مهيمنات ثيماتية في الرواية العربية

حجم الخط
3

الثيمةُ في الرواية، وأنا هنا أقدم تعريفاً مدرسياً قد يبدو على نحو كبير من التبسيط، ولعله لا يتناسب كثيراً مع العلم لكنه، وفق ما أعتقد، يتلاءم مع المقام ويكفيه، الثيمة هي موضوعٌ عام أو خاص يتناوله نصٌ روائي يقوم على أساسه المبنى الحكائي للقصة، التي تُقدّم للقارئ. بطبيعة الحال، لا يشترط أحدٌ على الرواية أن توقف سردها على موضوع واحد، بل لها، وهو ما يحصل دوماً، أن تمزج بين المواضيع كما لها أن تحكي عن مواضيع، لا رابط واضح يربط بعضها إلى بعض. من الأكيد أن كل المواضيع التي تتناولها الرواية ليست على القدر نفسه من ، أو لنقل إنه من النادر أن يحتفظ موضوعٌ ما بالقيمة ذاتها على طول مسار النص، فقد يحدث أن يتراجع، مؤقتاً أو دوماً وبداعٍ أو بدون داع، ويحل محله موضوعٌ آخر لم يكن موجوداً في الأصل، أو كان ثانوياً في بداية سرد الحكاية. من وجهة نظر فنية بحتة، تعدُّ مسألة التقديم والتأخير، أو الإرجاء هذه جزءاً من اللعبة السردية وتخضع، في الغالب، لمزاج السارد – وليس الكاتب طبعاً- وغاياته، وهذا الدور من صميم وظائف هذا الأخير التي حددها له علمُ السرد وكفل له الحقَّ في إدارتها.
تلعب الشخصيات، إضافة إلى المكان، ولو بنسبة أقل، الدورَ الأساس في التعبير عن المواضيع التي تظهر، صراحة أو ضمناً، في كلام الشخوص وأفكارها وأفعالها، وأحيانا كثيرة من خلال تنقلاتها، فالمكان، بدلالاته السيميولوجية، لاسيّما سيميولوجيا بيرس، لم يعد مجرد حضور ناقص (أعني حضوراً غير منجز لا يحقق وجوداً) بل غدا مظهراً من المظاهر السردية المثيرة، التي يتجلى فيها ويتجسد عبرها نشاطُ الشخصيات بأبعاده المادية والذهنية والنفسية، وفق نظام تضبطه المفاهيم السردية.
من فترة زمنية لأخرى، يطغى موضوعٌ ما على غيره في مضمون الرواية، وتأريخ الأدب شاهدٌ على هذه التحولات. يحدث التغيير في تكثيف حضور ثيمة ما على البقية تبعاً لأسباب عديدة لها علاقة بظروف العصر ،وتبدل أوضاعه الاجتماعية، وطبيعة اهتماماته ونوعية الفكر السائد فيه. قانونُ التغيّر هذا يبدو غيرَ قابلٍ للتطبيق بسهولة على جزء كبير من الرواية العربية المعاصرة، فقد رافقتها منذ عقود نضوجها الفني الكبير (أعني سنوات الخمسينيات من القرن المنصرم فصعوداً) إلى اليوم، مجموعةٌ صغيرة من الثيمات التي لا تريد عتقَ نفسها وقرائها منها. لعل أبرز هذه الثيمات وأقواها حضوراً على طول الزمن، ثيمتا الدين والسياسة. مما لا شك فيه أن الرواية العالمية المعاصرة، استثمرت هاتين الثيمتين في مراحل معينة من تأريخها، لكن حضورهما لم يكن أبداً بالكثافة، ولا بالانتشار الذي عرفته وتعرفه اليوم روايتنا العربية، ناهيك من أن الغايات ليست نفسها في كلتا الحالتين. الجدير بالملاحظة، بخصوص حضور الدين في الرواية العالمية والغربية بالتحديد، أن هذه الأخيرة، عندما وعت أن ديْنَنَة النص الروائي لم تعد نافذة صالحة لفهم العالم، غيَّرت مساراتها واتجهت، منذ بدايات القرن العشرين، إلى ما يمكن تسميته بدَنْيَنَة الرواية.
لا أعني أن الرواية الغربية تركت تماماً التفكير بالدين وحوله، بل أقصد أن الرواية شهدت انسحاباً هائلاً للإلهي أمام المادي والحداثي، وتراجعاً شاملاً للتفكير الأكليروسي المتعال والمطلق لمصلحة التأمل الدنيوي المجرد من ممارسة فعل الانفعال على القراء، والمترفع عن حثهم على رد الفعل.
كنت قد تناولتُ عَرَضاً، في مقال سابق نشرتْه «القدسُ العربي» قبل مدة طويلة من الآن، مسألة الذيوع الكبير لموضوعتي الدين والسياسة في الرواية العربية الراهنة، وأريد، هنا، الرجوع إلى الشأن ذاته لمناقشته بصورة أوسع وتفصيل أوفر. الدين والسياسة، كانا وما زالا وربما سيبقيان، علامتي الرواية العربية المعاصرة الفارقتين، حيث لم ترتبط ثيمتان برواية في العالم قدر ارتباط هذين العنصرين، مجتمعين حيناً ومنفردين أحياناً أخرى، بالنص الروائي العربي المعاصر، إذ لا تكاد تخلو من أحدٍ منهما أو من آثارهما المباشرة أو غير المباشرة روايةٌ منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى الوقت الحاضر. في العقود الثلاثة الأخيرة، وحّد هذان الموضوعان بشكل غريب الرواية، في جانبي البلدان العربية، فلم يعد ثمة فرق كبير على مستوى كثرة حضور هاتين الثيمتين بين الروايات التي أنتجها مشرقُ العالم العربي عن مغربه، رغم تباين المناخ العام، وعدم اتفاق مفردات الواقع، وتطابقها التام بين شطري المنطقة. لا يمكن اعتبار هذا الانتشار الكثيف للدين والسياسة في سردنا الروائي العربي تحصيل حاصل، ولا من الثوابت التي يستحيل على الرواية والروائي تجاوزها. لا بدَّ، إذن، من البحث في هذه الظاهرة، ولو على عجل لتحديد دواعي شيوعها، وبيان أسباب حضورها المتفشي في الرواية العربية المعاصرة والراهنة.

