مهرجانات، مؤتمرات، منتديات، لقاءات، تتدفقُ سنوياً على الجمهور العربي بحيوية مطلقة، وتؤطر الواقع المعيش للشعر بأشكاله وموضوعاته، بين العراق ومصر والأردن والمغرب والسودان وغيرها، ويُعَدُّ انعقاد هذه النشاطات بحدّ ذاته حدثاً ثقافياً رائعاً ومفيداً جداً، على الرغم من كل شيء، يسعدُ القلب ويشي بالمتعة الفكرية والحسية للذائقة الجمالية عند الجمهور، كما يعيد العافية إلى مشهد حضاري من مشاهد الثقافة العربية، بعد الانقطاع القسري بسبب الوباء. لكنّ عودة هذه الصورة الجميلة يجب أنْ لا تكون سبباً مقنعاً ومدهشاً إلى الحدّ الذي نغفل معه عما تراكم من إشكاليات عديدة، تتعلق بتلك المهرجانات أو المؤتمرات. من المفيد التأكيد هنا على أنّ المهرجانات العربية تختلف عن اللقاءات الأخرى في الاصطلاح. فالمهرجانات تنهض أساسا على أمسيات الشعر، إلقاء ومشاركة وتكريما لبعض الشعراء وفق تجاربهم، مع بعض النشاطات الثقافية الأُخرى ومنها، بعض الجلسات النقدية، التي تتخللها وإن بصورة خجولة وخارج الضوء، قياساً على التألق والأضواء التي تحظى بها الأمسيات فعلاً وتفاعلاً، بفعل خصوصية الإلقاء وحماسة التشجيع.
كانت هذه المهرجانات في بداياتها منبراً حقيقياً للإبداع والمواقف معاً لشعراء كبار كأدونيس أو محمود درويش أو الجواهري والبياتي أو نزار قباني والفيتوري وغيرهم، ممن كانت لهم تجاربهم الخاصة، المتألقة الاختلاف، التي قدمت حينئذ تياراً واعياً في مساحات الضرورة الإبداعية في لغة الشعر العربي، وتفعيل اتصالها بالجمهور، وصقل ذائقته الجمالية بشكل دائم، بالتوازي مع توثيق اهتماماته الوطنية والقومية، ونقلت إلى منابر الشعر صورة محسوسة عن الواقع الأليم الذي عاشته الأمة من المحيط إلى الخليج، مثيرة كل صيغ المواجهة الخاصة والعامة مع النظام العربي، أينما تخاذل أو تآمر على شعوبه، فكانت قصائد بعضهم سبباً مهماً في منعه من الدخول إلى وطنه، أو السفر إلى بلاد عربية أخرى كنزار قباني مثلا، أو كمظفر النواب الذي لم يجد إلا بيروت ملجأ له مع قصائده التي اعتُبِرَتْ مستفِزّة وهي تهاجم الواقع العربي المهزوم، كما هو طبق الأصل. حدثتْ مع الوقت تغيرات كبرى في عمق الثقافة العربية دون شك، وباتتْ تلك المهرجانات محورَ سوءِ فهمٍ مُشترك وجماعيّ لمعنى المناسبة الشعرية في شكلِ ومضمونِ نشاطاتها، من حيث مشكلاتها الدائمة والمُكررة، بدءًا بالدعوات الموَجّهة من المنظمين إلى الشعراء الأصدقاء، التي توحي دوماً وبقوة الميديا بأنهم ممثلو البلد العربي الذي جاؤوا منه، الوحيدون إبداعاً وكفاءة ممّا ليس واقعاً بالضرورة، إلى استعراض فلكلوري لأحوال الموضة في اللّباس والذقون الحليقة، والشنبات الموضّبة، والشعور المخضبة بالحناء، تحت أضواء فلاشات الهواتف الذكية، ووضعيات السيلفي المتنوعة، وليس انتهاء بالمجاملات الفارغة والمحاباة بين أروقة المهرجان المغلقة على أصحابها، في رمزية تنافي روح الشعر كمنجزٍ مخلوقٌ للنشر والتحليق لا للتخزين، ومُتنَفَّس للعامّة وللجمهور الواسع، لا للقاعات المُحرّمة عليهم تحت مشيئة الملاحظة الفظة، التي تذيل بطاقات الدعوة لبعض المهرجانات وهي تمنعُ «دخول غير المدعوّين» مما لا يؤسس لوعي جدّي بأهمية المناسبة وفِعلِها في الوجدان الشعبي العربي.
كانت هذه المهرجانات في بداياتها منبراً حقيقياً للإبداع والمواقف معاً لشعراء كبار كأدونيس أو محمود درويش أو الجواهري والبياتي أو نزار قباني والفيتوري وغيرهم، ممن كانت لهم تجاربهم الخاصة، المتألقة الاختلاف، التي قدمت حينئذ تياراً واعياً في مساحات الضرورة الإبداعية في لغة الشعر العربي.
