في إبريل/نيسان 1948 سقطت مدينة حيفا بعد احتلالها المُعدّ سلفاً من قِبَل قوات الهاغانا، وخضوع حكومة الانتداب البريطانية لما أملته الإدارة الأمريكية والمنظمة الصهيونية العالمية. كان بيتنا في هدارا كرمل على رأس وادي الصليب مطلا على الميناء وجامع الاستقلال وخليج عكا الأزرق. وكمُعظم سكان حيفا رحل جميع الأهل تقريبا، شمالا باتجاه سوريا ولبنان، وحدها عائلتنا الصغيرة اتجهت إلى مدينة نابلس التي شدّنا إليها أكثر من سبب، حيث استأجرت العائلة بيتا لها في نابلس منذ نهاية الثلاثينيات مع انتقال الأخ الأكبر (خليل) للدراسة في كلية النجاح، كما اضطرت العائلة اللجوء إلى نابلس هربا من حين لآخر بسبب غارات الطائرات الإيطالية والألمانية على مدينة حيفا إبّان الحرب العالمية الثانية.
البيت مرّة أخرى
بقينا في نابلس حتى صيف 1952. قمتُ بزيارة البيت الذي وُلدتُ فيه في أول زيارة لي لفلسطين في عام 1994. علمتُ أثناءها أن البيت هو لعائلة النابلسي، وبالتحديد للمرحوم السيد حسن النابلسي الذي كان لا يزال على قيد الحياة. وهو والد الشهيدة لينا، التي غدت رمزاً وأنشودة على كل لسان. كانت نموذجا خلّاقا للمقاومة الشعبية ضد الاحتلال ساهمتْ فيها جميع فئات الشعب الفلسطيني.
نابلس
تعلّق الوالدان بمدينة نابلس لأسباب باتت مفهومة لي في مراحل لاحقة. فبينما كانت حيفا مدينة حديثة سريعة التطور وذات فُرَص، فقد غَدَت بالنسبة لكثيرين من سكانها الأصليين مدينة مُتعِبَة بعض الشيء ومُهَجَّنة مفتوحة لكل غريب. أما نابلس فقد حافظت على امتداد اجتماعي وثقافي مُتجذِّر لمدينة عريقة لها خصائصها وعاداتها الموروثة لقرون. كان هذا مبعث ارتياح للأهل سهلَتها اُلفة المدينة وعشرة أهلها. جمعتنا الجيرة في نابلس مع أهل (بسام) من عائلة الشكعة.
كانت النجاح تجتذب خيرة المعلمين المشهود لهم بالكفاءة أمثال قدري طوقان، عصام العمد، وعبدالله الريماوي وغيرهم. وكانت الكلية تعجّ بالنشاطات الأدبية والمسرحية والرياضية خارج الصفوف، وتسعى إلى بثّ الثقة والروح الوطنية بين الطلاب.
كانت والدتي تُحدثُنا عن طيبة الجيران في نابلس، وتلاحق عاداتهم في الطعام والمناسبات الاجتماعية والخروج إلى النزهة في الطبيعة وعلى الأخص إلى وادي البادان القريب ذي الطبيعة ألآسرة. أذكرُ أنه كان لعائلة الشكعة كلب كبير الحجم لم تتوان الوالدة في الاستعانة به أحيانا كي نستجيب لتعليماتها، إلا أنها سُرْعان ما أدركتْ أن الكلب لم يعد يخيفنا، بل أصبح صديقا لنا نداعبه ويداعبنا. كان أخي خليل وبسام زملاء دراسة في كلية النجاح، وإن لم يكونا في الصف نفسه، اذ كان بسام يكبر خليل وفي صف أعلى. كانت النجاح تجتذب خيرة المعلمين المشهود لهم بالكفاءة أمثال قدري طوقان، عصام العمد، وعبدالله الريماوي وغيرهم. وكانت الكلية تعجّ بالنشاطات الأدبية والمسرحية والرياضية خارج الصفوف، وتسعى إلى بثّ الثقة والروح الوطنية بين الطلاب. ويذكر أخي خليل أن الطلبة كانوا يُردّدون الأناشيد الوطنية مثل «موطني»، و«بلادي .. بلادي»، و«حماة الديار». كما أنهم كانوا يحفظون الكثير من القصائد التي تمجد كفاح ونضال شعب فلسطين، خاصة قصائد الشاعر إبراهيم طوقان، وقصائد الشاعر المناضل الشهيد عبد الرحيم محمود الذي عمل أستاذا في كلية النجاح، وقصيدة الشاعر المصري محمود علي طه التي لحنها وغناها محمد عبد الوهاب «أخي جاوز الظالمون المدى». كان عبد الرحيم والريماوي عروبيين: الأول قضى سنوات منفيا في العراق وشارك أهلها في ثورة رشيد علي الكيلاني ضد البريطانيين. أما الريماوي فكان قائدا بعثيا وعروبيا بامتياز. ويذكر خليل أن عبارة «العروبة فوق الجميع» خُطَّتْ بالحرف الديواني الكبير على رأس المسرح الرئيسي في كلية النجاح.
