يتناول كتاب «أمة على رسلها» لمها محمد الفيصل، الذي صدر قبل أسابيع قليلة عن مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية؛ إشكاليات الحداثة المادية المعاصرة في أكثر من وجه، وهي إشكاليات في ما تبدو للقارئ كما لو أنها شذرات متفرقة في نقد الحضارة الحديثة، إلا أنه حال التعمق في ما وراء سطورها سيقع القارئ على منهجية متماسكة لقول نقدي رصين يتركز الخطاب فيه على معاينة دقيقة لهوية حداثة، وصفتها ذات مرة؛ الباحثة الجزائرية نورة بوحناش بأنها «فسخ العقد مع الغيب» تتجلى آثاره واضحةً في اغتراب الإنسان الحديث وما تفرزه حالة الاغتراب حيال ماهية الإنسان، وحالة اللامعنى التي تكتنف غاية وجوده في الرؤية المادية لهذه الحداثة.
هكذا يعكس كتاب «أمة على رسلها» انخراطاً في أسئلة حول الذات والآخر في هذه الحداثة منظوراً إلى كل منهما وفق قراءة نقدية لجدل التأثير والتأثر من داخل الزمن المحايث للحداثة، لكنها، في الوقت ذاته؛ قراءة متجاوزة لمعهود ما درجت عليه الكتابات العربية، بحيث لا يبدو ذاك الاشتغال النقدي على مسألة الحداثة في الكتاب مجرد نبرة احتجاجية فحسب، وإنما كاشتغال على تفكيك النماذج التفسيرية لأسس حداثة لا يزال المجتمع المعاصر يتمثل نظم إدراكها، كمرجعية مادية حاكمة لرؤيته، فيما لا تتوفر تلك المرجعية الحداثية، حسب الكاتبة، على استحقاق نظري رصين ومقنع بهويتها العالمية، وإنما فقط عبر دعوى تفرض ضرورة المحاكاة برسم السلطة التقنية المادية للعالم المعاصر، وهي في الحقيقة حداثة تمثل نهاية مادية مغلقة لحلقات تحول تاريخي بدأ في الغرب، من عصر النهضة مروراً بالإصلاح الديني فالتنوير وصولاً إلى الحداثة.
والكتاب إذ ينطلق من مبدأ تفسيري مغاير في مساءلة مسلمات الحداثة عبر سياق نقدي جذري ومختلف؛ يستبطن، في الوقت ذاته، رؤيةً فكرية لا تسلم بالسردية، التي تحاول تفسير صيغة الحداثة كحضارة عالمية واحدة وأخيرة، وإنما تجادل تلك الرؤية التي تنطلق منها المؤلفة؛ بأن ما حاولت أن تجيب عنه الحداثة، وفق سرديتها المادية المعاصرة حيال أسئلة تتصل بمفاهيم مثل؛ الوجود – المعنى ـ الحقيقة – الأسرة ـ السلطة ـ والدين، وإنما كان في جوهره انعكاساً مشوهاً وعنيفاً لثمرة تطلع حر ومطلق في الغرب المسيحي «من قبضة ثنائية الخطيئة والخلاص» ولا يعنى بضرورة التسليم بأن الأصول المادية للحداثة، هي فروض قيمية وأبستمولوجية، توجه العقل البشري بما لا فكاك منه حيال أي صياغة لمسلماته، إلا وفقاً للشك الديكارتي. ومن هنا ترى المؤلفة أن ديكارت ذاته بمبدأ الكوجيتو (أنا أفكر إذن أنا موجود) جعل «من العقل موطناُ للكينونة» حين فصل تفكير الإنسان عن جسده، محيلاً العامل السيكولوجي جوهر اليقين والمرجعية العليا لتفكير الإنسان. وقد كانت لهذه المقولة عواقب لم يتوقعها ديكارت نفسه».
وفي محاولتها لتلمس الجذور الخادعة لكلمات مثل «عالمية» التي توخاها التوسع الاستعماري للغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأسبغ عليها في ما بعد عنواناً لحداثته الكونية اليوم؛ ترد المؤلفة أصل كلمة عالمي إلى معنى كلمة « كاثوليكي» التي تعني عالمي في اللاتينية، ومن ثم تربط المؤلفة بين كلمة عالمي وكلمة حضارة «حيث خرج مفهوم الحضارة عند الفرنسيين كاستجابة لإلحاح الفكر القومي المهيمن على أوروبا ما بعد المسيحية في القرن التاسع عشر، الذي مثل نابليون الإفراز السياسي الأهم له.
