في عشرينيات القرن الحادي والعشرين، يطرح الأوروبيون وفي ظروف صراعات حادة ومركبة تساؤلات كبرى عن هوية ومضامين عقد اجتماعي جديد والتفكير النقدي في مستقبل اقتصاد السوق الرأسمالي والديمقراطية وجوهر العلاقة بين الدول الوطنية والاتحاد القاري. ثمة تحديات بالغة الأهمية تواجهها المجتمعات الأوروبية في حيرة وقلق، تحديات يتجاوز واقعها الصعب تحميل كل «المصائب» على عدوانية روسيا أو جنون اليمين الشعبوي والمتطرف.
في القرن العشرين وبين الحربين العالميتين، تكالبت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على الأوروبيين، وحاصرتهم تناقضات الدماء والدمار والفقر من جهة والتقدم العلمي والتكنولوجي والصناعي والفني من جهة أخرى، وتعاقبت على مجتمعاتهم المواجهات العسكرية بين جيوش دول قديمة وأخرى حديثة ودورات الصراع بين قوى يمينية متطرفة وقوى اليسار الراديكالي في ظل تراجع تيارات اليمين الليبرالي والمحافظ واليسار الاشتراكي. وتحديدا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، تعالت أصداء تحذيرات السياسيين من قرب نهاية هيمنة القارة العجوز على العالم وكذلك أصداء نبوءات الفلاسفة وتوقعات المفكرين بشأن أفول قادم للغرب بعد أن أخفق نموذجه للتقدم إن في منع الحروب أو في التخلص من الاستغلال والاستعمار (وإليهما استندت من بين مرتكزات أخرى الهيمنة الأوروبية بين القرنين السادس عشر والعشرين) أو في تطبيق قيم المساواة وتقرير المصير والحرية خارج حدوده بعد أن بشر بها وزعم النهوض بنشرها عالميا (عبء الرجل الأبيض).
كان هذا هو حال الأوروبيين في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، وكانت هذه هي قضايا مجتمعاتهم الكبرى. وتتشابه مع ذلك الحال وتلك القضايا على نحو لافت أحوال أوروبيي القرن الحادي والعشرين. في عشرينيات القرن الحادي والعشرين، تواجه المجتمعات الأوروبية صراعات داخلية حادة ومركبة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية.
اقتصاديا، يلقي تواكب التراجع في نسب النمو السنوية بالفئات الفقيرة والطبقات الوسطى إلى هاوية أزمة معيشية طاحنة ليست مرشحة للانتهاء قريبا ولن يصلح معها لا اكتفاء الحكومات الغنية كالسويد والدنمارك وهولندا وألمانيا بتقديم الدعم المالي والعيني ولا تعويل الحكومات متوسطة الحال في إسبانيا وإيطاليا والمجر على المساعدات القادمة من مؤسسات الاتحاد في بروكسل. فأوروبا، في جنوبها وشمالها كما في شرقها وغربها، هي اليوم إزاء اختيارات كبرى فيما خص السياسات الاقتصادية المتبعة. البعض في أوساط اليمين الليبرالي والمحافظ يريد إطلاق المنافسة في السوق الرأسمالي دون حدود، ويتجاهل الجوانب الاجتماعية المتعلقة بضمان فاعلية شبكات الأمان (إعانات الإعاشة والبطالة والمعاشات) والخدمات (التعليم والصحة ونظم رعاية الأطفال وكبار السن) الممدودة للفقراء ومتوسطي الدخل، ويستبعد من النقاش العام والسياسي كل إشارة إلى ضرورة تحقيق شيء من التوازن والعدالة في المجتمعات الأوروبية بكونها ستضعف من اقتصاديات القارة العجوز وتقلل من حظوظها في مواجهة العملاقين الولايات المتحدة والصين. وفي المقابل، يطالب اليسار بأطيافه الاشتراكية التقليدية والحديثة بعدم التخلي عن البعد الاجتماعي للسوق الرأسمالي وبالمزج بين مقتضيات تنافسية القطاع الخاص في أوروبا وخارجها وبين حماية الفقراء والطبقات الوسطى من خلال تطبيق نظم ضريبية تصاعدية (وبها ترتفع نسبة الضريبة المستحقة إلى الدخل مع ارتفاع الدخل) وإقرار ضرائب الأرباح الرأسمالية (أسهم البورصات مثالا) وضرائب الأصول العقارية المتوارثة (منازل الأسر المتوارثة نموذجا) التي تستطيع الحكومات أن توجه حصيلتها إلى شبكات الأمان والخدمات لغير الأغنياء وإلى تمويل التحول الأخضر، أي الاتجاه نحو الاعتماد على مصادر متجددة للطاقة وأنشطة اقتصادية (صناعية وزراعية وخدمية وتكنولوجية ومعلوماتية) منخفضة الانبعاثات الكربونية والحرارية.
