أضعف الإيمان من جماعة كثيرة العدد تنوي على وجهة واحدة، أو تنوي القيام برحلة سياحيّة جامعة ــ سواء أكانت هذه السياحة لأغراض ترفيهيّة أو سياسيّة أو دينيّة ــ أن تكونَ راحِلَتُها إلى مقصدها وسيلةَ نقل تُتيح لها، للجماعة، أن تُحافظ على روحها، روحِ الجماعة.
وأيّ وسيلة بَرّية حديثة أولى بتلبية هذه الحاجة من الباص، المسمى أحيانًا بالعربية، الحافلة، وهي ترجمة تستدعي في حد ذاتها التوقّف عندها. فإذا اختصر الاستعمالُ في اللغات الغربية الاسمَ الكاملَ «أومني بوس» إلى «بوس» (باص) مُقَدّمًا الجزءَ الثاني من الكلمة الذي يُفيد النقلَ والإزالةَ من مكان إلى آخر على الجزءِ الأولِ منها، الذي يُحيل إلى الجمع والكثرة بوصفهما المنقول، فإن العربية آثرت التوكيدَ على المنقولِ لا على النّاقِل حيث إن مُؤدّى الجذر «حفل» هو الاحتشاد والكثرة والامتلاء.
لا يحتاجُ القتلةُ إلى هذا العلم اللغوي لكي يُنْزلوا الباصَ، عمومًا، منزلةَ الهدف المحبب من لائحة أهدافهم؛ حسبهم العلم العمليّ والتجربة الشخصيّة التي لا يخلو أحدٌ، قاتلًا (إرهابيًّا) أو موظفًا أو طالبًا، أو جامعًا بين هذه الصفات الثلاث منها.
فباعتباره وسيلةَ النقلِ الموصوفةَ لحمل جماعة كثيرة العدد، حركةُ الباص، على وجه العموم وقياسًا بسواه من الرواحل الميكانيكيّة، بطيئةٌ ثقيلةٌ متوانية، وإن اتَّفَقَ أنَّ الباص كان مَشحونًا بالركاب، زادت هذه الحركةُ بُطْأ على بُطْء، واجتمعت بذلك الأسبابُ المطلوبُ اجتماعُها ليتحوّل الباص، من وسيلة نقل لا تُمَيّزُ بين مُستخدميها، إلى هدف لا يُخْطئُه الرامي مهما تَدَنَّت مهاراته في الرِّماية، فكيف به إن كان يجمعُ المهارةَ في الرماية إلى العقيدةِ الراسخة بأنه مُسَدَّدٌ في رميه، وبأنَّ الهدفَ الذي يُصَوّبُ في اتجاهه يستحقُّ أن يُسْتَهدف؟
يوم الأحد الواقع فيه 13 نيسان/أبريل 1975، إذ كان باص يُقِلُّ عددًا من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان ينقلهم من مخيم إلى آخر، اتفق له أن مرَّ في حي عين الرمانة الذي كان قد شهد قبل ساعات تلاسنًا فإطلاقَ نار بين مسلّحين فلسطينيين وآخرين لبنانيين كتائبيين، وكان ما كان.. انهمر رصاصُ الانتقام لمقتل أحد أولئك الكتائبيين على الباص، فقُتِلَ المعظمُ من ركابه، وبدأت الحربُ ودخل الباصُ التاريخَ والذاكرةَ اللبنانيين.