من فترة زمنية لأخرى، يطغى موضوعٌ ما على غيره في مضمون الرواية، وتأريخ الأدب شاهدٌ على هذه التحولات. يحدث التغيير في تكثيف حضور ثيمة ما على البقية تبعاً لأسباب عديدة لها علاقة بظروف العصر ،وتبدل أوضاعه الاجتماعية، وطبيعة اهتماماته ونوعية الفكر السائد فيه.

على الدوام، وفّر هذان العنصران المتداخلان، بما يحملانه من إمكانات الانفتاح على الواقع العربي، والتفاعل مع مكوناته، استراتيجيتين مناسبتين للروائي العربي، يحقق عن طريق استدعائهما في نصه أمرين مهمين، وإن كانا غير مترابطين بالضرورة. أولهما ضمان مخاطبة القارئ العادي والعام، طالما ألا شيء أقرب إلى هذا الأخير، ولا أكثر جذباً من هذين الموضوعين، اللذين يشكلان جوهرَ واقعه، ومرتكزين أساسيين من مرتكزات وجوده الروحي والمادي. توقعُ التفاعل بين النص والقارئ المسكون، لا شعوريا ربما، بهاجسي الدين والسياسة، قد لا يكون، والحال هذه، بحاجة إلى قلق كبير من جانب الروائي العربي الذي يدرك، على نحو ما، أن الدين والسياسة مسألتان متموضعتان أكثر فأكثر داخل تصور إنسان المنطقة العربية، وضاربتان بجذوره في العمق.
غيرَ خطب ودِّ القارئ، يهدف الروائي من وراء الإلحاح على توظيف الدين والسياسة في الرواية إلى أمر ثان هو، تأكيد انتسابه (أعني الروائي) لواقعه اليومي المعيش، وهذه قضية مصيرية بالنسبة للكاتب العربي على العموم، الذي لا يتصور إمكانية الحياة (حياته هو كما حياة النص) خارج المجموع ويعتبر نفسه شاهداً ورقيباً وصاحب مسؤولية والتزام أخلاقي/مبدئي، رغماً عما في هذا الدور من غرور وزهو واعتداد بالنفس، لا واجب له زيادةً على لا واقعيته وانطوائه على عديد المحاذير المبررة والجدية. بعضُ هذه المخاطر فنيٌّ يتعلق باحتمالٍ واردٍ جداً (والنماذج على ذلك أكثر من أن تُحصَر) يتمثل بانفلات النص من يد الروائي وانزلاق خطاب المكتوب الأدبي من الجمالي/الفني نحو الأيديولوجي والوصائي الذي يقترب في العديد من الروايات العربية من التعليمي/التوجيهي المباشر، وذلك لسذاجة فحواه وتدني سقف طموحاته وبالذات لخلوه من البراعة الفنية اللازمة.
أما البعض الآخر من المحاذير فهو شخصي، يمس أمنَ الروائي نفسِه، إذ يبقى التصدي لهاتين القضيتين الشائكتين، أو حتى لإحداهما كافياً لأن يشكل قلقاً وجودياً ضخماً لا بد أن ينعكس بشكل من الأشكال داخل الكتابة. في هذه النقطة بالذات يتساوى، بالنسبة للروائي العربي، خطرا الدين والسياسة.
