من يحكم العالم الآن المال أم السلاح؟

لطالما سخرنا من الجبروت العسكري الروسي، ولطالما رددنا أن روسيا عملاق عسكري وقزم اقتصادي، وأنها رغم كونها أكبر دول العالم مساحة، إلا أنها تقبع وراء كوريا الجنوبية اقتصادياً. وكم استشهدنا بمقولة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما الذي قال إن روسيا ليست دولة عظمى بل مجرد قوة إقليمية بمنزلة إسبانيا أضعف الدول الأوربية اقتصادياً. لكن هل الذين كانوا يستهينون بقوة روسيا العسكرية، هل كانوا على صواب، أم إن الغزو الروسي لأوكرانيا وتحديها للشرق والغرب الآن بات يثبت العكس تماماً. وكي لا نطلق أحكاماً قاطعة، تعالوا نقارن بين الموقفين، فالذين يعتقدون أن روسيا أقدمت على مغامرة كارثية غير محسوبة في أوكرانيا ما زالوا يؤكدون أن الاتحاد السوفياتي الأب الروحي للرئيس الروسي بوتين كان يمتلك قنابل نووية قادرة على تدمير العالم ثلاثاً وثلاثين مرة، لكنه في ليلة ليلاء سقط وتناثر كأحجار الدومينو، ولم تنقذه ترسانته النووية الجبارة من الانهيار، ولم تطعم شعبه المسحوق المنتوف خبزاً.
ويجادل الساخرون من الاتحاد الروسي الآن أن روسيا وقعت في الفخ الذي وقع فيه الاتحاد السوفياتي من قبل في أفغانستان، وأن نهاية اللعبة الأوكرانية ستؤدي إلى تفكيك الاتحاد الروسي نفسه كما أدى غزو أفغانستان إلى تفكيك الاتحاد السوفياتي لاحقاً. لكن المدافعين عن الموقف الروسي يردون بالقول إن مقارنة غزوة أفغانستان السوفياتية مع غزوة أوكرانيا البوتينية مقارنة خاطئة تماماً، فالاتحاد الروسي الآن ليس الاتحاد السوفياتي، وأن أوكرانيا ليست أفغانستان، ناهيك عن أن الجيش الأحمر هذا المرة بات يقترب من العواصم الأوروبية ويهددها ليس فقط بالقوة العسكرية الغاشمة بل أيضاً بسلاح الطاقة، وأوروبا نفسها تبدو مهيضة الجناح بلا حول ولا قوة.

لا أحد في أوروبا مستعدا أو قادرا على التورط في مواجهة العملاق الروسي عسكرياً. وحسب الشعوب الأوروبية هذه الأيام الشكوى من ارتفاع الأسعار والتدهور المعيشي واضطراب نمط الحياة الرغيدة الذي تسبب به الغزو الروسي لأوكرانيا