بمعنى آخر، يمكن القول إن ما تنتقده المؤلفة ضمن ما سمته «مسار فكر الغرب ما بعد المسيحية» أي الحداثة، إنما هو تطور لنظم إدراك ظلت باستمرار عاجزةً عن «خلق مفاهيم وبناء تصورات ذهنية بديلة يناط بها حل إشكال كبير، ألا وهو عدم وجود مرجعية أخلاقية وقيمية متاحة «بعد إزاحة التقليد الديني القديم وتصوراته الكلية التي كانت حاكمة للأطر التي سيجت بمنظورها القديم مجتمعات أوروبا المسيحية. وهذا في تأويل آخر؛ يعني أن المؤلفة على مدار كتابها تنعى تلك الفكرة المركزية الممجدة للحداثة بوصفها وكالة إنسانية مستقلة عن الغيب، حين تجعل من الإنسان ذاتاً وموضوعاً في الوقت نفسه، «ففي غياب أي مرجعيات أخرى أصبح الإنسان مرجعاً لذاته». ومن خلال نقد هذا المنظور الكلي العاجز للحداثة، ترد المؤلفة مختلف الثغرات التي يكشف عنها التصميم المادي لتفسير الظواهر في ميادين شتى للحياة الإنسانية تجلت فيها إشكالات مؤسِسة لإعادة إنتاج أزمات البشر. وهنا تحديداً نقع على تلك الحجج التي تقدم بها المؤلفة نقداً لتلك الإشكاليات والسرديات المضللة والناتجة عن ذلك التصميم في بلورته لأفكار مثل: الفردية ـ العولمة ـ الهوية ـ الحضارة ـ الثقافة، حيث تعكس خزيناً وافراً لمعطيات يحيل نقدها العميق بوضوح إلى مكمن ذلك العطب الأساسي للحداثة؛ أي ماديتها! ومن هنا يمكن الاحتراز بالقول؛ إن أي قراءة تحاول أن تدرج هذا الكتاب ضمن سياق مرجعي مادي حديث في مساءلة محتواه النقدي الجذري للحداثة، لا يمكنها أن تستوعب إدراكاً لطبيعته القائمة على مقاربة في النقد، تنطلق من رؤية مفاهيمية مدركة لحججها الواعية، في الرهان على ذكاء القارئ اللماح وقدرته على فرز القيمة التي ينطوي عليها هذا النقد، كلما عكف ذلك القارئ ملياً على تحليل مضمونه وفق ما يترجح لديه من خلاصات تضعه أمام اختبار معرفي محفز باستمرار على قراءة ما وراء سطور الكتاب، مستفيدةً من مرجعيات وافرة قديمة وحديثة، في نقد الحداثة والحضارة الغربية، تضع المؤلفة مها محمد الفيصل قارئ هذا الكتاب أمام عمل نقدي شديد الخصوبة والعمق، ليس فقط لجهة تأكيد رؤيتها النقدية الجذرية للحداثة (وهي رؤية تتقاطع فيها مع رؤى عديدة لمفكرين كبار في الغرب) وإنما كذلك لتبيَّنَ بوضوح؛ كيف أن ما تساءل عنه أولئك المفكرون الغربيون وعاينوا رصده في أبحاثهم من أزمات وعلل المجتمع الحديث، دون قدرة على اقتراح الحلول؛ هو في الحقيقة مما يمكن الإجابة عنه حضارياً في مرجعية حضارية أخرى (الحضارة العربية) لكن الذي يعيق إبانة تلك المرجعية عن رؤيتها الأصيلة بجدارة واستحقاق؛ يكمن في أبناء هذه الحضارة العربية المعاصرين أنفسهم، أي المفكرين العرب، وطريقة استقرائهم المعطوبة للحداثة، على نحو لا ينتج ثماراً معرفية متى ما أراد أولئك الأبناء «العمل على الهجرة إلى لسان فكري آخر يضمن لهم حياة الغرباء.
