يقول شاعر فلسطين الكبير الراحل، محمود درويش، في مطلع واحدة من الأجمل بين قصائده الجميلة الكثيرة: «أثَرُ الفراشةِ لا يُرى، أثَرُ الفراشةِ لا يزولْ». وقد أحسن المناضل الفلسطيني الوطني، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية الأسبق، ياسر عبد ربّه، حين أقرّ أن تُنقش كلمات هذا المقطع فوق ضريح محمود، المُسجّى عند قمّة المتحفِ البالغِ الأناقة، والذي يحمل اسمه، في مدينة رام الله.
لا يُنقِصُ من جمالية وعُمق هذا المقطع الشعري، كونه «توارد خواطر» ربما، أو كونه مقتبساً، (ربّما، للمرّة الثانية) من جملة أوردها عالِم الرياضيّات والمتنبّئ الجوّي الأمريكي، إدوارد لورينز، سنة 1972، في محاضرة له في ندوة بعنوان «التّنبؤ الجوي وقدرة التّنبؤ الحاسوبية» في مدينة بوسطن، عاصمة ولاية ماساتشوستس الأمريكية، قال فيها: «يمكن أن يؤدي تحرّك جناح فراشة في الأمازون، الى تشكّل عاصفة في تكساس».
هذا عن شؤون الطبيعة، وشؤون الشِّعر، وعن الأثر البالغ الضّخامة الممكن، لحدث طبيعي بالغ الصِّغَر. فماذا عن أحداثٍ سياسيةٍ جِسام، ليست بفعل الطبيعة، وإنما بفعل طبائع البشر، أو قل بفعل قرارات لقادة تاريخيين، في دول عظمى تملك قدرات عسكرية واقتصادية، تهيمن بفضلها على شعوب ودول وقارّات؟
آخر هذه القرارات الجِسام، ذات الأثر البالغ على كامل الأوضاع في عالم اليوم، هو قرار فلاديمير بوتين، بـإطلاق «العملية العسكرية الخاصّة» ضد أوكرانيا، يوم 24 شباط/فبراير 2022، لتجعل من ذلك الحدث، بداية لعالم جديد، مختلف عن العالم الذي سبقه.
بهذا المعنى، (وسواءٌ في ذلك من يرى فيه تطوراً إيجابياً أو سلبياً) فإنه يضع عام 2022 في مصافّ سنوات وأعوام غيّرت وجه العالم، من مثل سنة 1492، التي شهدت اثنين من الأحداث العالمية الأكبر: 1ـ خروج العرب من الأندلس، و2ـ وصول كريستوفر كولومبوس الى الشاطئ الأمريكي، واكتشاف «العالم الجديد».
مثل ذلك أيضاً سنوات وأعوام لاحقة، لعلّ أهمها:
1) سنة 1914، تفجّر الحرب العالمية الأولى، ثم انتهاؤها إلى:
ـ انتصار ساحق لأمريكا ودول أوروبا الغربية الإستعمارية، وغياب روسيا القيصرية لانشغالها بمشاكلها الداخلية، وبالثورة البلشفية، التي «أنجبت» الاتحاد السوفياتي.
ـ فرض «نظام عالمي» جديد.
ـ انهيار وزوال الإمبراطورية العثمانية.
ـ تشكيل «عصبة الأمم» والمحكمة الدولية.
ـ تقطيع مشرق العالم العربي، وخاصة «بلاد الشّام/سوريا الكبرى» وتشكيل أربعة كيانات: سوريا الصغرى، ولبنان، وشرق الأردن، وفلسطين.
ـ إصدار «وعد بلفور» للحركة الصهيونية العنصرية، وتكليف عصبة الأمم للإنتداب البريطاني على فلسطين، بتحقيق ذلك الوعد.
هكذا، وبضربة واحدة، تمكنت الدول المنتصرة في تلك الحرب، ليس فقط من اختراع وتشكيل شعب للحركة الصهيونية العنصرية، بل بتشكيل أربعة شعوب إضافية هي الشعوب السورية واللبنانية والأردنية والفلسطينية، رغم أنها في واقع الحال شعب واحد. ودعمت هذه الدول الغربية الاستعمارية الحركة الصهيونية العنصرية ومكّنتها من الاستفراد بالشعب الفلسطيني. (وأنصح، في هذا السّياق، بقراءة كتابَين لأُستاذ التاريخ، شلومو زاند، اليهودي سابقاً، وهما «اختراع الشعب اليهودي» و«اختراع أرض إسرائيل»).
