■ للكاتب أحمد عبد اللطيف دوما مدينة خاصة. مدينة على وشك السقوط ونلحق بها نحن القراء، في محطتها الأخيرة. تبدو بذلك الوضوح في أولى رواياته «صانع المفاتيح»، المدينة التي تنتهي عند البحر. يطلعنا أحمد على اختفاء طالع النخلة، رائحة البلح والطين والهواء النقي. ثم يغوص في أعماق المدينة أكثر، حين يسقط في بلاعة. يقول في «كتاب النحات»: «المرة الوحيدة التي نظرت فيها إلى السماء، سقطت في البالوعة». ليجد هناك انعكاسا لكل أبناء مدينة النحات، مدينة سفلية يتحرك فيها البشر بلا نبض لكنهم يبدون أحياء. لا ينظرون ولا يشعرون بأي شيء. هياكل بشرية عارية مغطاة بالطين، تعيش في عالم سفلي كانعكاس لواقع فاسد. ثم تختلط مدنه بالدمار والدماء الأحمر القاني اللزج. المدينة التي تسقط في حصن التراب ونرى السقوط التدريجي، السقوط الحتمي. أقدام تغرس، أقدام تتوارى في أرض متحركة. أرض متحركة وتبدو ثابتة تبتلع من يعتليها، تبتلع بحسم، من يعتليها. ونرى كقراء سلبيين اختفاء الأجساد.
تتجسد المدينة في روايته الأخيرة «سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج» بشكل أوضح. مملكة ممتدة عبر الأزمنة. متحررة من المكان الجغرافي والحدودي. مدينة ككل المدن، تحدها جبال وهضاب وفيها بحيرات، يوجد بحر قريب، ربما لا تطل عليه، لكن يمكننا نحن أن نتخيل تلك الإطلالة. أسفلها قبو يعيش فيه التاريخ السري للمدينة. تاريخ القمع والفساد والرعب. مدن عبد اللطيف ليست مدنا نعيش فيها. إنها تلك المدن التي نعبر خلالها، المدن التي تعيش زماننا. مدن تسير بمحاذاة الزمان والمكان، سفلية مثل عالم الطبيب السري في المستشفى الخاص به، وعالم صاحب الفندق الذي يمارس طقوسه وراء جدرانه المرتفعة. البالوعة الدموية المليئة بالأشباه، والجزيرة التي تسير بها حياة تماثيل في محاكاة للحياة الحقيقية، رغم رجائه أن تتغير المصائر. وهي التاريخ الشعبي لسقوط غرناطة، للدمار الذي لحق بكل شيء حتى طال التماثيل في الميادين العامة. التماثيل التي تتكون مرة أخرى بعد ملحمة النحات في «حصن التراب»: «قالت أمي سنستحيل أحجارا. سنستحيل بعد نصف ساعة من الآن. قال أبي إذن يجب أن نستعد». هذه الأحجار التي ستصبح تماثيل تزين الميادين في ما بعد. ثم يحولها لقوالب شمعية في السيقان: «في المملكة تحول الحراس والجنود جميعًا إلى تماثيل شمعية. تماثيل شمعية تتحرك، تسير وتجلس، تنظر وتشرئب بأعناقها، من دون أن تبصر شيئًا».
يبدو عبد اللطيف مهموماً بكل ما هو خلف الواقع. لأن الواقع ليس حقيقياً كما قال أفلاطون: «العالم ليس ما نلمسه بحواسنا، بل هو واقع مشابه للعالم الحقيقي». فما نلمسه بحواسنا ليس مهماً، لذلك، ربما لهذا السبب، فإن كل شخصيات عبد اللطيف مشوهة، تنقصها بعض الحواس. لن تجد شخصية كاملة في أعماله، فالنقصان سر الكمال. الطبيب الذي يحلم بكوابيس أنه بلا أعين، بجبهة متصلة بشكل مباشر بأنفه، وابنه المشوه. صانع المفاتيح الذي يختار الصمم، ويساعد أهل المدينة على غلق آذانهم لأنه لم يعد في استطاعتهم تحمل الواقع. إلياس صاحب الساق الصناعية، ذو الشخصية المنغلقة على نفسها بدون مشاعر. رجل البرميل الأصم وبائعة اليانصيب الخرساء، والرجل ذو القضيب المنتصب عضوه إلى الأبد. عائشة دي مولينا التي يسقط منها ذراعها كل صباح فتستعير ذراعا خشبية. إنهم ناقصون رغم تلمسهم لواقع موازٍ لا يراه البشر الكاملون. واستعارته لعمى وبصيرة بورخيس وطه حسين وأبي العلاء المعري.
تتجسد المدينة في روايته الأخيرة «سيقان تعرف وحدها مواعيد الخروج» بشكل أوضح. مملكة ممتدة عبر الأزمنة. متحررة من المكان الجغرافي والحدودي.
