ما الذي يستطيعه الكاتب الكبير، غير مداراة عجزه أمام جبروت الزمن الذي أمسى يلاحق جسده الواهن دونما هوادة؟ دافعا به إلى هناك، حيث تتربص به أشباح النهايات التي لا يتسع صدرها لأي مساومة تروم تأجيل ما لا رادَّ لقضائه؟
ما الذي يستطيعه، وقد ضاقت به رقعة الزمن خِلسة ودونما سابق إنذار، فلم تعد تسمح له بتوسيع حدود خرائطه، التي اعتاد على الانتشاء بتكريس نجوميته في مرابع مراكزها وهوامشها، آلاء الليل وأطراف النهار؟
للمرة الألف، سوف يتلفت، مستعيدا تفاصيل مسيرته الحافلة بخوارق المنجزات، مستغربا في الآن ذاته من عجائبية ذلك التألق، الذي حظي به اسمه في الفضاءات الثقافية، وطنيا وعربيا، رغم خلو سجله الثقافي من أثر أي تراكم نقدي أو إبداعي يذكر. فالاسم /اسمه ولا شيء عداه، أصبح كافيا لتكريس علامة /ماركة ثقافية، جامعة مانعة، وغير معنية مطلقا بمواضعات التسجيل أو التحفيظ.
إنه اسم الأستاذ الموجه، والمؤطر الذي يعود له وحده الفضل في هندسة تفاصيل المشهد الثقافي، في تنظيمه، وفي تنزيل مقتضياته كافة، فإذا كان مجايلوه المنضوون إلى واجهته “النضالية” نفسها، قد كرسوا حياتهم للعمل السياسي، فإنه ومن مرتكزات جد براغماتية، سيجد ضالته المنشودة في سراديب العمل الثقافي وأروقته المغلقة والمشاعة، مدعَّما بتزكية الإخوة المناضلين، الذين سوف يعتد بسلطتهم السياسية في شحن اسمه بما يكفي من الطاقة، كي يفلح في تعبيد طريقه نحو كراسي الشأن الثقافي.
وفي سياق اشتغاله بهذه الاستراتيجية، سيكون من الضروري أن ينتزع اعترافنا بنبوغه الاستثنائي في الاستئثار بمركزية الحضور، لعدة عقود خلت، حيث تمكن خلالها من الإمساك بخيوط اللعبة الثقافية، والتحكم الفائق بأساليب تحريكها، عبر عبقرية مراوحته بين استعمال منطق النعومة، واللجوء الاضطراري إلى مسطرة الخشونة، انسجاما مع الشروط التي تمليها طبيعة السياق. وهي الاستراتيجية التي يسرت له فرصة بسط نفوذ أبوته الماكرة على مبدعين ومثقفين حقيقيين يكبرونه سنا، ويفوقونه خبرة باستكناه أسرار الحياة، وأسرار الكتابة والقول، وذلك من خلال توظيفه المتقدم، لحاسته السابعة المتخصصة عمليا في ضبط إيقاعات ما تنوء به دواخلهم الرهيفة من جراحات وإحباطات.
وفي واقع الأمر، كانت الأجواء الهجينة للأزمنة البائدة، متماهية مع تطلعات السيد “المؤطر” الحريص على توسيع دائرة نفوذه، حيث سادت ظاهرة إلزام الثقافي بتكريس تبعيته الذيلية والمطلقة للسياسي، وطبعا، ضمن منطق إقصائي، يستأثر فيه المؤدلجون المقربون بالمراتب الأكثر تقدما، خاصة في حالة ما إذا كانوا مؤهلين للقيام بمهام تفريخ المؤطرين المبتدئين، الذين تُسنَد إليهم مهام الإبلاغ والتبليغ، بالدلالة القدحية للكلمة.
