اختار الصحافي أحمد إفزارن عنوانا مثيرا لإصداره الأخير، ونعني به «مهاجر إلى الصحافة». العنوان يحمل في ثناياه معنى دالا، بل معاني دالة من خلال الإسناد العجيب، الممثل في إسناد الهجرة إلى الصحافة، باعتبار هذه الأخيرة فكرة ودلالة، وليس مكانا أو حيزا جغرافيا تشد إليه الرحال.
نعلم جميعا أن العنوان عتبة أساس، تستوقفنا قبل ولوج عوالم النص المرشح للقراءة، بغض النظر عن جنسه الأدبي أو منزعه الفكري، سواء كان بحثا أكاديميا أو رواية، أو قصة أو قصيدة، أو لوحة تشكيلية، أو سواها من الأعمال الأدبية. «مهاجر إلى الصحافة» نص سيري بصيغة الجمع، صدر في الآونة الأخيرة عن مطبعة إفزارن في طنجة، يروي فيه صاحبه تجربة حياته الاجتماعية والمهنية، على امتداد 245 صفحة، وهي بالمناسبة تجربة قاسية، تبعث في جوانب كثيرة منها على الحسرة والألم، تتصادى إلى حد ما مع تجربة صاحب «الخبز الحافي» محمد شكري من قبيل الهجرة والمجاعة وانتشار الأمراض والأوبئة، والتحكم الذي مارسه الاستعمار الفرنسي في مدن وقرى المغرب، بما في ذلك مكناس وضواحيها، كما مارسه الاستعمار الإسباني في الريف وشمال البلاد وجنوبها. هناك أيضا أكثر من خيط ناظم يحكم تجربتي شكري وإفزارن، من حيث زمن وتاريخ وقوع الأحداث وقيامها علامة على حياة ومسار كل واحد منهما، حسب البيئة والمحيط الاجتماعي اللذين نشآ وترعرعا فيهما، لكن في مرحلة واحدة تجايلا فيها.
«مهاجر إلى الصحافة» جاءت مبوبة في قرابة 220 عنوانا فرعيا، زاوج فيها «الكاتب» الصحافي بحسه المهني ولغته الإعلامية، بين أسلوب السخرية اللاذع والتورية بتعبير البلاغيين، وظف الكاتب في ذلك الجمل القصيرة، أو لنقل اللقطة أو الومضة، لاقتناص تفاصيل واقع مضطرب، يحكي عنه الكاتب المفترض ضمن سردية ذاتية، يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، وفق تقاطعات زمانية ومكانية، تشمل محددات جغرافية وتاريخية. هدفها التأشير إلى وقائع وأحداث، نسجت خيوطها أساليب النصوص المبثوثة بين دفتي المؤلف «هجرة إلى الصحافة» بلغة مباشرة أحيانا وبمعجم عار أحيانا أخرى. جل نصوص المؤلف، موضوع قراءتنا، متوالية سردية، تخضع لمنطق معادلة صعبة، يندغم فيها الواقعي بكل تناقضاته بالوازع الخيالي، مما يفسر أن «مهاجر إلى الصحافة» سيرة ترصد العناصر الدقيقة في تمظهراتها اليومية التي تحاول جاهدة الدنو من حياة الكاتب المتعددة، مذ كان طفلا يافعا إلى أن اشتد عوده واستوى نموه فأصبح رجلا قادرا على رفع التحديات، وما أكثرها بالنسبة لطفل قروي، قادم من الهامش، ومنقطع عن الدراسة في بداية التحاقه بالصف الثانوي. وتمضي «السيرة الذاتية» لأحمد إفزارن في سرودها/ مستعرضة تلك اللحظات التاريخية الصعبة والمعقدة، التي مرّ منها المغاربة عامة وأبناء الريف خاصة، بسبب عوامل موضوعية كثيرة، نذكر منها ظروف الحرب العالمية الثانية، وتغلغل الظاهرة الاستعمارية، وانتشار الحروب والمجاعة والأوبئة، ولعل ما عرض لهؤلاء – في طليعتهم صاحب السيرة – من أهوال ومآس، جعلت الحياة في شكلها البسيط وفي شروطها الدنيا أمرا عسير المنال إن لم يكن مستحيلا.. الحياة في كنف هذا الوضع المتقلب والصعب، رسمت لنفسها صورة قاتمة، جراء ما ذكرناه من العوامل، الأمر الذي ترتبت عنه هجرات جماعية من القرى والمداشر المهمشة والنائية، صوب المدن الكبرى والحواضر، بحثا عن شروط عيش أفضل، وبحثا عن الأمن والاستقرار.
من قرية إلى أخرى ومن مدينة إلى مدينة، تكبر مع أحمد إفزارن الحكاية، مستلهمة استطالة الأحداث التي عركته وعركت تجربته في الحياة، فانتظر طويلا قدام أبواب ومداخل الإدارات والمكاتب، بحثا عن تلك اللحظة الهاربة، التي ما ينفك يمسك بتلابيبها حتى تنفلت من بين أصابعه المرتعشة.. وكأن قدر الرجل ممارسة الغواية والتشبث – إلى أقصى الحدود – بحبل الأمل السري، مهما كبر حجم المغامرة، فمن رحم الرحلة التي انطلقت من مكناس في اتجاه الرباط، ارتسمت معالم وخرائط البحث عن الذات. مع كل مرور عبر الجغرافية أو حدث، يذكر أحمد المكان المرجعي قرية «رأس جيري» التي عرف فيها النور، ففيها خرج إلى هذه الدنيا «الآثمة» وسلك المعابر والطرقات والشعاب الوعرة.. تحت سماء القرية البلورية الشاسعة، يروي الزمن سيرته وسيرة مجايليه من أبناء وبنات القرية، الذين اقتسم وإياهم الملح والخبز والشعور بالعوز، وعايش قصة رضاعة عمته «فاطمة» من ثدي أمها بعد أن فارقت الحياة.. حليب الموتى من الأمهات والخالات ينقذ حياة الرضع في سياق هجرة بشرية مؤلمة.. حالة بشرية نادرة الوقوع، تحمل في تضاعيفها شعورا ذا طعم مر كالعلقم. تنمو فيها مخالب الجوع والعطش والوهن كل يوم، بل كل ساعة لتستدرج الطفل أحمد إلى الاستئناس بأكل التراب. «قد ينتصر الحذاء المثقوب» بهذه العبارة الدالة يمنّي أحمد النفس، فيتقوى لديه الإيمان برفع التحدي ومهما كانت الصعاب، ومهما انتصبت في وجهه الحواجز. عبارة «الحذاء المثقوب» سوف تلازم الطفل أحمد، وتحمله على الانخراط المبكر في ركوب المغامرة، مغامرة البحث عن شروط «حياة صغيرة» البحث عن ظروف عيش بسيطة، تسعفه في العثور على موطئ قدم هنا أو هناك، إذ أمست جل الأمكنة إن لم نقل كلها مجردة من ذاك الدثار الذي يفتش عنه أحمد، كي يحتمي من عاديات الدهر، من حالة العوز التي لازمت حياته طويلا..
فكيف لطفل شريد رأته أمه في المنام راكبا فرسا أبيض، ونشأ في بيئة شحيحة ومقترة في كل شيء يصل إلى بر الأمان، ويمتهن الصحافة ويبلي فيها البلاء الحسن؟ لقد أقنع الطفل المشاكس نفسه بضرورة التعليم الذاتي، فكان له ما أراد.. لكن الطريق ليست ـ دائما ـ مفروشة بالورد كما يقال.. إذ سيؤدي أحمد إفزارن (الكاتب المفترض) ثمن مغامراته غاليا، اعتبارا من فترة انقطاعه عن الدراسة والتحاقه بالرباط العاصمة، لا يلوي على شيء عدا دراجته الهوائية التي اصطحبها معه على متن القطار في تلك الرحلة الموعودة التي انطلقت من مكناس..
شظف العيش وقصر اليد جعلا أحمد الوافد على مدينة الرباط يمر بظروف قاسية، متنقلا بين المقاهي، متسكعا، ذارعا الدروب والحواري والأزقة، لكن مع ذلك، فان حلم الانعتاق والحرية والخروج من شرنقة البحث عن الاستقرار، ومباشرة مهنة المتاعب (الصحافة) لم يبرح قلبه وعقله ولو للحظة واحدة. تحد مثل هذا، يستوجب التحلي بالصبر الجميل، والتسلح بعزيمة وإرادة فولاذيتين.