بالطبع كان لهذه الحرَب التي لا فَضْلَ لأحد بعينه أنْ تَنَبّأ بها من كثرة الذين فعلوا، أن تبدأ على نحو آخر وبمناسبة أخرى، أو أن تَختارَ لها خشبةً غيرَ عين الرمانة وقتلى غيرَ ركاب ذلك الباص، ولكن هذا ما كان، لا رادَّ له ولا من يحزنون. نعم، ليس باصُ عين الرمانة، على الأرجح، أولَ باصّ أقَلَّ مدنيين وتعرض لإطلاق نار، ولكنه على وجه اليقين أوَّلُ باص يُتَّخَذُ هدفًا عسكريًّا وينتهي استهدافُه بإشعال حرب دامت رسميًّا عقدًا ونصف العقد من الزمن، فيما يرى رأيٌ آخَرُ أنَّها ماضية قدمًا مهما زَيَّنَ لبنانُ، واللبنانيون، لأنفسهم وللآخرين، غير ذلك. ولأنه كذلك فلا عجب مِمَّنْ يُقيمُ باصٌ في ذاكرته، أن يَسْتَوْلي عليه فضول غريب كلَّما طالع قِصَّةَ باصٍ سالت على جوانبه الدماء، أو كلما انتهى إليه أنّ باصًا ما، في مكان ما على وجه هذه البسيطة، اتَّخَذَه بشر ينظرون إلى الباص بوصفه تلك الراحلة الميكانيكيّة الجماعيّة هدفًا لعنفهم أو مسرحًا له.
للراسخين في الأمْنِيّات أن يُفَسّروا للعامَّةِ من أمثالنا ما يُحَبِّبُ القتلة فجأةً بالباصات: هل مَرَدُّ ذلك إلى ما ذهبنا إليه من أن الباص أشبه ما يكون بساحةٍ عامة محمولةٍ على دواليب؟ هل الأمر مجرد توارد خواطر بين قتلة أنهكت الحربُ ملكاتِهم التَّخَيُّلية؟ أم أنَّ تواردَ الخواطر هذا ثمرةُ قراءة في كتاب واحد؟ فلأسابيع خلت، في أبريل 2017، انفجرت عبوّة ناسفة لدى مغادرة لاعبي أحد الفرق الألمانية، على متن حافلة، مركز ناديهم متوجهين إلى أحد الملاعب، حيث كان من المفترض أن تدور مباراة بينهم وبين فرقة أخرى. خاب صنيع القاتل – الإرهابي فلم تَسِرْ خطّة التفجير على ما رُسِم لها، واقْتُصِرت الإصاباُت على جريح واحد. بعد أيّام على حادثة دورتموند هذه، في 15 من الشهر نفسه، وقع انفجار عملاق في ناحيةٍ من نواحي حلب (الراشدين) تَجَمَّعَت فيها حافلات على متنها المئات من أهالي كفريّا والفوعة المُرَحَّلين بموجب اتفاقات «الترانسفير» المذهبي، فقضى نحو مئة وجُرح المئات. ولم تَمْضِ سوى أسابيع على هذين الهجومَيْن حتّى وقعت الواقعة في المنيا، أو قل قامت القيامة… فلا فرق، في النهاية، أي ساعةَ لا يبقى إلّا جَمْعُ الأشلاء وتعدادُ القتلى ومواساةُ الجرحى، بين الوقوع والقيام متى ما كان الباص ثالثهما.
أيًّا تكن الروايةُ الأقربُ إلى الحقيقة عما جرى في المنيا (هل اقتصر الأمر، إن جاز القول، على القتل، أم سَبَقَ القتلَ تخييرُ الضحايا بين الإسلام والقتل على ما جاء في بعض الشهادات)، وأيًّا تكن درجة الفظاعة التي تَسِمُ هذه الجريمة، لا بُدَّ مِنَ التَّصارُحِ، ومن الاعتراف، بأنَّ الانتباه العامَّ الذي أحاط بها لن يلبث أن ينفكّ عنها، وأن يتحول إلى شيءٍ سواها، خيرا أو شَرّا منها. وإذ يكون ذلك ماذا يبقى، في الخيال العام، من باص المنيا سوى الباص وأن الضحايا من الأقباط؟ ما هو مُقبِل على باص المنيا سبقت إليه باصات أخرى: فمن باص عين الرمانة، يبقى الباصُ، وأنّ الضحايا من الفلسطينيين، ومن باص الراشدين يبقى الباص، وأنّ الضحايا من أهل كفريّا والفوعة، ومن باص روبافو (رواندا، 1998) يبقى الباص وأنّ ركّابه السبعين قتلوا جميعًا لتمَنُّع الهوتو منهم عن خذلان التوتسي، وإصرارهم جميعًا على تعريف أنفسهم بوصفهم روانديين، ومن باص تل أبيب (2003) يبقى الباص وأنّ من سقطوا، يومذاك، من جراء التفجير الانتحاري المزدوج، هم من الإسرائيليين، وهكذا هكذا وعليه قس.
