من «غوبلز» إلى الدعاية السيبرانية

لقد أضحت الدعاية فنّا له ثقله، وعلما له قواعده وأسسه التي تحكمه وتتحكم فيه، هدفها كسب الجمهور بأي طريقة كانت شريفة أم وضيعة.
اليوم مع بداية اعتماد الإنسانية على منصات مواقع التواصل الاجتماعي كوسيلة للاتصال والإطلاع على الأخبار ومصادرها، بات أمام الجميع مواجهة معادلة ليست سهلة مفادها القدرة على الموازنة بين سرعة نشر الخبر وبين التأكد من صحته وحصريته.

ثلاثينيات القرن الماضي

منذ ثلاثينيات القرن الماضي وتحديدا منذ أن أطلّ جوزيف غوبلز وزير الإعلام الداهية للرايخ الثالث وصانع أسطورة الكذب للزعيم الألماني أدولف هتلر وزارة الدعاية إبان الحزب النازي في ألمانيا، محترف الخطابات الحماسية وإطلاق الشعارات الرنانة، مختلق الأكاذيب وتكرارها حتى يصدقها الناس وتصبح حقيقة مطلقة، حتى باتت قاعدة “أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس” من أكثر القواعد استخداما في الحقل الإعلامي، وأصبحت القنوات ذات المصداقية تحتاج إلى “ميكرسكوب” حتى نصل إليها وقد لا نصل بسهولة في ظل سيطرة السوشيال ميديا والاتصال الرقمي على مجمل الحياة البشرية.
لقد أسهم ظهور شبكة الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، ومواقع مشاركة المحتوى، والمدونات في الوصول السهل للجمهور المستهدف والتأثير فيه بشكل كبير بصرف النظر عن المكان والزمان، كما عززت هذه الوسائل تنامي “الدعاية السيبرانية” التي تستخدم الوسائل الإلكترونية للتلاعب بالعقول والمشاعر، والتأثير في توجهات الرأي العام.
وفق هذا المشهد يشعر أحدنا أحيانا أنه يعيش وسط لعبة كبيرة، كلما ظن أنه قد انتهى منها، بدت له تفاصيل أخرى ترمي فيه إلى مواقع أخرى من حيث يشعر أو لا يشعر.
صحيح أن الإعلام لم يكن يوما عالما أفلاطونيا مثاليا يعمه السلام والعدالة والمحبة، بل إن تضارب المصالح جعل منه سلاحا فتاكا في الصراعات عبر أسلوب القوة الناعمة، التي تؤثر ببطء وعلى المدى الطويل، دون أن يلاحظها الكثيرون.
فليس كل ما يُقال يمكن أن نصدقه، ولا حتى النظر إليه على أنه يمثل الحقيقة المطلقة. فكثير من الزعماء والحكام وأصحاب القرار يُخفون أجنداتهم وخططهم الحقيقية باستخدام الإعلام والدعاية بأشكالها وأنواعها المتعددة، وجميعها لها الدور الأبرز في تشكيل الرأي العام وتكوينه، إذ بفضلهما تنشأ حركات اجتماعية أو تندثر، وتبسط وتخف بعض الأزمات الاقتصادية، وتنشب الحروب، وتتأجج الصراعات، ويتم تأجيج وإشعال الخلافات بين الأيديولوجيات المختلفة.

الإعلام الغربي

وبهذا السياق، وصلتني رسالة عبر الواتساب يحاجج كاتبها بالدور الذي لعبه ومازال الإعلام الغربي في شيطنة كوريا الشمالية واعتبارها من الدول المارقة أو محور الشر، بقوله: لو تأملنا جيدا في هذا البلد ممثلا بزعيمه “كيم جونغ أون” لوجدناه أنه لم يتورط (خارج حدود دولته) على الأقل في دمار أوطان وتخريبها، وقتل البشر، أو إعاقة الفساد والتخريب في سوريا أو العراق أو اليمن أو ليبيا، ولم يجوّع أفريقيا أو ينهب ثروات الدول الضعيفة، بل أنه لم يلق القنابل الفسفورية على أطفال فلسطين أو النووية على اليابان، ولم يكن له يد في إشعال الحرب الطائفية في رواندا، ولم يكن له صلة في ما حصل في البوسنة والهرسك أو أفغانستان…إلخ؛ رغم ذلك رسم الإعلام الغربي (تحديدا) في مخيلتنا أن كوريا الشمالية دولة مارقة ورئيسها سفاحا دكتاتوريا وعدوا للإنسانية، أما خصومه ممن قتلوا وتلطخت أيديهم بدماء الشعوب ونهبوا الأوطان فهم ديمقراطيون وحضاريون!
نفسها إذن مدرسة التضليل الإعلامي ولكن بشكل عصري التي ما زالت تسوّق أفكار غوبلز وتعتمد وسيلته وأفكاره، تريد منّا أن نصدّق لا أن نفكر أو نسأل، أو حتى نتأنى. هو نفسه الإعلام الذي كذب علينا منذ أيام النكبة وأيّد إسرائيل ومازال لغاية اليوم يهلل ويطبل لها، ونفسه الذي كذب في أحداث 11 أيلول -سبتمبر وفي حرب العراق، وقال إن الرئيس العراقي السابق صدام حسين يمتلك مخازن من الأسلحة الكيماوية..

القهر الدعائي

لم يكن “غوبلز” يملك من وسائل القهر الدعائي حينها سوى الصحف والمذياع ومع ذلك نجح في إقناع 80 مليونا من الألمان أن الأخيرة فوق الجميع ، وأن الجنس الآري أرقى أجناس الأرض وبأن أوروبا الشرقية هي المجال الحيوي لدولة الرايخ الثالث وأن هتلر قائد ملهم لا يخطئ ولن يهزم! اليوم وفي ظل “الدعاية السيبرانية” هناك من ورث من غوبلز أسلوب التضليل الإعلامي الذي أضحى أحد أهم ساحات التنافسات والصراعات في الدولية. فهناك جهات شغلها الشاغل توجيه الرأي العام، والاستيلاء على عقول الناس ومشاعرهم وأرواحهم والرهان على انعدام الذاكرة لديهم… لكن مهما يكن من أمر لن يستطيع التضليل إخفاء الحقائق إلى الأبد والقول الغالب سيبقى “لا يصح إلا الصحيح” .

باحث وكاتب فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية