الجزائر- “القدس العربي”: أحدث مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي بعد أسبوع من انطلاقه، زخما ثقافيا كبيرا وأظهر شغفا بالسينما العربية في الجزائر، بعد انقطاع دام 6 سنوات، بسبب جائحة كوفيد-19 والإشكالات اللوجستية. ولم تخل هذه التظاهرة من الضجة التي تحدثها تصريحات النجوم، بينما كان لفلسطين في سنوية طوفان الأقصى نصيب الأسد من الاهتمام.
من بين 60 فيلما من مختلف الفئات في إطار المنافسة الرسمية، تم في النسخة الثانية عشرة للمهرجان، تخصيص فقرة بعنوان “المسافة صفر.. من غزة إلى وهران”، عرض فيها 11 فيلما تم تصويرها وإنتاجها في غزة، وهي تشكل شهادة حية على واقع الحياة اليومية في القطاع الذي يواجه العدوان الصهيوني المستمر.
ومن أفلام “المسافة صفر” التي حظيت باهتمام الجمهور، نجد “سيلفي” لريما محمود و”لا إشارة” لمحمد شريف و”سوري سينما” لأحمد حسونة و”فلاش باك” لإسلام زريعي و”صدى” لمصطفى كلاب و”كل شيء على ما يرام” لنضال دامو و”بشرة ناعمة” لخميس مشهراوي و”سحر” لبشار البلبيسي و”المعلم” لتامر نجم و”يوم دراسي” لأحمد الدنف و”أوفر لود” لعلاء إسلام أيوب.
وفي سيناريوهاتها المتنوعة، نقلت هذه الأفلام تفاصيل الحياة في غزة بعيون مخرجيها الفلسطينيين، الذين تحدوا الظروف الصعبة للتصوير وسط الحرب والدمار. ورغم الإمكانيات المحدودة، تمكّن المخرجون من تقديم رؤى إبداعية تعكس الصمود الفلسطيني في وجه آلة الحرب الإسرائيلية.
وفي تصريحاته، عبّر المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، المبادر إلى مشروع “المسافة صفر”، عن سعادته الكبيرة بعرض هذه الأفلام في الجزائر، مؤكدا أن لهذا العرض طعما خاصا بسبب العلاقة القوية التي تربط الجزائريين بالقضية الفلسطينية. وأوضح أن هذه الأفلام تنافس في المهرجانات العالمية بقيمتها السينمائية، كما تمثل وثائق مهمة تسجل تفاصيل الحياة في غزة للأجيال القادمة. وأشار، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الجزائرية، إلى أن الأفلام ستعرض في 80 دولة، بهدف تسليط الضوء على الأوضاع الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون.
ولم يكن مهرجان وهران هذا العام فقط منصة لدعم فلسطين، بل أيضاً نافذة على السينما العربية بكل تنوعاتها. وقد شهد المهرجان، الذي يقام تحت إشراف وزارة الثقافة والفنون الجزائرية، مشاركة أكثر من 60 فيلماً من 17 دولة عربية، بما في ذلك 40 عملاً سينمائيا دخلت المنافسة الرسمية في فئات الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة والوثائقية.
ومن ميزاته، أنه أتاح أيضا مساحة للسينما العراقية من خلال فقرة “نظرة على السينما العراقية”، حيث تم عرض مجموعة من الأفلام العراقية التي تبرز التحديات والمشكلات التي واجهتها السينما العراقية في ظل الحروب والصراعات.
إلى جانب ذلك، تم تنظيم ورشات تدريبية في مجالات مثل التمثيل والتقطيع التقني، إضافة إلى ماستر كلاس بإشراف مخرجين كبار مثل رشيد بوشارب، كما شملت الفعاليات ندوة حول “الأفلام المرممة”، ما يبرز اهتمام المهرجان بالحفاظ على التراث السينمائي العربي. ولم يقتصر المهرجان على العروض السينمائية فقط، بل شهد أنشطة متنوعة تتعلق بالفنون التشكيلية والترويج للسياحة في وهران، في محاولة لتعزيز التفاعل بين الفن والثقافة المحلية والعربية. كما تم استحداث فقرات جديدة مثل “وثائقيات وهران”، و”كلاسيكيات وهران”، إضافة إلى “عروض السجادة الحمراء” و”السينما التحريكية” التي خصصت للأسر.