كما الدين، تنشأ السياسةُ، في حياتنا، من الإيمان وتمتلك، مثل الدين تماماً، ثيولوجيا خاصة بها، يجتهد المروجون لها (أعني الثيولوجيا السياسية) في محاولة تثبيت مراجعهم السياسية، كواقع متعال صادر عن منطق لا يتيسر على العامة فهمه، لأنه لا ينتمي، بحسب أولئك الداعين له، إلى حقل السببية والقابل للشرح. بكلام آخر: تحذو السياسة والسياسيون، في الكثير من بلداننا العربية، حذو الدين، إذ تتعمد ويتعمدون، كما هذا الأخير ومريدوه، النأي بأنفسهم عن كل عقلانية خارجية، ما يرفعهم، والحال هذه، إلى منزلة المقدس. هذا التلازم بين الديني- السياسي- المقدس، يعقّد حتماً مهمة الروائي العربي في العبور، سردياً، من العلوي والفيضي إلى اليومي والمدنس. الطريف هنا أن الرواية، في عرف الدين والسياسة، فضاءٌ مدنسٌ وموردُ فسادٍ وخراب وبؤرةُ شر.
للقلق والخوف اللذين ذكرتهما آنفاً أثر يصعب تجنبه على الطريقة التي يكتب بحسبها الروائي العربي عن الدين والسياسة. فقد أدى هذا الخوف الذي قد لا يريد الروائي العربي الاعتراف به إلى أن تكون الرواية التي تتناول الدين والسياسة، أو أحدهما سوقاً للاستهلاك الديني والسياسي، يحيي الكاتب فيه، بوعي أو بدون وعي وبقصد أو بلا قصد، مقولات الدين المندثرة خلف غبار الفضاءات الثيولوجية ويروج لممارسات السياسة في الرواية. كما قاد الإسراف في الحديث عن الدين والسياسة والثرثرة حولهما في الروايات، إلى ضمور فاعلية الخطاب الروائي بشكل عام. فالرواية العربية لا تضيء معرفة القارئ حول الدين أو السياسة، ولا تجعله يفهم الواقعة الدينية والحدث السياسي بطريقة أخرى لأنها، على العموم، تخلو من مناقشة حقيقية وعميقة لاستراتيجيات الخطاب الديني والسياسي. لذا، خسرت الرواية العربية رهانَ أن تكون مقترباً مناسباً جدا لمناقشة قضايا الدين وأمور السياسة.
هل سيبقى الدين والسياسة سؤالين معلّقين إلى الأبد، في فضاء النص الروائي العربي المعاصر؟ كلٌ ظني، أنْ نعم سيظلان كذلك ما دام الحال على ما هو عليه، وما دامت الرواية عندنا، منذ زمن نجيب محفوظ إلى اليوم، غير قادرة على أن تقدم مشروعاً بديلاً مضاداً لذلك الذي عملت عليه، وتواصل العمل عليه إلى اليوم، السردياتُ الكبرى الشمولية لتاريخنا العربي/الإسلامي. نعم! هي عاجزة تماماً عن ذلك لأنها، وفق كل المعطيات التاريخية والحاضرة، ما زالت تواصل العيش وتستمر بالوجود خارج مفهوم مرحلة ما بعد الحداثة. كيف لها أن تعبر هذا الحد وأغلب كتّابها ميتافيزيقيون يتعاملون مع العالم على أنه مجموعة كائنات متدينة لا مجموعة أحداث قد لا تنطوي على أبعاد غيبية بالضرورة؟

٭ كاتب وناقد عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول منتهى فاضل عبد:

    مقال راقي كتب بأنامل مبدعه

  2. يقول Iana:

    مقال اكثر من رائع عاشت الأنامل دكتورنا الغالي… اسلوب راقي لجذب القارئ…بصراحة لا يمل.. عودة متألقة ?

  3. يقول علاء خالد:

    تحميل رواية لوكاندة بير الوطاويط بى دى اف pdf كاملة لأحمد مراد
    https://hassanbalam.yoo7.com/t13113-topic

اشترك في قائمتنا البريدية