تواجه أوروبا اليوم أزمات اجتماعية وسياسية تعصف بمجتمعاتها وتدلل على حيرة مواطنيها بشأن النموذج الأفضل لإدارة شؤونهم وهوية عيشهم المشترك وطبيعة نظم حكمهم
وتلقي الوضعية الراهنة في ألمانيا صاحبة الاقتصاد الأكبر من بين دول أوروبا الكثير من الضوء على تناقضات السياسات الاقتصادية المقترحة من قبل قوى اليمين الراغبة في نظم رأسمالية بلا حدود إنسانية أو اجتماعية أو بيئية ومن قبل قوى اليسار الباحثة عن المنافسة في السوق الرأسمالي دون نسيان الفقراء والطبقات الوسطى وحقوق الأجيال القادمة التي حتما ستتحمل كلفة التخريب البيئي الذي رتبته في البدء ثورات الأوروبيين الصناعية والتكنولوجية قبل أن تعولم وتتجه من القارة العجوز غربا إلى أمريكا الشمالية ثم شرقا إلى آسيا بمراكزها الاقتصادية الكبرى في اليابان وكوريا والصين (بالترتيب التاريخي للصعود الصناعي والتكنولوجي).
فالائتلاف الحاكم في برلين يضم الحزب الديمقراطي الحر، وهو صاحب توجه يميني مناصر لرأسمالية لا حدود لها وقريب سياسيا من المصالح المالية (البنوك) والشركات الصناعية الكبرى (شركات السيارات) التي تطالب بخفض الضرائب، وبالحد من كلفة شبكات الأمان الاجتماعي الضمانات الاجتماعية، وبتوجيه الاستثمارات الحكومية إلى تطوير القاعدة الصناعية والتكنولوجية دون كثير اعتبار لمسألة الطاقة المتجددة أو لأولوية خفض الانبعاثات الكربونية والحرارية. وبالائتلاف الحاكم أيضا حزب الخضر المعبر عن اليسار الحديث المتبني منذ سبعينيات القرن العشرين لقضايا العدالة الاجتماعية والعدالة البيئية والسلام العالمي، وهو وأن ورطته المشاركة في الحكم في تأييد تقديم ألمانيا لدعم عسكري لأوكرانيا في حربها الحالية مع روسيا والموافقة على زيادة غير مسبوقة في موازنة الدفاع ومخصصات الجيش الألماني إلا أنه يرفض بشدة خفض الضرائب على الأغنياء، ويعارض توجيه الاستثمارات الحكومية إلى الصناعات التقليدية، ويطالب بإعطاء الأولوية في السياسات الاقتصادية لتقوية شبكات الأمان الاجتماعي ولتمويل الاستثمار في مصادر الطاقة المتجدده ومواجهة تداعيات التغير البيئي. وبين الحزبين وبين الموقفين اليميني واليساري من السياسات الاقتصادية، يقف حزب المستشار أولاف شولتز، الحزب الاشتراكي الديمقراطي ممثل اليسار التقليدي، عاجزا وغير قادر على الفعل الحكومي المنظم إن في اتجاه تحرير السوق الرأسمالي من كل القيود الإنسانية والاجتماعية والبيئية لتعزيز التنافسية أو في اتجاه استعادة التوازن الاجتماعي لاقتصاد السوق وتحقيق عدالته البيئية.