اختار أحمد إفزارن أيضا المشي في الزحام، ممنيا النفس بالذهاب بعيدا في رحلاته العجيبة المكلفة، التي ما أن تنتهي فصول إحداها حتى تبدأ فصول الأخرى.. أليس صاحبنا مؤلفا لقصص الخيال العلمي؟ نعم، شغف الرجل بأساليب الكتابة في مجال الخيال العلمي، الأمر الذي أسعفه في نقل وصوغ تجارب التقط تفاصيلها بخياله الميال إلى التجريد، لكنه تجريد يمتزج فيه الخيال بالمنجز العلمي، بحيث لا تفقد قصصه تلك الروح الخفيفة التي تأسر قارئها بحبكتها وقوة استعاراتها. لعل عنوان مجموعته القصصية الموسومة بـ»غدا» كناية على استشراف المستقبل، في محاولة لا تخلو من فرادة للإمساك بخيوط الأيام الهاربة.. تلك الأيام التي شكلت موضوع البحث والتنقيب عن ملامح زمن آت لا محالة، لكن احتواءه وضمان سيره، وفق مشيئة الكاتب، أمر ينطوي على عنصر الترقب والنباهة وحسن الاستعداد والمراقبة لعقارب الساعة حتى لا يخلف الميعاد.
عود إلى بدء، نسجل بأن «مهاجر إلى الصحافة» سجل حافل بأيام صاحب السيرة وصيرورة الذكريات التي ارتبطت في مجمل تفاصيلها بشخوص وأسماء وأعلام، ينتسبون إلى مجالات الفن والأدب والإعلام، وسوى ذلك من صنوف الثقافة والمعرفة. الجمع بين العمل الصحافي والكتابة في جنس قصص الخيال العلمي بالنسبة للكاتب تحد، سعى بكل ما يملك من طاقة فنية وذهنية إلى رفعه. ساعده في ذلك إيمانه المبدئي وقناعته الراسخة بالانخراط في العمل ولا شيء غير العمل. لعل الاشتغال الموصول الحلقات والكد والمثابرة عوامل من شأنها تعبيد الطريق أمام صاحبها لبلوغ المرام، مهما كان حجم الصعاب وعلو المتاريس التي قد تعرض له، ولا سيما في اللحظات الطارئة والمفاجئة.
«مهاجر إلى الصحافة» شهادة ميلاد الصحافي أحمد وليس شهادة إقبار أو نفي للذات المكابرة نحو تخوم النسيان. وبما أن الشيء بالشيء يذكر كما تقول العرب، فأحمد إفزارن الصحافي الذي أطلق جريدة ورقية أسبوعية من طنجة، تحت مسمى « الخضراء» بعد فصله عن العمل في محطة راديو ميدي 1، كان مسكونا بالبعد البيئي ومدركا لأهميته لدى الإنسان فوق كوكب الأرض، لذلك فاختياره للعنوان المشار إليه ليس من باب الصدفة، أو من باب الترف اللغوي، بل كان وعيا منه بجدوى نظافة وسلامة البيئة التي يعيش فيها الكائن البشري.. فالشعور بالمسؤولية تجاه ما يلحق البيئة من أضرار، عامل حاسم في تحريك الوجدان والخيال والعقل للاشتغال، سعيا وراء إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. من نافلة القول نذكر أن صاحب «مهاجر إلى الصحافة» استضاف عالم المستقبليات الفقيد المهدي المنجرة على صفحات منبر «الخضراء» في عدة حلقات ولاقت اهتماما لافتا من قبل جمهور القراء، وتركت صدى طيبا في نفوس قراء وقارئات الأسبوعية الورقية «الخضراء» آنئذ.
هذه القراءة لا تفي بجهود الرجل وبما قدمه للصحافة المغربية، المكتوبة والمسموعة، نستطرد قائلين، ما أحوجنا اليوم إلى الاطلاع على كتابات وسير الإعلاميين الذين راكموا تجارب في ميادين اشتغالهم، سواء اتفقنا مع أطروحاتهم أو لم نتفق، فالعبرة استلهام تلك التجارب وقراءتها قراءة نقدية متفحصة للمرور إلى بناء وتشييد تجاربنا الخاصة، التي تعنى بمهنة الصحافة في عمق امتداداتها التربوية والثقافية والاجتماعية.
كاتب من المغرب
مزيدا من الإبداع