أمّا سلسلةُ ما حملَ اسمَ مؤتمرٍ للشِّعر، أو منتدى أو لقاء، فهي تُعقَدُ في عناوين تنظيمها لتقويم راهنية الشعر العربي، ومحاولة التحسُّس الحقيقي لحداثة المضمون في تقدير تجاربه وتحولاته واستشراف مآلاته، لكنها تنخرطُ عفواً أو قصداً في عملية هروبٍ جماعيٍّ كبير من مواجهة حقيقة معضلاتها المكدّسة تحت سقف الملل والانتظار، كصرف النظر عن دواوين الشِّعر الرديء مثلاً، ما يعني حَرْقاً لمرحلتنا الشعرية المعاصرة، وترحيل ممكناتها الإبداعية إلى أجيال لاحقة تتناولها بمقاربات لا تحايث سياقات الزمان والمكان والمجتمع، وتفسيرها بمعايير مغايرة تتسم بالقلق. لطالما جاءت دعوات هذه المؤتمرات لتخلط النقد بالشعر، ولتصدمنا باستحضار شخصيات شعرية في معظمها، لا نقدية، ما جعلَ الشاعر المدعو هو القَيّم العتيد الذي سوف يخبرنا عن أحوال الشعر المعاصر وفق رؤيته، وهو الحَكَمُ على وضعيته الراهنة، التي يُرجّح أن تكون تجربته الشعرية نفسها هي إحدى سماتها الرديئة! نستدرك بالقول إنّ للكثيرين نظرات نقدية وهُم شعراء، لكنّ ذلك لا يقِيمُ أوَدَ المشاركة الصحية في مؤتمرٍ بحثيّ من أجل بلورة منطلق نظري للحالة الشعرية العامة، كَيلا يُقيِّدَ تأويلَها بمقياس قدرته الخاصة، شاعراً لا ناقداً، ولو رآها هو ناجحة بمنظاره. إنها مهمة الناقد أنْ يفسِّرَ المشهد الشعري، الذي تركه الشعراء الروّاد له على مرّ تاريخ آداب اللغة العربية قديماً وحديثاً، وأن يستجلي تجاربه سلباً أو إيجاباً بموضوعية وتشاركية رؤيوية مع نقّاد آخرين، أفراداً ومنظومات تفصل الجيد عن الفاسد بجرأة ومعرفة في مواجهة تراكم آلاف التجارب الشعرية على امتداد الوطن العربي بين المقفى والحر والمنثور، وتبحث في جدة النصوص وجديتها في مستواها الإبداعي تحت سقف الحداثة المفترضة لغةً ومعنى. في كل حال وحين، فإنّ حواضر المهرجانات والمؤتمرات، المنتديات، اللقاءات، إدارة ومدعوّين، لم تقدِّم بالشّعر مواقف متوثّبة وحازمة على مستوييها الخاص الفني والعام الاجتماعي. ففي الخاص صُرِف النظر عن مئات نصوص المُنجز الشعري لأكثر المشاركين من أصحاب التجارب الحديثة التي تجمّدت بمستوى وحيد على مدونات كتابية صرنا نسميها – بالإلزام – «دواوين « اصطلاحاً وتسهيلا لموجبات التعبير التقني فقط، لا لحقيقة فنيتها وليس بالضرورة لأنها تحمل فعلاً حداثية مبدعة. مدونات مطبوعة متشابهة حدَّ التلاص الفاضح إمّا في ما بينها، أوعن نصوص أصيلة وأخرى مترجمة لشعراء كبار لفظاً ومعنى، مما لا يحتاج كبير عناء لإثباته في عصر الرقمنة. أما في المستوى العام فلم تقدم المنابر موقفاً واضحاً من أهوال المآسي الاجتماعية/ السياسية/ الاقتصادية التي شوهت الواقع العربي وقسمته عمودياً على نفسه بين محاور الطائفية والمذهبية وأيديولوجيا السياسة الفاسدة المُفسدة، ولا تصدى معتلوها مثلاً لوفود دول التطبيع الحديث جداً مع «إسرائيل» ولو حفظاً لماء الوجه أمام الجمهور العربي وبما يتلاءم مع شعار «التطبيع خيانة « الذي امتلأت به صفحاتهم الافتراضية.
بهذا التوجُّه لا ضير اليوم من تحالف الشعر والنقد بمعناه المرحلي/ الزمني، فالشعر يتجاوز الزمن بقوة إبداعه ورؤاه، أما النقد فيفقد كينونته الطازجة حينَ لا يأوِّلُ الشِّعر توّاً في مهده، وإقامة مهرجانات/ مؤتمرات للنقد توازي مثيلتها في الشعر مطلوبٌ اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، بما هي ماكينات نقدية متعددة المناهج والآراء كي لا يتم الحكم من لدن مدرسة نظرية واحدة على مكونات الكمّ الفائض جداً من التجارب الشعرية المعاصرة وإسقاط ما أفسدَ بسببها الذائقةَ الجماليةَ للجمهور من حسابات البحث والتقويم، بحيوية فائقة، وجرأة مطلوبة عسى أن يستكمل الناقد مهمة الشاعر في تأويل النصوص وتحويلها قنابلَ خلاص وحرية في وجه هذا الطاغية أو ذاك الديكتاتور على امتداد الوطن العربي الكبير.
كاتب لبناني