وفي محاولتها لتلمس الجذور الخادعة لكلمات مثل «عالمية» التي توخاها التوسع الاستعماري للغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وأسبغ عليها في ما بعد عنواناً لحداثته الكونية اليوم؛ ترد المؤلفة أصل كلمة عالمي إلى معنى كلمة « كاثوليكي» التي تعني عالمي في اللاتينية، ومن ثم تربط المؤلفة بين كلمة عالمي وكلمة حضارة «حيث خرج مفهوم الحضارة عند الفرنسيين كاستجابة لإلحاح الفكر القومي المهيمن على أوروبا ما بعد المسيحية في القرن التاسع عشر، الذي مثل نابليون الإفراز السياسي الأهم له، ولا ننسى أن هذا الإحساس قد أتى بعد الثورة الفرنسية والهدم الكامل لسطوة الكنيسة بحس ثوري عالمي يدعو إلى تشكيل جديد لماهية الإنسان ذاته بعيداً عن الفهم الكنسي للإنسان، وهذا المشروع العالمي أخذ مكان عالمية الكنيسة الكاثوليكية». ومن هنا يمكن تفسير ما أضمره العقل الباطن للاستعمار من رسالة متحضرة للرجل الأبيض أي «عبء الرجل الأبيض» نحو المستعمرات في آسيا وافريقيا. لكن اصطدام مفهوم المسار الحضاري العالمي بوحشية الحرب العالمية الأولى بين الأوروبيين، وبالخصوص داخل أوروبا ذاتها، أظهر مفهوماً بديلاً له نتيجةً لتلك الحرب؛ هو مفهوم الثقافات القومية، الذي سرعان ما أدى بدوره إلى ظهور تعبيرات سياسية فاشية متطرفة، كالنازية التي كانت سبباً في الحرب العالمية الثانية. ولهذا تفسر المؤلفة المسيرة الفكرية الشاقة للغرب الحديث على أنها «محاولة لإيجاد التوازن، الذي فقد بفقدان الدين كوازن ومنطلق حضاري ما استلزم بناء لأسس، ثم ضرورة هدمها في سبيل بناء أسس معدلة، وما زلنا في الإرهاصات المزلزلة لهذه التدابير». ومن خلال التتبع النقدي لمفهوم «الثقافة» و»الحضارة» وملامح تشكلهما في الغرب الحديث تربط المؤلفة نقدها للحداثة كصيرورة حديثة لكل من مفهومي «الثقافة والحضارة» في الغرب. فجوهر تلك الحداثة التي تعيشها مجتمعات العالم اليوم هو تصور مادي للإنسان الحديث قام عليه: «بناء فكري هائل صيغت على أسسه القوانين وحددت به معايير النجاح والفشل. وقد خُدِم هذا الفهم المادي بشكل محكم وتام؛ حيث تحولت المؤسسات الكبرى السياسية والتعليمية إلى تبنِّي منظور تلك الأمثولة المادية اللادينية، بل أُنشئت بفضله أنساقٌ مجتمعية مبتكرة، ومنها خرج تصوُّرٌ جديد لطبيعة الأسرة، وصياغة مختلفة للعلاقات في داخلها». وعبر هذا السياق النقدي تحاكم المؤلفة الحداثة عبر منظور حجاجي مغاير ينطلق من أساس ينتقد سيادة العقلانية المطلقة، كونها أصل فكرة الحداثة القائمة على «نقد المقدس كموضوع للمساءلة العقلية والتجاوز، إذ لا وجود لفعل يخترق حدود التاريخ» حسب نورة بوحناش، وبالتالي وفق هذا المنظور النقدي ترى المؤلفة ـ وهي محقة ـ أن المقاربة الوضعية للدين والوحي في المنظور المادي الذي تقترحه الحداثة لحياة الإنسان، مقاربة لا تتصل في جوهرها بأي رؤية موضوعية، أو منطق عقلاني، فليس كل ما هو خارج إدراك العقل ليس بحقيقة، كما لا يعني أنه ليست هناك مقاربة تأويلية أخرى يمكن أن يقر بها العقل في هذا الصدد. ولذلك لا تسلم المؤلفة بوضع الدين، ضمن إطار تقاليد العالم القديم التي تجاوزتها الحداثة، والتي من خلال أزعومة تجاوزها للدين وقعت في تناقضات لانهائية ناشئة من رؤية مركزية صنعها الإنسان الحديث لنفسه فأصبح ذاتاً وموضوعاً في الوقت نفسه، ومن هذه الإشكالية تتجلى كل الأزمات التي تترتب على الفلسفة المادية للحداثة.
