تراهن روايات الكاتب الأديب المغربي محمد الأشعري على إضاءة قضايا الحاضر المتخم بالتحولات والتغيرات، المثخن بكثرة التقلبات والاهتزازات. كما تميط اللثام، بطريقتها الخاصة، عما تفرزه تحولات هذا الحاضر وتقلباته من اختلالات اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية ونفسية، إذ ترسم مصائر شخصيات تجسد، بطرق نموذجية مختلفة، هذه التحولات والتقلبات، والانتقالات والنتائج، بما يسمها من تفاصيل واصفة لواقع المجتمع والسلطة. وتقدم صورا وتمثيلات وأفكارا ومواقف عن حقبة المغرب المعاصرة، بصراعاتها وصخبها وعنفها. في هذا السياق، لا تحيد رواية الأشعري الأخيرة، الموسومة بـ»من خشب وطين» عن هذا الرهان الأدبي والجمالي، كونها تبلور تصورا آخر ضمن مسعاه الدؤوب إلى تطوير الكتابة الروائية وتجديد انشغالاتها الشكلية والمضمونية.
يقوم هذا التصور على التفكير – روائيا بالطبع- في ملمحين ملحّين في راهن الإنسان المغربي هما: الحداثة وقضية البيئة. يتمظهر الملمح الأول، في هذه الرواية، من خلال اختيار إبراهيم، بطل الرواية، التخلي عن نمط الحياة الجماعية وترك مدينته ووظيفته في البنك، واللجوء للعيش إلى جوار غابة المعمورة، بعد تطليق زوجته. أما الملمح الثاني، فيتجلى من خلال عنايته بالنحل، بوصفها هواية شخصية من شأنها أن تشغل نصيبا مهما من وقته وتحقق أغراضا أخرى.
لنركز على الملمح الأول، ولنتساءل: ما أوجه الحداثة التي تعبر عنها شخصيات «من خشب وطين» وأحداثها؟ ثمة أولا الفردانية التي يشي بها حدث اللجوء إلى الغابة واختيار العيش في عزلة، بعيدا عن صخب المدينة ومتاهات الزواج والعمل. أضحى هذا الاختيار يمثل معركة حياتية، إذ يقول إبراهيم لصديقه سليمان: «بعد سنوات من تمجيد الثورة والانتفاضة الشعبية، نلوذ أخيرا بحل صغير فرد، لا يتجاوز رتوشات باهتة على حياة صغيرة». لا يعكس هذا الاختيار الفردي، الذي اختاره بطل الرواية، قيمته الأخلاقية فحسب، ولا تحقيق حريته في الفعل وتحرره من رقابة الدولة والمجتمع، بل يبني أيضا رؤية خاصة إلى هذه القيمة والحرية، قوامها ترتيب اقتصادي يحقق استقلاليته عن النظام الرأسمالي الراهن، إلا أن رغبة إبراهيم في تحقيق حلمه بالفردانية يصطدم بموقف جهة ما، ترى في هذا النزوع الفرداني «خللا أصليا». هكذا، يكون خلاص إبراهيم من اعتقاله الملغز هو تصحيح هذا الخلل. يقول كبير المحققين لإبراهيم: «هناك خلل أصلي. لا بد من تصحيحه. انتقالك من البنك إلى النحل يجب أن ينتهي. سترجع إلى البنك، وإلى زوجتك السابقة، وإلى مسكنك القديم. لقد رتبنا كل شيء. انس صناديق النحل، والقعدة الوحشية تحت شجرة البلوط.. انس البيت الذي من خشب وطين، انس تلك الحياة التي من خشب وطين، وانس أنك كنت عندنا. أنت منذ الآن قد رجعت إلى ما قبل الخلل».
ويتجلى وجه الحداثة الثاني في الموقف من التقاليد، تعكس الرواية السمة السجالية التي يتخذها هذا الموقف في النقاش العمومي اليوم، خاصة ما يتصل منه بالتقاطب بين التحديث والتقليد، بين الأصول الثابتة والتغيرات النسبية، بين السلالة والقبيلة والولاءات والزوايا والطقوسية العمياء وبين الفرد والدولة والمواطنة والديمقراطية والحرية والحق… هنا نجد السارد يقول، إن سليمان، صديق إبراهيم، «يعتقد جازما أن انتكاسة التحديث لا تؤدي فقط إلى العجز عن العبور إلى الضفة الأخرى، بل تؤدي إلى العودة المأساوية قرونا إلى الوراء».