جيل الصدمة
ومع احتلال القوات الصهيونية لثلاثة أرباع فلسطين بين 1947- 1949 غصّت شوارع وساحات نابلس باللاجئين. بينما سعتْ أطراف التآمر على فلسطين إلى تغييب اسم فلسطين كفكرة وشعب وكيان من الخريطة. حينذاك أقفلت كلية النجاح أبوابها باكراً في صيف 1948 حيث ضاقت المساجد والساحات العامة عن استيعاب أفواج اللاجئين التي تدفقت إلى المدينة. كان خليل وبسام في ريعان الشباب، فَهُما يُمَثِّلان جيل ما أُسَمّيه «جيل الصدمة الأولى» عندما حلّت الكارثة القومية والنكبة في فلسطين. كان على هذا الجيل أن يُوفِّر الحياة الكريمة لعائلاتهم التي تشرّدت، وأن يعمل في الوقت نفسه على تغيير المشهد الجيوسياسي المفروض من القوى الاستعمارية في منطقة الشرق العربي، القائم على التجزئة وتصفية القضية الفلسطينية. اضطّرَ خليل لذلك إلى قطع تعليمه في الجامعة الأمريكية في بيروت والعمل في شركة أرامكو في السعودية، كباقي جيله من المتعلمين وأصحاب الكفاءات من اللاجئين الفلسطينيين ممن اتجهوا في تلك الفترة للعمل في دول النفط من أجل دعم أسَرِهم المنكوبة. أما بسام، فلا عجب أنه اتّجه للنشاط السياسي في نابلس المشتعلة غضبا على الهزيمة التي حلّت بالعرب، فانضم لحزب البعث العربي الاشتراكي. وهو ما فعله كثيرون من الشباب الفلسطيني في فترة الخمسينيات بالانضمام إلى الأحزاب القومية العربية كحزب البعث والقوميين العرب والحركة الناصرية، بالإضافة إلى الحزب الشيوعي وحزب التحرير الإسلامي، وكانت الأحزاب القومية ترى في الوحدة العربية هدفا أول لها وسبيلا لتحرير فلسطين.
كان على هذا الجيل أن يُوفِّر الحياة الكريمة لعائلاتهم التي تشرّدت، وأن يعمل في الوقت نفسه على تغيير المشهد الجيوسياسي المفروض من القوى الاستعمارية في منطقة الشرق العربي.
منظمة التحرير الإرهابية!
برز اسم بسام كغيره من المناضلين الفلسطينيين ممن نجحوا رؤساء بلديات ومجالس محلية في أول انتخابات لمجالس محلية تُجرى في ظل الاحتلال الإسرائيلي لباقي فلسطين عام 1967. قام إرهابيون يهود في يوم الثاني من يونيو/حزيران 1980 بوضع عبوات ناسفة تحت سيارات كل من بسام الشكعة رئيس بلدية نابلس، وكريم خلف رئيس بلدية رام الله، وإبراهيم الطويل رئيس بلدية البيرة. شكّل هؤلاء الجسم الأكبر في قيادة جبهة العمل الوطني المقاوم في فلسطين المحتلة في الانتفاضة الشعبية الأولى في المناطق المحتلة. أبعدت سلطات الاحتلال عدداً من هذه القيادات.