بجانب النقصان يأتي هاجس التدوين. أحمد عبد اللطيف مشغول بالتدوين وحفظ ذاكرة جانبية تسير جنبا إلى جنب ذاكرة الوعي الجمعي. نقرأ عن الشخص الذي يقرر الكتابة عن شيء ما ليحفظه من النسيان، من الانجراف نحو الذوبان. «قال أبي: كل هذه المخطوطات، كلها لك. قال: إنسخ منها نسخا جديدة قبل أن تذوب وتندثر. قال: ورثها لابنك من بعدك». دائماً هناك بيت كأساس في المدينة. ننطلق من بيت أو كوخ على جزيرة أو قصر في مملكة أو حتى شقة صغيرة عرجاء كصاحبها إلياس. أحمد عبد اللطيف يحب البيوت ويسكنها قبل الكتابة عنها. ثم نرى معه المخطوطات، الكراسات القديمة، التدوين الذي يدوم على طول الرواية. الأوراق التي يكتبها بطله أو الأوراق التي تركها الأسلاف. إلياس الغارق في الأرشيف. الأوراق والصحف التي تغطي كل الحجرات ما عدا السرير وكرسي وحيد. حكاية العائلة الموريسكية التي يحمل البطل هم كتابة تاريخها الحقيقي وحفظه من الزوال. ولم يتوقف التدوين عند الأوراق والكراسات، إنما وصل لحفظ التاريخ الشخصي لأبطاله على شرائط الفيديو وعلى شاشات التلفزيون.
دائما يلاحقه هم التدوين لتاريخ سري، لواقع مواز ولثورة منهزمة. ثورة مدينة الدكتور التي تنتهي للاشيء، يقوم بها بشر مستسلمون لأقدارهم حتى تمردهم الوهمي بغلق الحواس ما هو إلا استسلام مستتر لواقعهم. تزداد حدة يأس الثورة في إلياس «ألاحظ المتبولين، المتبولين على جدران المدينة، على جدران أقسام الشرطة، المتبولين على بنايات مجالس المدينة. على بنايات مديريات الأمن، مصلحة الضرائب، بنايات الوزارات. أشاهد المتبولين الذين يحتفلون بالتبول على الدولة. على النظام. لكن لا يتبولون على البلد». بينما العساكر المدججون بالسلاح الذي يطلق الرصاصات التي تستهدف الأعضاء التناسلية للمتبولين.
وتستمر ثنائية السلطة/الثورة على طول حكاياته. «أطهر رأسي. كان ماء الدش ينزل كالرصاص. وأنا هربت في التو من الرصاص. كنت في طريقي لما أطلقوا الرصاص. شكل مطلقي الرصاص. ملابسهم السوداء. ملابسهم المموهة. ملابسهم البيضاء». والمقاصل المعلق فوقها الناس على نواصي الشوارع، الذين تلقوا نهايتهم في صمت. ثم نصل للحظة العنف المباشر من طرف السلطة التي تفقأ عين الشيخ المعارض، وتقطع سيقان أهل المملكة. وتطور الثوار في السيقان «كان الآلاف يخرجون من بيوتهم في هتافات عالية. كان الآلاف ينادون بعبارات ضد السلطان وحراس السلطان. كانت الأمهات الثكالى ينادين بأسماء أبنائهن، وكان الرجال ينادون برفع الظلم. ثم تجمعوا بالآلاف عند الميدان. ثم التفوا حول الهرم الرمادي. ثم واصلوا في الصياح، وعلى حين غرة هاجمهم الحراس والجنود، حذّروهم العودة إلى البيت في دقائق، أو الموت. فاختاروا الموت».
تبدو الثورة هي المحرك الأساسي لأعمال النحات أحمد عبد اللطيف. الصراع الأبدي بين السلطة والرصاص والقمع وبين الشعوب، سواء تمثلت هذه السلطة في أصحاب الأموال أو أصحاب المناصب. وصراعهم مع الأفراد والشعوب في رحلة لأعماق النفس البشرية، لا تقل وهجا عن رحلة دانتي في «الكوميديا الإلهية» أو رحلة المعري في «رسالة الغفران»، لكنها رحلات إلى الداخل. التيه والتساؤلات الوجودية التي طالت البشرية منذ خلقها تتحول إلى كلمات في رأس النحات. نعيش حيرته معه «ما الحقيقة في حياتي الأولى! كيف كان كل شيء محض نتائج لم أعرف من قبل أسبابها! هل كنت عائشا حقا في تلك الحياة؟ أم كنت مجرد عابر؟ خطواتي ثقيلة، ضالة، لا تعرف قبلتها. لا ألوم أحدا، لكنني في الوقت نفسه، لا أجد سببا للحيوات السرية التي تحمل كل هذا الغموض. وماذا أريد؟ أتساءل. فالنفس البشرية أعقد مما ينبغي. إنهم عدد من الأرواح بداخل جسد واحد».