محمد الأشعري
ويتمظهر وجه الحداثة الثالث كاحتمال من احتمالات حسم هذا التقاطب. والمقصود هنا إنشاء دولة حديثة تنبذ البنيات التقليدية، وتقيم دولة الحقوق والقوانين والحريات. يبوح سليمان لصديقه إبراهيم بما يشبه الحلم السري قائلا: «لو فقط يقتطعون لنا هذا المربع من غابة المعمورة، لننشئ على ترابه دولة الكائن المضطرب، دولة بلا قبائل ولا زوايا، بلا أشراف ولا عوام، ولا أولياء صالحين، دولة لا أصل فيها ولا فصل ولا نسب ولا أسماء». وعلى النحو ذاته، تتخذ الدولة المنشودة، حسب إبراهيم، صورة «دوار الضبابة» ذلك الحي الذي شهد شغبه وشغفه الطفولي، إذ يقول إن «البراريك، في نهاية المطاف، هي أفضل شكل للدولة الحديثة، تذوب الهجرات، وتدمج المتناقضات، وتقتل القبيلة أو تخدّرها على الأقل».
وتطرح الرواية الملمح الثاني بوصفه سؤالا حارقا في فكر ما بعد الحداثة. أقصد سؤال البيئة. وهنا جدة الرواية بامتياز. يمكن القول إن غائية الرواية تتمثل، بوضوح، في مناقشة العلاقات القائمة بين البشر والكائنات الحية. بعبارة أخرى، تسائل الرواية علاقة الإنسان المغربي بالأرض والنبات والحيوان، بالمجال عموما. تتبدى هذه المساءلة منذ الصفحات الأولى للرواية، حينما يجد إبراهيم نفسه محرجا، وهو يعرض قنفذا جريحا، عثر عليه في جوار غابة المعمورة، على بياطرة الرباط قصد علاجه. ولولا وجود بيطرية فرنسية تحمل قناعات مغايرة، لما بادر أحد إلى معالجة «ضحية لا يعترف أحد بحاجتها إلى الإنقاذ».
تكاد المسألة البيئية تخترق الرواية كلها. ثمة حضور بارز لثلاثة كائنات حية هي القنافذ، والنحل، والغابة بكل مكوناتها النباتية. تبرزها الرواية كذرائع لإعادة هيكلة حياة الإنسان وحفظ التوازن الطبيعي والمجالي.
تكاد المسألة البيئية تخترق الرواية كلها. ثمة حضور بارز لثلاثة كائنات حية هي القنافذ، والنحل، والغابة بكل مكوناتها النباتية. تبرزها الرواية كذرائع لإعادة هيكلة حياة الإنسان وحفظ التوازن الطبيعي والمجالي. يعترف إبراهيم بأن «حياته تغيرت رأسا على عقب، بسبب كائن، لم يكن أبدا في الحسبان» والمقصود هنا القنفذ «ينسي» و»بسبب كائنات غير متوقعة هي النحل الذي صار عشيرته وبيته وبؤرة حياته التي لا يحتاج إلى شيء خارج مملكتها العظيمة». يتخذ هذا الحضور طابعا تحريريا للذات الإنسانية «من التدخلات العشوائية لبني آدم» طابعا يرسم توافقات ومواصفات جديدة، قوامها الروح الطبيعية والفطرة الصافية. وفي حالة اختلال هذا الحضور أو غيابه، يختل الوجود، إذ ينذر انقراض النحل باختلال التوازن الطبيعي، وببروز ظواهر بيئية غريبة تبعث على القلق بسبب التحول الذي يطرأ على الغابة بتناقص كثافتها النباتية، أو من التحول المفاجئ لصنف القنافذ إلى كائنات طائرة مخيفة. هنا، يمكن القول إن الصورة الغرائبية التي تضفيها الرواية على تحول القنافذ، تشي بخطورة التغير المناخي الراهن. وعلى النحو ذاته، تفيد الصورة الكافكاوية، التي يتخذها تحول إبراهيم إلى نحلة في النهاية، أن الرواية تدعونا إلى تغيير علاقة استغلال الإنسان للمجال المحيط به، إذ بدل أن تكون الأرض في خدمة الإنسان، وجب أن يصير هذا الأخير هو من يخدم الأرض، أن ينصهر فيها، مثلما فعل إبراهيم في نهاية الرواية.
ختاما، تسائل رواية «من خشب وطين» بطرحها ملمحي الحداثة والمسألة البيئية، تحولات الراهنة للوجود الإنساني. يبدو أن الأشعري، بتركيزه أساسا على هذين الملمحين، يشاطر الهموم ما بعد الحداثية التي تكثف تسليط الضوء على الجسد والذات من جهة، وعلى الكينونة والبيئة من جهة ثانية، بما هي هموم معاصرة. فالتركيز على هذين الملمحين يستجيب أكثر لمطلب التشكيك في اليقينيات التي رسخها التقليد، بوصفها معاني ونظما ثابتة تأبى التغير أو التحول، وحتى في الثنائيات المتضادة التي أقامها هذا التقليد ذاته، بوصفها قوالب وكتلا جاهزة تسمح بتصنيف أي شيء. مثلما يشي هذا التركيز بمحاولة التغيير، أو إدخال فكرة النسبية، على الأقل، على النمط الحياتي السائد والمهيمن، وهي الفكرة التي قادت بطل الرواية إلى الاعتقال، لأن هذا التقليد يرفض من يخرج عن جماعته وإجماعه.
كاتب مغربي