كما قامت إسرائيل بمحاولة تصفية عدد من رؤساء البلديات كان بينهم كريم خلف وبسام الشكعة، الذي فقد ساقيه نتيجة اعتداء إجرامي مُدبّر. هؤلاء لم يكونوا قادة محليين في نظر الفلسطينيين، بل كانوا قادة وطنيين قدموا النموذج لأجيال لاحقة من المناضلين. التقيتُ بسام في لندن عندما دعته الحكومة البريطانية لاستكمال علاجه في لندن، في مطلع الثمانينيات وكانت زوجته أم نضال ترافقه. كان موقف الحكومة البريطانية كمعظم الدول الغربية آنذاك في عدم الاتصال الرسمي المباشر مع منظمة التحرير الفلسطينية، بحجة أنها «منظمة ارهابية». رفضت الحكومة البريطانية آنذاك عقد لقاء مع لجنة من الرسميين العرب كان يُفترَض أن يكون بين أعضائها مندوب عن منظمة التحرير. ولاحقاً، رأت حكومة المحافظين في تلك الاثناء تبييض وجهها بدعوة بسام الشكعة لمواصلة علاجه في لندن، بينما غاب مندوب المنظمة عن المشاركة مع اللجنة العربية في لقائها مع الحكومة البريطانية.
بسام
لم تغِبْ مسحة صفاء وابتسامة عن وجه بسام، رغم معاناته وأسرته بسبب الحادث الإجرامي الذي تعرّض له. ومع بدايات التحسّن في علاجه، وجدنا من المناسب أن ندعوه وأم نضال لأمسية ترفيهية، إلى إحدى مسرحيات لندن، حيث تم الإعداد في المسرح لاستقباله على كرسيه المتحرّك ومع رجل الأمن المرافق له.
كان بسام في حديثة مع هيرد واضحا في أن منظمة التحرير هي المُمَثّل والعنوان للشعب الفلسطيني، رغم ما لديه من انتقادات وملاحظات كان لا يتردد عن الافصاح عنها.
مرّة وحيدة وجدته منزعجا على غير عادته. كان ذلك عندما اتصل قسم الاستقبال في المستشفى يبلغه بأن هناك ضيفاً يودّ زيارته موجوداً في بهو المستشفى. وبعد السؤال عن اسمه كان جواب بسام حادّا مشوبا بغضب بالاعتذار عن لقاء ذاك الزائر. كان الزائرصاحب صحيفة معروفة تصدر في القدس وصفه بسام بأنه «يبيع نفسه لمن يشتري» و«أنا لا أرغب زيارة أشخاص من هذا النمط من الناس». فهو، أي الزائر، «جنّد صحيفته للهجوم على منظمة التحرير، وعلى رجالات فلسطين ومناضليها من الوطنيين ويلقى الدعم في جيبيه اليمين واليسار». كنت أزور بسام أكثر من مرة خلال عملي الصحافي وأساعده احيانا في ترجمة لقاءاته مع مسؤوليين بريطانيين في المستشفى، كان بينهم وزير الخارجية البريطانية للشؤون الأرووبية آنذاك، دوغلاس هيرد. كان بسام في حديثة مع هيرد واضحا في أن منظمة التحرير هي المُمَثّل والعنوان للشعب الفلسطيني، رغم ما لديه من انتقادات وملاحظات كان لا يتردد عن الافصاح عنها، كما وضعه في صورة ما يجري من جرائم من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. والحق يقال، فإن هيرد نفسه، وهو سياسي وأديب روائي، كان يتفهم ما لحق بالفلسطينيين من ظلم، وبدا متعاطفا مع قضيتهم. وكانت إحدى ثمرات هذه اللقاءات علاقة صداقة مع هيرد في تبادل الكتب. وأصبح هيرد وزيرا للخارجية في حكومة المحافظين برئاسة جون ميجر بين اكتوبر/تشرين الأول 1989- ويوليو/تموز 1995. وعندما قامت دول الحلفاء بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية بطرد الجيش العراقي من الكويت في يناير/كانون الثاني 1991، قامت سلطات الأمن البريطاني باعتقال عشوائي لعدد كبير من العرب معظمهم من الطلبة العراقيين وآخرين كنت بينهم. الغريب أن الحكومة البريطانية طبقت قوانين قديمة باعتقال وطرد Internment رعايا ما يسمى «بالدول المعادية» من المدنيين. كان موقف هيرد معارضا لتلك القرارات، كما عارضتها الهيئات الشعبية المعادية للحرب وهيئات حقوق الإنسان. وسرعان ما أفرجت الحكومة عن المعتقلين بعد أسابيع وخيّرت الحكومة الطلبة العراقيين بالعودة إلى بلدهم أو البقاء في بريطانيا. فموقف الحكومة البريطانية بدا أكثر ايجابية في التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية والاعتراف الدولي بها في نهاية المطاف.
٭ كاتب فلسطيني
*كتبت المقالة بالأساس في حفل تكريم لبسام الشكعة في جامعة النجاح وستصدر ضمن كتاب بعنوان «أوراق ذكرى لن تغيب».