يعيب الكتاب على الحداثة غياب التماسك في رؤيتها المادية، فتجاوز الدين عبر القطيعة العقلانية للحداثة لا يعني إهداراً للقيم المؤسسة لبنية الحياة البشرية التي لا يتصور معها أي سوية متماسكة للاجتماع البشري، فمفهوم كمفهوم الأسرة التي تملك أهمية مطلقة لمطلق سوية العلاقات الإنسانية ظل كذلك حتى بعد قرون من قطيعة الحداثة مع الدين، بمعنى آخر؛ أن المبدأ القيمي كهوية ناظمة وضرورية لحياة البشر هو مبدأ لا يمكن تصوره مطلقاً بمعزل عن دين ذي أصل سماوي، ولذلك تتعجب المؤلفة من بقاء قيمة إنسانية عليا كالأسرة قائمة حتى الآن في المجتمع الغربي، حين تقول «والعجيب هو الإبقاء على شكل الأسرة حتى الآن في مجتمعات تفاخر بمحاربتها للتقاليد والدين» ذلك أنه مهما بدت القطيعة مع الدين في المنظور المادي للحداثة، فإن ثمة قيما عليا حاكمة لهوية البشر من حيث كونهم بشراً، وهي قيم أرساها الدين للمجتمع البشري في تاريخ سحيق من عمر البشرية، فالأسرة كنظام ممسك لهوية الحياة الإنسانية من الفوضى والتشوهات، هي حقيقة لا يمكن بمعزلها تصور حياة سوية للإنسان تدرجه في حيز البشر الأسوياء، متى ما تربى ذلك الإنسان خارج نظام الأسرة مثلاً. ذلك أن الأسرة هي وحدة إنسانية يصعب تصور حياة سوية للإنسان دونها. وتصور المؤلفة لتأكيد هذه الحقيقة المتصلة بالأسرة الإنسانية يقترب من تأويل رؤية الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس في كتابه بعنوان (بين النزعة الطبيعية والدين) الذي أثار جدلاً كبيراً، إذ يرى هابرماس – عبر اعترافه بدور للدين في المجال العمومي ـ أن ثمة فرقاً مهماً بين المجال العمومي والمجتمع المدني، بخلاف تعريف هيغل للمجتمع المدني، حيث أن المجتمع المدني في تصور هابرماس «يكون نابعا من عمق العلاقات الاجتماعية بما هو أرقى مستويات الجماعة الطبيعية: (الأسرة)».
تكشف المؤلفة عن قراءة مثيرة للتأمل وهي تعيد اعتباراً جديداً لمفهوم القبيلة كموضوع اجتماعي يمكن أن يكون راهناً ومعاصراً، وليس كوحدة في نظام تقليدي للقدامة. فمحاولة الكاتبة لإعادة اعتبار معاصر للقبيلة تتجاوز النموذج التفسيري الجاهز لقاموس الحداثة، لتحدق عميقاً في أواصر الاستثمار الرشيد لمؤسسة القرابة بعيداً عن سلبيات الحمية والعصبية، وتلك جوانب إيجابية ممكنة التفعيل من خلال ضبط عواطف القرابة الخيرة في العلاقة العضوية للنسب بين أفراد القبيلة.