وإذا كانت هذه، وكما تدلل عليها الوضعية الراهنة في ألمانيا، هي العناصر الاقتصادية للأزمة الكبرى التي تعاني منها القارة العجوز في عشرينيات القرن الحادي والعشرين، فإن أوروبا تواجه أيضا اليوم أزمات اجتماعية وسياسية تعصف بمجتمعاتها وتدلل على حيرة مواطنيها بشأن النموذج الأفضل لإدارة شؤونهم وهوية عيشهم المشترك وطبيعة نظم حكمهم. في جنوب القارة وشمالها كما في شرقها وغربها، يتساءل أوروبيو اليوم عن حدود العلاقة بين دولهم الوطنية وحكوماتهم المنتخبة وبين الاتحاد القابع في بروكسل بحكومة قارية غير منتخبة ذات صلاحيات واسعة وبرلمان منتخب ولكن محدود التأثير.
يتساءل الأوروبيون، ثانيا، عن مضامين العقد الاجتماعي الذي يراد منه تنظيم العلاقة بين الأغنياء وبين الفقراء ومتوسطي الدخل، بين المواطنين الأصليين وبين المجنسين والمقيمين واللاجئين، بين المتحمسين للهويات الوطنية وبين مناصري الاندماج الأوروبي وعولمة لا تخشى الارتحال والهجرة واللجوء، بين رافضي وجود الأجانب ودعاة وضع الأسلاك الشائكة على الحدود وإغلاق أبواب الهجرة واللجوء من شعوبيين ويمنيين متطرفين وعنصريين وبين المتمسكين بإنسانية أوروبا وانفتاحها على الآخر من خارجها وتمكينه من القدوم إليها دون خوف (وأيضا لاحتياجات سوق العمل).
يتساءل الأوروبيون، ثالثا، عن نظام الحكم الأفضل في القرن الحادي والعشرين وفاعلية حكوماتهم المنتخبة ديمقراطيا والتي تتنازعها، من جهة، قوى اليمين الليبرالي والمحافظ واليسار الاشتراكي وقوى اليمين الشعبوي والمتطرف وقوى اليسار الراديكالي وتفرض عليها أزمات متتالية.
وبسبب تراكم الأزمات الاقتصادية والتراجعات الاجتماعية، يشيع بين الأوروبيين قدر من التشكيك العام، تدلل عليه استطلاعات الرأي الراهنة، في قدرة الحكومات المنتخبة على التغلب على معدلات النمو المنخفضة ومعدلات التضخم المرتفعة والقلق المستمر من قضايا الهجرة واللجوء، وهو ذلك القدر من التشكيك الذي تستغله القوى الشعبوية والمتطرفة لتمرير نقدها الجذري للديمقراطية وتفتيت نموذجها.
كاتب من مصر
قد يكون هناك خلافات في الرؤى حول طرق عمل الرأسمالية وبالتالي اختلاف في الوصفات من أجل إصلاحها، لكن ليس من الوارد أن يكون الجهد متجها نحو البحث عن بدائل لها على الأقل في المستقبل المنظور.
مرحبا استاذ عمر ،، لك كل التقدير والاحترام
أحرص أن أقرأ لك بين فترة وأخرى وفي كل مرة أتمنى أن القى عمقاً أكبر وبناء أقوى
الكلام دون إحصائيات واستدلالات ومستندات داعمة رقمية لا يعطي قوة ودليل سداد رأي ولإقناع في وجهة النظر ويكون الحديث اقرب الى إنطباعات فاقدة لقيمتها ووزنها