كان خلاص بلاد الشام، وكل المشرق العربي، (وكل المغرب العربي أيضاً) من نير وظلم وتخلف الإمبراطورية العثمانية «نعمة» بالغة الأهمية، لكن وقوع عالمنا العربي، مشرِقَه ومغرِبَه، على السّواء، بفعل قياداته المتخلّفة، تحت نير الاستعمار الغربي الأوروبي المباشر أساساً، والأمريكي اللاحق أيضاً، لم يكن مجرّد «نقمة» فقط، بل كان «نَقَمات» كثيرة متواصلة حتى يومنا هذا.
يجيء دور الدول العربية التي يتوجب عليها التعاون لضمان الاستفادة من هذه الأحداث، ليس للانتقال من حضن دولة عظمى الى حضن دولة عظمى ثانية، بل لممارسة حقّ الأمة العربية في مقعد على مائدة المفاوضات التي يتم فيها رسم خريطة عالم المستقبل
2) سنة 1939، تفجّر الحرب العالمية الثانية، ثم انتهاؤها إلى:
ـ انتصار ساحق للاتحاد السوفياتي وأمريكا ودول أوروبا الاستعمارية، (دول الحلف).
ـ هزيمة ألمانيا النازية، و(دول المحور) وتقسيم ألمانيا.
ـ فرض «نظام عالمي» جديد، هو «نظام عالم القطبين» وانطلاق «الحرب الباردة». ثم لحق بذلك انطلاق «حركة عدم الإنحياز».
ـ تشكيل «هيئة الأمم المتحدة» وريثة لعصبة الأمم.
ـ تمكين الحركة الصهيونية العنصرية من إقامة كيان سياسي، هو «دولة إسرائيل».
ـ إلحاق «نكبة» بالشعب الفلسطيني، وتكسير وحدته.
3) سنة 1991، انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي أدّى إلى:
ـ انتهاء الحرب الباردة.
ـ فرض «نظام عالمي» جديد، هو «نظام القطب الواحد».
ـ استفراد أمريكا وتابعيها بالعراق وسحقه وتقطيعه، وحلّ الجيش العراقي.
ـ عقد «مؤتمر مدريد» و«جرّ» إسرائيل اليه. ولحق بذلك، ونتج عنه، عقد «اتفاقية أوسلو» التي لم تنجح القيادة الفلسطينية في جعلها قاعدة انطلاق لإقامة الدولة الفلسطينية، كمرحلة على طريق استعادة الشعب الفلسطيني لكامل حقوقه الطبيعية المشروعة.
في مسلسل السنوات المذكورة: 1492، 1914، 1939، 1991، التي شكّلت بدايات لنُظُمٍ عالمية جديدة على أنقاض ما سبقها، كانت الأمة العربية، بكل شعوبها، (والشعب الفلسطيني خاصة) في المعسكر الخاسر، لأسباب عديدة، أهمّها على الإطلاق، الغياب الكامل وانعدام المبادِرة الى أي فعل، وانحصار دورها على ردود أفعالِ ومبادرات أممٍ وشعوب ودول أُخرى، حيث تولّت هذه القوى الفاعلة، (سواء كانت في المعسكر المنتصر أو المهزوم) المفاوضات التي يتم فيها رسم الخرائط والحدود، ووضع استراتيجيات قواعد العمل السياسي والعسكري، وتقاسم المنافع.
نصل هنا الى سؤال: ماذا عن الحاضر وعن المستقبل؟
واضح تماما أن النتائج التي ستترتب على مبادرة روسيا العام الماضي، (2022) بإطلاقها لـ«العملية العسكرية الخاصّة» ستكون مغايرة لما انتهت اليه أحداث السنوات الأربع المذكورة. وسينتهي هذا الصراع، بالتأكيد، الى فرض نظام عالمي جديد، على أنقاض نظام القطب الواحد، الذي بدأ بالترنّح منذ اليوم الأول لانطلاق تلك «العملية» وهو الأمر الذي جعل أمريكا تفقد توازنها، وتضخ دعماً عسكرياً واقتصادياً غير مسبوق لأوكرانيا، في محاولة لتأخير إزاحتها من التفرّد على قمّة هرم العالم.
نتعلّم من دروس التاريخ، أنه في مثل ظروف أحداث هذه الأيام، لا بديل عن المبادرة. وهنا يجيء دور الدول العربية الثلاث، ذات الوزن النوعي: مصر والسعودية والجزائر، التي يتوجب عليها التعاون لضمان الاستفادة من هذه الأحداث، ليس للانتقال من حضن دولة عظمى الى حضن دولة عظمى ثانية، بل لممارسة حقّ الأمة العربية في مقعد على مائدة المفاوضات التي يتم فيها رسم خريطة عالم المستقبل.