تكشف المؤلفة عن قراءة مثيرة للتأمل وهي تعيد اعتباراً جديداً لمفهوم القبيلة كموضوع اجتماعي يمكن أن يكون راهناً ومعاصراً، وليس كوحدة في نظام تقليدي للقدامة. فمحاولة الكاتبة لإعادة اعتبار معاصر للقبيلة تتجاوز النموذج التفسيري الجاهز لقاموس الحداثة، لتحدق عميقاً في أواصر الاستثمار الرشيد لمؤسسة القرابة بعيداً عن سلبيات الحمية والعصبية، وتلك جوانب إيجابية ممكنة التفعيل من خلال ضبط عواطف القرابة الخيرة في العلاقة العضوية للنسب بين أفراد القبيلة. ولكي تشرح المؤلفة معنى القيمة الاعتبارية الإيجابية للقبيلة؛ تقارن مفهوم النسب عبر الإسقاط الذي تستعيره له في علاقة معاصرة لأحد أهم تعبيرات الانتظام المدني الحديث (الحزب السياسي) كـ»نسب أيديولوجي مُحدث، تعبر عنه الانتماءات السياسية الحركية، حيث يمكن أن تتجلى فيه ما كان يُعرف بحميَّة الجاهلية في أبشع صورها». وفي سياق مؤكد لرؤية المؤلفة حيال إعادة تأويل معاصر لمفهوم القبيلة، يمكننا الاحتجاج بمفردة «شعب» التي يرجع تعريف جذرها اللغوي القديم لتجمع كبير في نظام النسب القرابي عند العرب في الجاهلية، فالشعب هو الوحدة القرابية الأكبر من القبيلة كما جاء في التراث بأن «مضر هي شعب رسول الله» (مضر مجموعة كبير من قبائل العرب العدنانية) لأن نسل عدنان كان يتكون من شعبين هما «مضر وربيعة» لكن الاستخدام السياسي في العصور العربية الحديثة ما بعد الاستعمار لمفردة «شعب» هو الذي جعل من تحيين مفردة «شعب» مفهوما سياسيا، إلى جانب العناصر الحديثة التي صاحبت ظلال الكلمة/ المصطلح من ترجمة كلمة « شعب» في اللغات الغربية. ولا نتصور أن من شأن هذا التأصيل والتأويل الجديد لمفهوم القبيلة مثلاً؛ أن يعكس بالضرورة تصوراً نقيضاً للمفاهيم السياسية الحديثة التي كرسها الانتظام المدني كمفهوم الحزب، لكن في الغالب الأعم تشير المؤلفة لأزمة الانتماء الشكلي للهويات الحديثة في واقع سياسي متخلف. ذلك أن مفهوم « الشعب « الذي المحنا إليه آنفاً، هو ذاته المفهوم الذي تقوم عليه كيانات الدول المعاصرة. فكما أنه ليس بالضرورة أن يكون الجانب العصبي لقرابة القبيلة محدداً حصرياً لهويتها، كذلك ليس بالضرورة أن يكون التعصب الأيديولوجي للحزب علامة لملامح الانتماء الحزبي بالضرورة.
في نقدها للإطار المادي العام الذي صممته الحداثة للبشر بعد فسخ عقدها مع الغيب، تربط المؤلفة التداعيات المحايثة لغياب المرجعية الإلهية بما ينجم عن غيابها من اختلال وتدمير مستمر لحياة البشر، فإذا كان الدين قديماً يقوم على استعانة الإنسان في حياته بعبادة الإله، من خلال عقائد إيمانية تعطى معنى لحياته وتمنحه ثباتاً وتوازناً، فإن المرجعيات المتغيرة للحداثة في مقاربتها لحلول أزمات الإنسان الحديث تلجأ إلى « الحلول العلاجية السيكولوجية في تنظيم حياته، وليس إلى الثوابت الدينية الأخلاقية. ففي غياب كامل للحقائق العلوية الثابتة للدين التي تنبني عليها فكرة الصواب والخطأ، وفكرة الحدود والمقدس، لا يجد الإنسان إلا ذاته كي يتكئ عليها». وهكذا تحل فردية الإنسان التي تتمركز حول ذاته، محل فردية الإله، فيما تحل تعددية مرجعيات الحداثة المتغيرة محل الإله الواحد.
