تفتأ تحفر قبرها – ولكن السؤال الأهمَّ الأهمَّ، في هذه القرينة، والذي لم يتطرَّق أحد إلى حتى التفكير في الجواب النجيع عليه حتى هذه اللحظة إنما يخصُّ شكل الواقع المستقبلي بعد كل هذا النوع من التنظير التنبُّئي، هذا السؤال الأهمَّ يمكن وضعه ها هنا على النحو التالي: وماذا، بعد أن تنتهي الرأسمالية من حفر قبرها فعلا، وماذا بعد أن تتم مراسيم الدفن والتأبين وما إلى ذلك، هل سيؤول المجتمع البشري إلى النظام الاشتراكي الحق حقا أم إلى النظام المشاعي البدائي !

    1. يقول سمر البعلبكي - بيروت الجريحة:

      براڤو أستاذ باقر العسفة العتفة
      ملاحظات ذكية وألمعية استفدت منها كتير
      منن يقول المهم المكاسب ومابيدري انه هذا هو مبدأ الرأسمالية الأول
      لسا تعيش وتشوف

  2. يقول عبد الله العقبة:

    الاستاذ الفاضل ابن الشام المحترم : الاقتصاد اليوم في العالم خليط من الخاص والعام ومن الاشتراكي والرأسمالية..كل دولة تسعى لتعزيز إمكاناتها بكل الطرق ولا يهمها التسمية اشتراكية أو رأسمالية.السوق الاقتصادية الان أشبه بالبرياني لكل الاذواق.المهم المكاسب.

  3. يقول هيثم:

    تحليل نقدي متميز للأوضاع الدوليةالعامة الحالية من خلال مشكلات / أزمات / استعصاءات البلدان الرأسمالية الأوروبية بالأساس مع كامل التنويه بالتحليل الذي قدمه الكاتب حول الأزمة الاجتماعية في فرنسا حول مشكل التقاعد وتباين مواقف النقابات و الأحزاب و المؤسسات المالية والبنوك و اتحادات أرباب العمل و هو التحليل الذي يبرز الاطلاع الواسع والدقيق لمعطيات الوضع السياسي في فرنسا. تعودنا على هذه المقالات المتميزة للأستاذ صبحي. لكني أختلف معه في ما ورد آخر المقال حول نبوءة ماركس عن الرأسمالية التي تحفر قبرها…. رأينا النماذج المختلفة من تطبيق الشيوعية : الاتحاد السوفياتي و الصين و كوبا و يوغسلافيا ورومانيا و كوريا الشمالية… نماذج فشلت جميعها في إسعاد البشر حسب تعبير ماركس. حبذا لو توصل البشر إلى أنسنة الرأسمالية… و أكيد أن ذلك من ضرب الخيال و المحال. ومع ذلك يشكر الأستاذ صبحي على المعلومات القيمة والتحليل المتميز.

  4. يقول تاريخ حروب الغرب وأتباعهم:

    في ألمانيا سن التقاعد 67 وأعرف وسمعت عن عمال أتراك وأجانب وألمان خلال سنين دراستي وعملي هناك قد ماتوا أول يوم أو أسبوع، أو بعد سنة من بدء التقاعد، طبعا من يتجاوز 67 عمل في بعد عمل 8 ساعات +45 دقيقة استراحة إفطار وغداء + ساعة على الأقل سفر للعمل وعودة منه (9 ساعات) في مصانع المانيا قد لا يعمر الى اكثر من75 وإن حصل ذلك، فلن تعينه أعصابه وما تبقى من أسنان وحواس ضعيفة على تنفس الصعداء وتجهيز المنضدة أو الشرفة أو الساحل للتمتع بالحياة أخيرا! إجمالا (بعض) مؤسسات التقاعد في بلاد كثيرة وصناديق تقاعد وادخار شركات كونية تماطل الشخص قبل دفع المستحقات! ويطلب منه ان كان في بلاده أن يأتيهم سنويا بأطنان من الوثائق الثبوتية والتواقيع والأختام من البنك والبوليس والأحوال والسفارة وكاتب العدل والمترجم ليثبت أنه حي يرزق! وإذا أراد سحب أتعابه تخضع لاقتطاعات ويتم حرمانه مما تدفعه له شركات العمل طوال سنين العمل!

اشترك في قائمتنا البريدية