غير أن مكانة “مؤطرنا” الثقافي، ستصبح عرضة للتردي حالما شرعت رياح “التفكيك” الذاتية والموضوعية في العصف بمعاقل “السياسي”، بمجموع ما تتشكل به من دعائم ديماغوجية، وخنادق، وأبراج، وقلاع محصنة، كاشفة بذلك عن عورات قبائل لم تنفع في تغطيتها شفاعةُ أيٍّ من أوراق شجر الوقت. وهي الوضعية التي ساهمت إلى حد ما، وعلى مراحل، في تحرير الثقافي من سلطة السياسي، حيث أصبحت الآداب والفنون تحديدا، معنية أكثر من أي وقت آخر، بالتخلص من خضوعها للحجر السياسي، في أفق ممارستها لحقها المطلق في الوجود. وكلها عوامل أدت إلى سحب البساط من تحت أقدام المتمترسين خلف الشعارات المؤدلجة، المشحونة عادة بالأوهام اليوتوبية، والمزايدات النضالية، المحتكرة لكل ما تحفل به المدونات الأخلاقية والإنسانية من أطاريح ومقولات. وطبعا سيأتي على رأس هؤلاء المتمترسين، اسم صاحبنا، الذي سينتبه جراء هذه التحولات المتسارعة، إلى احتمال انتباه المشهد لعريه التام، بالنظر لِخلو سجله المعرفي والإبداعي من أيِّ أثر حقيقي يذكر، ما سيفضي إلى تجريده من تلك الامتيازات الرمزية كافة، التي كرس حياته لمراكمتها، في مرحلة جد مبكرة من دهائه التنظيمي. وتلافيا لوقوع الكارثة “لا قدر الله” فسيكون من الطبيعي أن تلهمه غريزة البقاء والهيمنة، بجدوى الإدلاء بدلوه، في بئر الإبداع قبل فوات الأوان، أي قبل أن تشحب وتخبو أضواء نجوميته، فتنفض عنه حشود المريدين والحواريين المتطلعين هم أيضا، إلى اقتطاع فسحة ملائمة من بقعة الكتابة. هكذا بدا في ظل التحولات المباغتة والحثيثة، مستغربا من تقاعسه طيلة هذه العقود، عن اقتحام مخاطر الإبداع، هو المعترف له من قِبَلِ الخاصة والعامة، بامتلاكه مجمل الشروط المعرفية الكفيلة بإنتاج ما يكفي من الأعمال، التي حتما ستعم شهرتها الآفاق، متجاوزة بجِدَّتِها وإثارتها كل ما يتباهى به الشرق والغرب من نصوص وكتابات، تقاعُسٌ لا يليق مطلقا به، هو الأكثر إلماما بتقنيات الكتابة الحداثية، بمجموع ما يكتنفها من مرجعيات نظرية، وأساليب فنية، من ألفها إلى يائها. إذ يكفيه أن يستحضر موضوعا ما من المواضيع المتراكمة في زوايا مختبره الشخصي، حتى تُضرِم الكتابة نارها في حطب الكلام، مضيئة بلهبها سماوات التلقي وأراضيه.
تلك كانت وجهة نظر “السيد المؤطر” في اقتناعه بجدوى إطلاقه لشرارة الإبداع، حيث ما لبث أن فاجأ الخلق – وعلى حين غرة – بكتيبة متكاملة من الكتب، بعد أن تأكد له ودونما حاجة ماسة إلى أي دليل أو برهان، أنها زبدة “الأعمال المستقبلية” التي لن يشق لها غبار في مضمار التحبير، والتعبير، والتخييل، أحب ذلك من أحب، وكره من كره. أما المحك الأكثر مصداقية على أهمية هذه الكتيبة من الكتب، فيكمن – من وجهة نظره دائما- في قابليتها للتفاعل مع آخر التقليعات الحداثية، حيث ليس للقارئ سوى بذل ما قلّ من الجهد المعرفي، كي ينعكس كل ما في جرابه من زاد نظري على مرآتها. وكلها عوامل ستضمن له – على حد زعمه – حظوة التموضع المريح على رأس قافلة الإبداع، بوصفه الرائد الملهم لأفواج الكتاب، من شعراء وروائيين ونقاد، على غرار تموضعه سابقا، على رأس المشهد ذاته، حينما كان مكتفيا بمهام خلق وتأطير وتفكيك الخلايا اليقظة والنائمة، لفلول المثقفين، المكتظين حوله أينما حل وارتحل.