إن الملاحظات المعرفية التي نتجت عنها حقائق كثيرة في أبحاث العلوم الإنسانية أثبتت أن أزمات الإنسان المعاصر، وعدم نجاعة المبدأ العلاجي فيها تشكل مأزقاً حقيقياً ومستمراً للحياة البشرية، لأن أي تحفيز للإنسان على تجريب بلا حدود يفتح أمامه إغراءً بكل التجاوزات، استناداً إلى نجاعة المبدأ العلاجي، « فليس له إلا العلاج السيكولوجي كي يداوي به العواقب المؤلمة لهذه التجاوزات. ويقول رييف: إن هذا الفرد السيكولوجي المنعتق من فكرة الحدود، يفهم الفضيلة على أنها كل ما يساهم في زيادة النشاط وسرعة الحركة. والسؤال الذي لا بد أن يُطرح هو: هذا الفرد الذي يمضي قدما بنشاط وحيوية مسرعا يمضي إلى أين؟». ولتأكيد العلاقة الجدلية بين المرجعيات الإنسانية المتغيرة والمتعددة للحداثة، والانسدادات التي تكشف عن اللامعنى واللاغائية في الحياة المادية الحديثة للبشر اليوم تستشهد المؤلفة بتصريح نادر للفيلسوف الألماني الكبير مارتن هايدغر أدلى به لمجلة «دير شبيغل» الألمانية ـ وطلب نشره بعد موته ـ قال فيه إن «وجود إله وحده هو ما يمكنه أن ينجينا!» وهو عين ما تنقله المؤلفة لفقرة أخرى من كتاب «الزومبي في الثقافة الغربية: محنة القرن الحادي والعشرين » لفرفيكي حيث يقول «يمكننا التنبؤ بشيء من الاطمئنان ودون الاحتياج إلى قدر كبير من التخيل بأن هذا الهجوم المتدرج والكاسح والمستمر لقوى اللامعنى سيستمر في تهديدنا وإصابتنا بالعدوى، وذلك في غياب أي مظلة من مقدس جديد». ولعله أهم تفسير لذلك الضياع واللامعنى الذي يلابس وجود الإنسان في عصر الحداثة هو ما وصفته الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت بأن أزمة الإنسان في العالم الحديث تكمن في «فقدان العالم واجتثاث الإنسان منه» ذلك الاجتثاث الذي تسببت فيه التشكلات الفكرية والمفهومية للعصر الحديث!
في نقدها للإطار المادي العام الذي صممته الحداثة للبشر بعد فسخ عقدها مع الغيب، تربط المؤلفة التداعيات المحايثة لغياب المرجعية الإلهية بما ينجم عن غيابها من اختلال وتدمير مستمر لحياة البشر، فإذا كان الدين قديماً يقوم على استعانة الإنسان في حياته بعبادة الإله، من خلال عقائد إيمانية تعطى معنى لحياته وتمنحه ثباتاً وتوازناً، فإن المرجعيات المتغيرة للحداثة في مقاربتها لحلول أزمات الإنسان الحديث تلجأ إلى « الحلول العلاجية السيكولوجية في تنظيم حياته، وليس إلى الثوابت الدينية الأخلاقية.
يمكننا هنا ملاحظة أن المؤلفة مها الفيصل في كتابها تنتبه لأحداث ربما بدت تبدو ثانوية في نقدها الحداثة من منظور مغاير، لكن متى ما تأملناها نجدها تملك وجاهة شبيهة، في بعض وجوهها، بملاحظات الفيلسوفة حنة أرندت على الحداثة حيث تناولت الأخيرة بعض أسباب اغتراب الإنسان في العالم الحديث عبر أحداث تبدو ثانوية لكنها عميقة جدا. فمثلاً تلاحظ حنة أرندت، «أن الإصلاح الديني لعب دوراً كبيراً في فكرة اغتراب الإنسان حين صادر أراضي الكنيسة وحول فئات الأقنان إلى فئات عريضة من الحشود التي لا تتوقف عن شغل يضمن لها بقاءها ويرمم وعيها المأزوم بانقطاع صلتها بالعالم، فحدث الإصلاح الديني حين قوض فكرة الوساطة بين العبد والله مهد بذلك الطريق أمام انشغال الإنسان الحديث عن فكرة العقاب الأخروي» و في هذا المعنى تؤكد المؤلفة مها محمد الفيصل عبر سرد تاريخي؛ كيف أسس شارلمان للإقطاع حيث تقول المؤلفة «إن الدولة (الكارولينجية) هي من أسست لنظام الإقطاع الأوروبي، بالإضافة إلى أنها هي التي ابتدعت تلك العلاقة بين حكام أوروبا والكنيسة الكاثوليكية، وريثة روما الحقيقية. فقد أخذ الملك (بيبن) المشهور ببيبن القصير أبو شارلمان، الحكم من السلالة (الميروفينجية) بشرعية مستمدة من الكنيسة وتُوِّجَ ملكًا بفضلها. وتباعًا منح الملك بيبن البابوية أراضي عُرفت بهبة بيبن The Donation of Pippin (وهي الأراضي التي تأسس عليها ما عُرف بالدولة الكنسية) The Papal State ما مهد لتدخل الكنيسة في شؤون الحكم، ومن ثم؛ الصراع بين القوى الدينية والقوى السياسية التي عصف بأوروبا لقرون».