وفي العروض المقدمة، برز اهتمام خاص بالقصص الإنسانية، من خلال مجموعة متنوعة من الأفلام التي عكست معاناة وتجارب الأفراد من مختلف البلدان العربية، من خلال تناول قضايا الحروب، الفقر، العزلة، والحلم، في ظل ظروف صعبة يعيشها الأفراد في العالم العربي.
وكان المهرجان قد افتتح بفيلم “عين لحجر” للمخرج الجزائري لطفي بوشوشي، وهو عمل كوميدي سوداوي تدور أحداثه في قرية تضربها عاصفة قوية. ثم توالت العروض في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة بالفيلم العراقي “ميسي بغداد”، للمخرج سهيم عمر خليفة، والذي يروي قصة الطفل حمودي الحالم بأن يصبح لاعب كرة قدم مثل نجمه المفضل ليونيل ميسي. ولكن أثناء ممارسته للعب في بغداد التي مزقتها الحرب، يتعرض حمودي لقصف يفقد فيه ساقه، مما يحطم مستقبله في لعب كرة القدم.
ومن الإمارات، تم عرض فيلم “فتى الجبل” للمخرجة زينب شاهين، الذي يتناول قصة الطفل سهيل المصاب بالتوحد، وهو يعالج بعمق قضايا الإعاقة وتحديات الأشخاص الذين يعانون من التنوع العصبي، ويسرد قصة هروب الطفل إلى الجبال بحثا عن القبول والحب الذي لم يجده من والده.
أما فيلم “المرهقون” من اليمن، للمخرج عمرو جمال، فقد سلط الضوء على أزمة اقتصادية تعصف بأسرة يمنية، حيث عالج قصة أحمد وزوجته إسراء اللذين يكتشفان حملاً غير مرغوب فيه وسط ظروف اقتصادية خانقة. هذا الفيلم يعكس واقعا مريرا يعيشه العديد من الأسر في ظل الفقر، ويعبر عن الضغط الذي تمارسه الأزمات الاقتصادية على استقرار الأسر في المنطقة. وفي مسابقة الأفلام القصيرة، قدم فيلم “موسم” للمخرج اللبناني حسين إبراهيم، تجربة درامية تجري أحداثها في لبنان خلال فترة ما بعد الحرب الأهلية عام 1991. يروي السيناريو قصة صبي صغير يرافق والده في رحلة صيد للطيور تتحول إلى مغامرة غير متوقعة، حيث يستكشف الفيلم مشاعر الخوف والأمل في فترة ما بعد النزاع. أما فيلم “ديانة الماء” من سلطنة عمان، للمخرج هيثم سليمان، فقد تناول قصة عيسى، المراهق الكفيف الذي يسعى لركوب البحر بحثا عن والده المفقود. هذا الفيلم يعالج الأساطير والخرافات التي تحيط بالبحر في الثقافة العمانية والخليجية، مقدماً صورة عن ثقافة المنطقة وعلاقتها بالبحر كرمز للغموض والأمل.
ومن الأردن، تم تقديم فيلم “وينك أنت” للمخرج محمد كوطة، الذي تناول حياة الشاب آدم الوحيد والمكتئب، الذي يرفض الامتثال للقيود الاجتماعية ويصادف جارته المسنة التي أهملتها عائلتها، وهو يغوص في ثناياه في قصة عن الوحدة، المعاناة المشتركة، وبناء علاقة غير متوقعة بين شخصين مختلفين.