للمرأة مكانها دائما في روايات أحمد، خاصة الأم. دائما يبحث عنها وعن شبيهاتها. إنها امرأة تعيش في كل الأزمنة. تبدو شابة، أو عجوزا. بيضاء سمينة أو نحيلة بشعر «كيرلي» طويل. امرأة تراعيه، تحرص على إرشاده للطريق، تطلق النبوءات التي تساعده وتعطي له عينها، حرفيا، ليكون أكثر بصيرة حيث أنها دائما تبصر ما لا يُرى. خصص أحمد رواية «عالم المندل» بأكملها لامرأة على وشك الزواج، لكنها تجد نفسها بعضو ذكري ليلة زفافها. تختلط الأحلام بالواقع فلا نعرف أن نفرق بينهما أحيانا. لكن المرأة لديه قوية ومتمردة، غير قابلة للخضوع. لها قوانينها الخاصة وحريتها هي ما لا تقبل التنازل عنه.
الفاشلون هؤلاء هم أبطال أحمد عبد اللطيف الذين يدونون التاريخ الحقيقي للأفراد. فالمنهزم فقط هو من يستحق أن نقرأ حكايته.
«أنا النحات وأنت صنيعتي. عجنتك بيدي وشكلتك أصابعي. ثم منحاك حرية وإرادة وانفصلت عني، لأبحث عنك طيلة حياتي، فلا أكتمل إلا بك». حتى إن كانت المرأة صنيعته فإنها تُفعل إرادتها لتبتعد عنه. وفي «عالم المندل» تختار العروس حريتها «رأيت في المنام أن لي عضوا ذكريا، فانتفضت من مكاني. سمعت جرس الباب يدق بإلحاح. لابد أنه خطيبي. ارتديت ملابسي ووقفت في منتصف الغرفة. على يميني باب يؤدي إلى الصالون والسجاد والنجف وزوج ينتظر على الباب، وعلى يساري باب يؤدي إلى الشارع، إلى عالم ربما أتوه فيه، لكنني حتما سأجد نفسي هناك». كانت حريتها هي الأهم، الهروب من أم تنهرها ليلا وراء نهار، ومن زوج محتمل لا تحبه، من موروثات شعبية تحيط بها وتخنقها. حتى إن كانت هذه الحرية بإلقاء نفسها من الشرفة لتطير لأول مرة في حياتها.
لأحمد عبد اللطيف غلالة رقيقة فوق أعماله كإطار خارجي من حلوى غزل البنات، حيث يختلط الحلم بالواقع. فلا نعرف إن كان إلياس في منتصف بحر عاصف، بحر أحمر فيه مركب صغير جدا وقبطان. كل هذا في طبق بلاستيك كبير وأحمر. لكن هناك مرسى وأمواج وسماء وأرض وسمكات تعوم. ولا نعرف هل لعائشة دي مولينا يد خشبية بالفعل أم لا «كنت أصارع من أجل العبور. كنت أصارع ويدفعني المجاورون بقوة. فأتدافع. يدفعونني فأدفع المتقدمين عليّ. وفي لحظة حتمية، ابتلعتني الأرض. وفي لحظة، نظرت نحو نافدتي. ووجدتني أصرخ بصوت مكتوم. وجدتني بذراع خشبية، أشير من أجل النجاة… وفي دقائق معدودة بدأوا يتساقطون. تبتلعهم الأرض. وفي دقائق رأيتني بينهم. رأيتني وأنا أطل من الشرفة. حينها بالتحديد أدركت أني ميتة». لن تتمتع باليقين كقارئ هنا. كلما وضعت يدك على شيء هرب منك، وبدأت رحلة البحث من جديد، بارع في الهرب كزئبق سريع الحركة ويتركك تلهث خلفه ربما تصل يديك لما يريح عقلك.
التاريخ دائري عند الكاتب أحمد عبد اللطيف، دائري ومتصل لا يمكن فصله. وتبدو أعماله كأنها أجزاء لبعضها، قطع «بازل» يمكننا تجميعها للوصول إلى عالم الكاتب ذات نفسه. فالأم التي هي الخالة وليست الأم الحقيقية في «سيقان تعرف وحدها طريق الخروج» هي الأم التي عاشت باسم الخالة، بشهادة ميلاد الخالة في «حصن التراب» هي الأم التي لم نعرف شكلها أبدا في «إلياس» لأنها ترنحت ما بين الحقيقة والخيال. كما أن النحات كان يعمل ويصنع تماثيله منذ «صانع المفاتيح» واستمرت التماثيل في أعمال عبد اللطيف كما لو أنها هاجس يحاول الكاتب طردها من خياله. تعددت عوالمه وتشكلت على مدى روايات ست، لتقدم لنا وليمة دسمة وخلطة سحرية من الأحلام الغارقة في واقع موازٍ. ومدن على وشك الموت. وسلطة تعكر صفو الأفراد الأقل منها سلطة. ومنهزمون يحاولون التمرد والثورة. ينجحون مرة ويفشلون مرات. والفاشلون هؤلاء هم أبطال أحمد عبد اللطيف الذين يدونون التاريخ الحقيقي للأفراد. فالمنهزم فقط هو من يستحق أن نقرأ حكايته.
٭ كاتبة من مصر