إن الغزو الروسي لأوكرانيا في واقع الأمر لم يفضح روسيا بقدر ما فضح أوروبا والغرب كله حسب المدافعين عن روسيا، وأظهره بمظهر الثري الضعيف الذي لا يستطيع أن يحمي ثروته من البلطجية. صحيح أن أوروبا تتفوق على روسيا بمراحل اقتصادياً ومالياً وصناعياً وتكنولوجياً، إلا أنها تبدو الآن في مواجهة الدب الروسي الزاحف إلى حدودها، تبدو في وضع يائس لا تحسد عليه مطلقاً، وأن عقوباتها الاقتصادية والمالية على روسيا مجرد صرخة يأس لا أكثر ولا أقل، ولا يمكن أن تؤثر مطلقاً بالدب الروسي المستعد أن يستخدم كل مخالبه، بينما لا يستطيع الأوروبيون أن يفعلوا أي شيء باستثناء تقديم الدعم العسكري والمالي لأوكرانيا من بعيد. لا أحد في أوروبا مستعدا أو قادرا على التورط في مواجهة العملاق الروسي عسكرياً. وحسب الشعوب الأوروبية هذه الأيام الشكوى من ارتفاع الأسعار والتدهور المعيشي واضطراب نمط الحياة الرغيدة الذي تسبب به الغزو الروسي لأوكرانيا. بعبارة أخرى، فإن أوروبا نسيت الحروب منذ الحرب العالمية الثانية ولا تريد استئنافها، وهي تستثمر معظم طاقاتها في الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا والرفاهية، بينما كان الروس يكدسون السلاح ويطورون الترسانات العملاقة كي يهددوا بها الشرق والغرب في يوم من الأيام. وهذا ما يحصل الآن بالضبط. ولعل المواجهة الروسية الأوروبية الآن تذكرنا بوضع فرنسا في مواجهة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، فبينما كان النظام النازي يطور قدراته العسكرية الفتاكة، كانت فرنسا تنعم بالملذات. وكان لهتلر تصريح شهير أثناء اجتياحه فرنسا مفاده “أنه عندما كانت فرنسا تصنع العطورات في باريس كنا نحن نصنع القنابل في برلين”. ما أشبه الليلة بالبارحة، فالأوروبيون يبدون الآن أشبه بالبطة العرجاء أمام آلة الحرب الروسية، ولا حول لهم سوى إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا سياسياً وإعلامياً، لا بل أصبحوا ينافسون العرب في ديباجات الإدانة والشجب والاستنكار السخيفة التي باتت موضوعاً للتندر والسخرية.
وكي لا ننسى، فالغزو الروسي لأوكرانيا ليس المرة الأولى التي تهدد فيها روسيا أوروبا بصفاقة، فقد بثت قناة فرنسية قبل فترة تفاصيل اللقاء الخطير قبل سنوات طوال بين الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولاي ساركوزي والرئيس الروسي بوتين في موسكو، فقد بدأ ساركوزي حديثه مع بوتين وقتها بطريقة استفزازية وانتقد فظائعه في الشيشان، وطالب باحترام حقوق الإنسان في روسيا، وظل بوتين صامتاً، وبعد أن انتهى الرئيس الفرنسي من انتقاداته ومواعظه لروسيا، قال له بوتين: “أنا استمعت لك جيداً، وأقول لك الآن إن لديك خيارين، إذا تكلمت معي بهذه الطريقة مرة أخرى سأسحقك سحقاً، وإذا تأدبت يمكن أن أعينّك ملكاً على أوروبا”. لاحظوا مدى استخفاف بوتين بالأوروبيين. وقد خرج ساركوزي من لقائه ببوتين مذهولاً ومهزوزاً بعد تهديدات الأخير السافرة له ولأوروبا. وقد بدا ساركوزي في مؤتمره الصحافي بعد اللقاء مضطرباً، وقد ظن البعض أنه كان ثملاً، مع أنه لا يتناول الكحول، لكن صدمته من تهديدات بوتين جعلته يبدو أشبه بالسكران. ومن الواضح الآن أن بوتين يتعامل مع أوروبا بنفس الطريقة التي تعامل بها مع ساركوزي، كما تذكرنا كلماته لساركوزي بكلمات هتلر قبل اجتياح فرنسا.
في الختام، من هو برأيكم صاحب الرأي الأصح، الذين يعتقدون أن بوتين يقود روسيا إلى الانهيار وأن الغرب سيهزمه كما هزم الاتحاد السوفياتي والنازية من قبل، وأنه من المبكر معرفة مصير الصراع الحاصل الآن بين روسيا والغرب على ضوء التكتل الغرب غير المسبوق في وجه الدب الروسي الهائج، أم الأصح هم أصحاب الرأي القائل إن مسلمات كثيرة قد سقطت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وأن السلاح والغزو العسكري هذه المرة قد يهزم التفوق الاقتصادي والمالي والتكنولوجي، وهو الذي سيعيد تشكيل العالم، وأن الذي يواجه الخطر الآن ليس بوتين صاحب مشروع أوراسيا الامبراطوري، بل أوروبا العجوز الخائفة التي نسيت فنون الحرب ولا شغل لها الآن سوى اللطم والعويل؟

٭ كاتب واعلامي سوري
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول اثير الشيخلي - العراق:

    الذي يحكم العالم هي العقول
    و ما المال و السلاح الا وسائل
    فإن كانت العقول التي تحكم خير كانت تلك الوسائل خير و بركة
    و ان كانت العقول التي تحكم شر تحولت تلك الوسائل إلى أدوات شر و قمع
    ..
    و للأسف من يهيمن اليوم على حكم العالم هي العقول الشريرة
    و الذكاء الخبيث.
    و هذا ما يحصل للعالم دوماً طالما هو مبتعد عن المنهج الالهي و عن حكم المسطرة الربانية التي وضعها الله للبشرية و جعل لها مطلق الخيار في اتباعها او رفضها
    فإن اتبعتها عمرت الأرض و عاش الناس حياة طيبة و من أعرض عنها و خالفها فسدت الأرض ببرها و بحرها و عاش اهليها معيشة ضنكى
    و هذا ما يحصل اليوم للأسف.