وفي فئة الأفلام الوثائقية، كان الفيلم الفلسطيني “لد” من أبرز الأعمال، حيث يعرض للمخرجين رامي يونس وسارة إيما فريدلاند. الفيلم يروي قصة مدينة اللد الفلسطينية وتاريخها العريق قبل احتلالها من قبل إسرائيل في عام 1948. من خلال حكايات سكان المدينة والمجازر التي ارتكبها الاحتلال، يعكس الفيلم الوثائقي النضال الفلسطيني المستمر للحفاظ على الهوية والمقاومة ضد محاولات الطمس. أيضا، عرض الفيلم التونسي “الكابيتانة” للمخرج حسام سانسا، الذي يحكي قصة امرأة من مدينة قابس في الجنوب التونسي. علمتها الحياة أن تعول نفسها، فقامت بإنشاء فرقة نسائية لتشتغل بالعرائس، وتسعى لشراء معدات صوتية جديدة لتطوير عملها. هذا الفيلم التونسي يبرز الصراع الشخصي والاجتماعي الذي تواجهه المرأة التونسية في سعيها لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والاجتماعي. ووفق مسؤولي المهرجان، وفي مقدمتهم المحافظ عبد القادر جريو، الذي يعتبر من أبرز الممثلين المسرحيين حاليا، فإن هذه الأفلام، تجسد التنوع الثقافي والإنساني في العالم العربي، وهي شهادات إنسانية عميقة تشهد على قدرة الإنسان العربي على المقاومة والسعي لتحقيق أحلامه، مهما كانت المصاعب.
وعلى هامش مساحات العرض، كان للجدل والتصريحات المثيرة نصيبهما من المهرجان. وخارج المتوقع، أثارت الفنانة السورية سوزان نجم الدين زوبعة من الجدل، حيث تسببت تصريحاتها في استياء واسع، بعد أن ذكرت رداً على سؤال حول إمكانية العمل مع ممثلين جزائريين، أنها لا تعرف أي فنانين أو منتجين جزائريين. وفي وقت رأى البعض التصريح عفويا، انتقد آخرون دعوتها كضيفة شرف بينما تبدو بعيدة عن السينما الجزائرية، وغير مهتمة بما تنتجه.
وسارعت النجمة السورية في غضون ذلك للاستدراك، مؤكدة أنها لم تقصد ما فهمه البعض. وقالت نجم الدين في حديث لها مع “قناة الشروق”، إنها تشعر بالقلق بعد الجدل الذي أحدثته تصريحاتها.
وأوضحت أنها لم تفهم سؤال الصحافي بشكل صحيح وظنت أنه يشير إلى ضيوف الدورة الحالية من المهرجان، مشيرة إلى أنها تعرف جيدا العديد من الفنانين الجزائريين، مثل محمد الأخضر حمينة، وأحمد راشدي، كما سبق لها التعرف على صالح أوقروت وحسان كشاش، ولديها صداقات عديدة في الوسط الفني الجزائري. وأبرزت سوزان نجم الدين إلى معرفتها العميقة بالفن الجزائري والسينما، خصوصا أنها كانت عضو لجنة تحكيم في إحدى دورات مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي، ما يجعلها قريبة من الساحة الفنية الجزائرية.
وأكدت أن مشاركتها في مهرجان وهران تعكس حبها للجزائر وحرصها على الوجود فيها، وهو الأمر الذي لا تفعله في مهرجانات أخرى، كما تم تكريم عدد من الشخصيات البارزة في السينما، مثل المخرج الجزائري محمد الأخضر حمينة، الحائز السعفة الذهبية في مهرجان كان، والمخرج العالمي كوستا غافراس، الحاصل على جائزة الأوسكار عن فيلمه “زاد” الذي أنتج في الجزائر. هذه التكريمات تأتي في إطار الاحتفاء بالإنجازات السينمائية التي قدمتها الجزائر للعالم.
وبعد العروض المقدمة، سيكون الجمهور الثقافي على موعد مع تسليم جوائز “الوهر الذهبي” (وهران مشتقة من الوهر وهو الأسد) في مختلف الفئات المتنافسة في المهرجان مع نهاية المهرجان يوم الخميس 10 تشرين الأول/أكتوبر الجاري.