على مدار فصول كتابها الذي جاء في حوالي 250 صفحة، تطرح المؤلفة مها محمد الفيصل ملاحظات نقدية تأصيلية يصعب تتبعها جميعاً هنا، لكنها عسكت ربطاً منهجياً بين فصول الكتاب، وهي تتناول أحداثاً مفصلية من التاريخ القديم والمعاصر لأوروبا على نحو يصحح الكثير من القضايا الفكرية والتاريخية؛ مثل حركة الترجمة في الحضارة العربية للتراث الفلسفي الإغريقي، واستبطان أوروبا الغربية لمفاهيم الشرق المسيحي والإسلامي، والترجمة العربية الخاطئة لمفهوم عصر النهضة الأوروبي، إلى جانب أفكار أخرى غنية بالجدة وتستحق التأمل في هذا الكتاب. يمكن وصف هذا الكتاب بأنه قراءة نقدية ثاقبة لعلل الحضارة الحديثة عبر تتبع الجذور التاريخية والمنهجية لتلك العلل، وفي الوقت نفسه؛ دعوة للبحث عن وعي متحرر من آثار هيمنة الهزيمة الفكرية للباحثين العرب أمام الحداثة؛ يمكنَّهم من ابداع حداثة عربية لابد منها، لكن، في الوقت نفسه، نتصور أن ثمة ملاحظتين أغفلهما الكتاب؛ تتصل أولاهما بغياب نقد ظاهرة التخلف التي يعيشها العالم العربي منذ قرون ـ وهي الظاهرة التي وصف أحد مظاهرها المفكر الجزائري مالك بن نبي بمفهوم القابلية للاستعمار، الأمر الذي جعل مالكاً يضع مشروعه الفكري تحت عنوان: «مشكلات الحضارة» – والملاحظة الثانية؛ غياب التأكيد على ضرورة البحث عن مقاربة لتفاعل إيجابي مع معارف الحداثة انطلاقا من الاشتغال على وعي اللحظة الفكرية والتاريخية للعرب، وذلك باجتراح رؤى معرفية للدين قادرة على إنتاج منهجيات جديدة في سبيل تسكين العلاقة المتوترة بين العرب والحداثة بسبب التخلف، وهي منهجيات تملك مرجعية نظرية صلبة من داخل حقل العلوم العربية/ الإسلامية (نظرية مقاصد الشريعة) لإنتاج فضاء مشترك يتمثل كثيراً من القيم الانسانية التي أنتجتها الحداثة بوصفها قيما إسلامية أصيلة كفكرة السلم العالمي مثلا !
كاتب سوداني
شكرًا أخي محمد جميل أحمد على هذا العرض الوافي؛ ونرجو قراءة النصّ كاملًا في قابل الأيام والليالي.صاحبة السّمو الأميرة مها الفيصل غنيّة عن التعريف؛ فحين تقرأ آخر رواياتها: { طرب / 2010 } تكتشف أنك أمام قلم متمييزيبحث عن الجديد الأصيل وسط كم غفير من التحديّات؛ في عالم الرّواية العربيّة المعاصرة.فهي لا تكتفي بالسرد بل تضمنه من التاريخ الحيّ ما يغنيه عن مضطرم الحاضر…لتكون روايتها المنار للسّفن وهي وسط ضباب البحر.وبهذا القياس ألمس خصوصيّة مؤلفها الجديد: أمّة على رسلها.وصدق فيها قول المتنبيّ: { تُشرق تيجانه بغرّته…….إشراق ألفاظه بمعناها }.