  2. يقول نضال / سوريا:

    من خلال تعليقي السابق…
    و جوابا على سؤال المقال
    يمكن الإستنتاج أن الطابع الغالب على الحروب المستعرة الطاغية
    ‘القديمة الحديثة ‘
    هو ‘إرهاب السحر’.. فهو “سلاح” محرم على البشر بأمر رب البشر الله رب العالمين.. ، و يستخدمه كثير من ‘البشر’ ضد بعضهم و الطغاة منهم
    يدعمونه بشتى أنواع
    الفساد و خاصة في قتل النفس التي حرم الله..
    طاعة للشيطان و تقربا له..
    لينصرهم على بعضهم البعض… ليكونوا في الآخرة معه في الجحيم المقيم…
    فقد أقسم اللعين لله بعزته
    أنه سيغوينا أجمعين…
    { قال فبعزتك لأغوينهم
    أجمعين٠ إلا عبادك منهم المخلصين٠ قال فالحق
    و الحق أقول٠ لأملأن
    جهنم منك و ممن تبعك
    منهم أجمعين } ص 82.83.84.85

    فهي حرب بين أولياء الشيطان و أولياء الله..
    و حيث أنه: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه
    فلا تخافوهم و خافون
    إن كنتم مؤمنين } آل عمران 175.
    فالسلاح الخارق المقابل
    هو سلاح الإيمان بالله الخالق وحده لا شريك له..
    قوته تكون بالعبودية له ،
    و تنقية العقيدة من
    الشرك بأنواعه…
    و الحمد لله
    رب العالمين.

  3. يقول نضال:

    من خلال تعليقي السابق…
    و جوابا على سؤال المقال
    يمكن الإستنتاج أن الطابع الغالب على الحروب المستعرة الطاغية
    ‘القديمة الحديثة ‘
    هو ‘إ ر ها ب الس ح ر’.. فهو “سلاح” محرم على البشر بأمر رب البشر الله رب العالمين.. ، و يستخدمه كثير من ‘البشر’ ضد بعضهم و الطغاة منهم
    يدعمونه بشتى أنواع
    الفساد و خاصة في قتل النفس التي حرم الله..
    طاعة للشيطان و تقربا له..
    لينصرهم على بعضهم البعض… ليكونوا في الآخرة معه في الجحيم المقيم…
    فقد أقسم اللعين لله بعزته
    أنه سيغوينا أجمعين…
    { قال فبعزتك لأغوينهم
    أجمعين٠ إلا عبادك منهم المخلصين٠ قال فالحق
    و الحق أقول٠ لأملأن
    جهنم منك و ممن تبعك
    منهم أجمعين } ص 82-85

    فهي حرب بين أولياء الشيطان و أولياء الله..
    و حيث أنه: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه
    فلا تخافوهم و خافون
    إن كنتم مؤمنين } آل عمران 175.
    فالسلاح الخارق المقابل
    هو سلاح الإيمان بالله الخالق وحده لا شريك له..
    قوته تكون بالعبودية له ،
    و تنقية العقيدة من
    الشرك بأنواعه…
    و الحمد لله
    رب العالمين.‏

  4. يقول وليد السمور:

    من خلال قراءاتي لما بين سطورك دكتور وبتمعن وصلنا الجواب واضح المعالم لأن الساذج زيلينسكي أحرق بلده بالكامل بعدما ضحك عليه الأمريكان
    أما أوروبا العجوز والعاجزة عن خوض مغامرة خاسرة سلفآ فوق الأراضي الأوكرانية بدأت تتحسس بالعجز الاقتصادي لنقص في الطاقة والتراجع عن العديد من العقوبات ..ولعل الزعيم الاقتصادي في أوروبا وأعني ألمانيا بدأت تفكر جديآ بحماية رأسها من الانهيار قبل فوات الأوان

  5. يقول ابو ياسر:

    لم يترك لروسيا أي خيار.
    الأمن القومي لروسيا يستلزم تحييد أكرانيا نهائيا كعضو في حلف النيتو.
    أصبحت أوكرانيا خنجرا بيد أمريكا.
    أكيد أن خريطة أوكرانيا ستتغير وفق التوازنات العسكرية بين الغرب وروسيا.
    والاكيد أن الحرب على أوكرانيا هي بداية نهاية الهيمنة الأمريكية على العالم.
    نتمنى أن نستفيد كعرب من تبعات هذه الحرب .لانهاء حرب اليمن وليبيا ونسهل عودة سوريا دولة موحدة

  6. يقول محمد شامي:

    لما بدك تسب على واحد بسبب قلة فهمه بتقو عنه دب..وهذا الدب الروسي فعلا دب..وراح يخسر ويتدمر

  7. يقول الواقعي:

    كما استغلت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب العالمية الثانية لبسط نفوذها على اوروبا بخطة (مارشال ) ، فان الحرب الروسية – الأوربية في اوكرانيا حاليا ستمكن الولايات المتحدة من استرجاع هيمنتها على اوروبا لمنع اي تعاون اقتصادي بين روسيا و اوروبا ، ينافسها على المستوى العالمي. قوة النظام الليبيرالي الغربي تكمن في كونه يستعمل العصا و الجزرة بينما النظام الشمولي في موسكو يستعمل العصا فقط لكونه لا يستثمر الا في صناعة سلاح التدمير بخلاف الصين مثلا التي حولها دينغ كشياو بينغ الى مصنع تكتسح منتجاته كل بلدان العالم .

1 2 3 4

اشترك في قائمتنا البريدية