غير أن رياح المرحلة، ستأبى في نهاية المطاف، إلا أن تجري على غير ما كانت تشتهيه بارجته. فبحار الأمس البعيد، فقدت جاذبيتها، وأمست محض لوحات نوستالجية لطبيعة ميتة، معلقة على جدار الذاكرة. لقد اختفت خلسة بكل ما في جوفها من أصداف، ودرر، ولآلئ حالما دفعت حيثيات الاحتباس الثقافي، بأمواج، وتيارات، وأسماء مغايرة وعاهات مستحدثة أشد فتكا، ولا عهد لذاكرة صاحبنا بها. إنه الواقع الجديد الذي يعلو ولا يعلى عليه. واقع بحار مستجدة بظواهر غير مسبوقة، حيث ليس لصاحبنا والحالة هذه، سوى البحث عن مكان آمن، يقيه مغبة المغامرة بما تبقى في رصيده الزهيد من طموحات هيمنية، لم تعد مرحليا تغني أو تسمن من جوع. ففي هذا المكان الآمن تحديدا، سيكون بإمكانه تشييد مزاره الأخير، أو بالأحرى ضريحه الذي سيتعايش فيه مع ما تقدم من سقط الأحلام، وما تأخر من رعب الكوابيس. وفيه فقط، له أن يحظى باستقبال قطعان الثعالب والذئاب الضالة، والمقبلة عليه من قمامات الكلام. وفيه أيضا، له أن يحظى باستضافة ما تبقى من غربان الشؤم، التي ستسبح باسمه ليل نهار، في انتظار تيمنها باحتجابه الوشيك، وبما تبقى من غابر ذكره البعيد والقريب.
*شاعر وكاتب من المغرب
نص شكسبيري بامتياز.
ذاك هو مثقف المَعارض. معجون بجميع السوائل و مُركب من جميع العناصر .
هناك حرب شاملة ضد العقل و الروح و الذوق ، وسائلها ضخمة و أهدافها رهيبة
أحيي الأخ رشيد
أعتقد أن هذا النص اللافت بعمقه وجزالته
قد كُتب بإلهام مباشر من ملاحظات الأخت المبدعة نينار المتألقة على النص السابق
وبخاصة قولها الحاذق –
“وما على الشاعر الحق إلا الاستقاء منهما (أي المفهوم المثالي والمفهوم المادي للتجربة) ما يُغني تجربته الشعرية جرّاء التأرجح بين الذاتي والموضوعي حسبما تقتضيه القرينة أو القرائن وإلا فإنه، كما جاء في النص، (قد يسلخ حياته بنهاراتها ولياليها، في مراكمة ما يعتبره دواوين شعرية، دون أن تحظى هذه المراكمة بالنزر اليسير من دلالات التجربة وأبعادها) – وما أكثر هذا النوع من دواوين اتحاد الكتاب التي آلت إلى سلال المهملات في أحسن هيئاتها”.
مع جزيل الشكر
تقديري الكبير الأستاذ المحترم العربي بنجلون، على دقة ملاحظتك.
يُشكر الأخ رشيد على هذا النص الثاقب والألمعي أسلوبًا وفحوًى وحتى ما بينهما..
ويُشكر أيضا الأخ العربي بنجلون على جميلِ ظنّهِ بملاحظاتي ناقلا إياها هنا للتدليل والتمثيل..
وفي ظنّي كذلك، هذا النص قائم أساسًا على ثنائية الجسد والعقل التي يستهلّ بها بجليِّ الكلام..
الأول محدود طبعا بحكم البيولوجيا، والثاني لا يحدّه قطعا إلا ما يُتوخّى من تأزيم وتضييق الإيديولوجيا –
وليس ثمة أعمق من ابن سينا ومن بعده ديكارت في التصدّي لإشكاليات هذه الثنائية ضمن منهج منطقي علمي.. ولهذا كان التركيز على تجاوزية العقل في سباق محموم مع الزمن الذي تحدّده محدودية الجسد.. ذلك لأن العقل العظيم، أو حتى الأعظم، قادر على أكبر قدر من الرذائل، وكذلك على أكبر قدر من الفضائل.. ولكي يتم تفعيل العقل تفعيلا نجيعًا، علينا أن نتعلّم دائما في صحيح المحلِّ حتى لو كان التعلّم ذاته مَرومًا بأقلّ من التأمّل في حدّ ذاته.. ولا أدلّ على ذلك من قول الشاعر أبي الفتح البستي –
*
إذا مرَّ بي يومٌ ولمْ أتَّخِذْ يدًا / ولمْ أستفدْ علمًا فما ذاكَ من عمري
**
لله درك العزيزة نينار أحسنت بقولتك البليغة ،التعلم في صحيح المحل ، و المثقلة بمجرات مشرقة من الدلالات التي تتخلل استطرادك العميق.
محبتي وامتناني