كاتب فلسطيني
اود ان اطرح سوءال على الكاتب وأرجو ان يخصص مقالًا منفردًا في المستقبل:
هل قرر السيد ياسر عرفات الدخول في مفاوضات أوسلو وتقديم تنازلات لانه كان يشعر بان زعامته كانت مهددة وذلك لظهور قوى وقيادات فلسطينية قد تزاحم قيادته في المستقبل ؟
ادعو السيد عمر علي ان يقرأ التاريخ جيدا منذ ما يسمى الثورة العربية الكبرى عام ١٩١٦ حتى دخول صدام حسين الكويت ومرورا بحافظ الاسد والقذافي ومجازر ايلول وتل الزعتر وخروج الثورة الفلسطينية من بيروت ومن ثم طرابلس وحصار المخيمات لأدرك ما الذي اجبر عرفات على شرب كاس علقم اوسلو. ابن كانت الزعامة البديلة في هذا كله؟ اتقوا الله في ياسر عرفات واطلبوا لروحه الرحمة
بعد سايكس بيكو استغل الغرب تعصب كل من حصل على قطعة من الكعكة لقطعته وزودهم بأسلحة ودعم اقتصادي وعواصم (زيارات مبعوثين امم متحدة وناتو وسي اي ايه مكوكية املائية سمسارية) متهما عدو صهيون اللدود ب”إقامة دولة داخل دولة” وراح ضحية تأمين حدود آمنة لدولة صهيون ودويلات انتعاشية منتفعة شعب أبي. فلا يمكن لمقاتل عاش لا يقر ولا ينام، طريدا مشردا أن يأبه لمنافسة على كريسي متآمر عليه ويكاد به أصلا!
غزو روسيا لأوكرانيا أعاد تشكيل أحلاف الحرب الباردة مع فروق لصالح العالم الحر بانضمام دول شرق وشمال أوروبا لحلف الناتو وإتحاد أوروبي وتموضع دول آسيا الوسطى بالفضاء التركي ومقابل انحياز الصين لروسيا وتستعين دول جنوب شرق آسيا بحلف الناتو ضد عدوان الصين على مناطقها الإقتصادية وبقيت دول العرب وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بكتلة عدم إنحياز وعاد الغرب لمغازلة 49 دولة إسلامية فيها أهم ممرات تجارة دولية بري وبحري وجوي وأهم ممرات كوابل اتصالات دولية وأكبر احتياطات وإنتاج نفط وغاز وهي أهم موارد لإقتصاد العالم
شكرا أخي على تذكيرنا بما تطورت إليه أحداث التاريخ في 500عاما من خط سير، البشرية
صعوداً أو هبوطاً، والمؤسف أن عقلية ونفسية واجتماعية وثقافية القبيلة، غلبت على مفهوم
الدولة الحديثة، لهذا لم نكن على طاولة مفاوضات المنتصر،ولا نزال في الألفية الثالثة على نفس
تلموال، ننتقل من سيد إلى آخر أتباع للتطبيع ورضا العم سام .
مقال جيد، فعلا تستطيع الدول العربية الثلاث (السعودية – الجزائر – مصر) – إن تعاونت – أن تعيد صياغة التاريخ للأمة العربية لما لها من تاريخ وقوة …
مقال تذكيري رائع مشكورين القدس العربي والكاتب. نعم هذه فرصة ذهبية بحكم مواقع وأهميات جيوسياسية (الجزائر على أفريقيا وشمالها خاصة ومتخامة أوروبا، مصر قناة السويس والمتوسط، السعودية المحج(قطب العالم الاسلامي) والنفط) وممتلكات ثرواتية، ولكن دون اعتبار موقف كل من تركيا والباكستان واندونيسيا وماليزيا؟! فثقل الهند أمام الصين وبالتالي أمام روسيا، وكذلك كوريا الجنوبية واليابان و تايوان ومن بعيد استراليا لا يستهان به.
روسيا ستخرج منهزمة ومحطمة من هذه العملية. فهم لا يجرؤون حتى أن يسموها حربا. فالصين التي يعول عليها الجميع لا زالت في حاجة إلى أمريكا أكبر سوق للصادرات الصينية. لا تحولوا التمنيات إلى وقائع.
نعم، ولكن لن تعود مصانع الغرب التي توطنت في الصين، ولن تعود أسعار البضائع العدة من 1 يورو أو دولار الى 5 أضعاف لأن اقتصاد المدنية والحرب في الغرب يرتكز على الصين!
ام يساوم نيلسون مانديلا على حرية شعبه. اود آن أذكر هذه الحادثة:
بعد عقد اتفاقات أوسلو نظم فريق من الفلسطينين ومن اليهود الموءيدين لاسراءيل احتفال في نيويورك
وكان الجميع يرقصون رقصة الهاغيلا ناغيليا. وقد استغرب الكثير من هذا الحدث وبداء السوءال يطرح هل كانت اتفاقيات اوسلو خديعة ام ماذا؟