على غرار السّؤال «ماذا يبقى، في الخيال العام، من باص المنيا؟» يصح السؤال: «ماذا يبقى، في الخيال العام، من تفجير مانشستر؟» وعلى غرار ما إنّ الجواب على السؤال الأول هو «الباص» والهوية المفترضة للضحايا، فالجواب على السؤال الثاني لا يقتضي إلّا إحلال «الانفجار» محل «الباص»، ولعلَّ هذا الاختزال التلقائي الذي نُسيءُ بِهِ، على غير تعمّد، كلما توسّلنا به، إلى الضحايا في فرديتهم هو من «الإرْهابِ»، أيّما إرهاب، وكائنًا ما تكن «القضيّة» التي يتذرّع بالدفاع عنها أو بالسعي إلى إعلاء شأنها، أحَدُ مقاصِدِه العليا، بل مقصده الأعلى. بيد أنَّ الإرهابَ، لا يغرف من قواه الذاتية فقط، بل من قوّة المتصدين له، لاسيما متى ما ضاق خيالُ هؤلاء ولم تتفتّق أذهانهم عن خطة لدفعه إلا الحرب عليه: «الحرب على الإرهاب». فلا ما يُفْرِحُ قلبَ الإرهابِ كأنْ يَسْتَعلي منطقُ الحرب على أيّ منطق آخر، وكأن نتحوَّل جميعًا إلى عُمّالٍ مُياومين في ورشة الخوف العظيمة، فنُقَصّرُ ألسنَتَنا حيث يجب أن نُطيلها، ونختصر حيث ينبغي أن نُسهب، وننسى حيث يجب أن نتذكَّر، ونرفع «الباص» أو ما يُعادله إلى رتبة البطل، ونُزري بالقتلى، ونحن منهم مع وقف التنفيذ، إلى مرتبة الجمادات، وننتشي بالكيل كلما طفح، وبالموازين كلما زادَ اخْتِلالها. هل من سبيل إلى النجاة بعد؟ لا نجاةَ على الأرجح وإنما شَيءٌ من قبيل النجاة: الاستعداد للأسوأ على بَيّنةٍ وما تَيَسَّرَ مِنْ رباطةِ جأش.. ومن حِكْمَةٍ إن وجد: من بواكير الشهادات التي تؤرّخ لحرب لبنان كتاب بقلم صحافيّ فرنسيّ جاء به تكليف مهنيّ إلى بيروت قبل أيام من الثالث عشر من أبريل/نيسان فحضر السوق وباع واشترى وانتهى به الأمرُ مدافعًا شرسًا عن أحدِ الفريقين اللذين بدآ النزال. على الختام من المقدمة التي قدم بها لشهادته كتب واصِفًا 13 أبريل: «يومذاك بدأت حرب لبنان. على غَفْلَةٍ مِنّا بدأت. ولا غرو في ذلك… فبداياتُ الحروبِ لا يُؤرَّخُ لها إلّا بعد أن يسبق السيفُ العَذْل…».
إنَّها الحربُ يا هذا… الباصُ يُهدي الباصَ السَّلام!
٭ روائيّة من لبنان
رشا الأمير
أودُّ أن أجدِّدَ إعجابي بالكاتبة والناشرة العربية،لا اللبنانية فحسب،”رشا الأمير”،على لغتها العربية الجميلة،وطريقة سردها الآسرة.وقد أعجبتني روايتها الفاتنة”يوم الدين”.لكن ما يُغضبني منها حقيقة هو عدم اهتمامها بقواعد النحو،وسأضرب مثالًا بمقال اليوم.سواء أكانت هذه السياحة لأغراض ترفيهية أو سياسية أو دينية،وصحتها:أم سياسية أم دينية.كذلك تقولين سيدتي:فبدايات الحروب لا يُؤرَّخ لها إلَّا بعد أن يسبق السيفُ العَذْلَ.وقمتِ بوضع سكون على ذال”العذل”،مع أن معاجم اللغة تضع فتحة! مع خالص الود والتقدير لكِ.