في عالم مليء بالبطولات والتضحيات التي غالبا ما تُختصر في الأبطال التاريخيين أصحاب الأسماء اللامعة، لا بد من وجود شخصيات تنقض على هذه الفكرة البسيطة، وتعيد تعريف البطولة بمعايير أخرى. أحد هذه الشخصيات هو «شفيك»، الجندي الطيب، الذي أبدع فيه ياروسلاف هاسيك في روايته الشهيرة «الجندي الطيب شفيك» ترجمة رامي الطويل. وفي الوقت الذي سعت فيه الحروب العالمية لتحديد مفاهيم الشجاعة والانتصار، أظهر شفيك نوعا مختلفا من البطولة، غير مدعٍ، غير تقليدي، لكنه في النهاية كان الأكثر إنسانية.
تسير الرواية، كما لو كانت رحلة في عقلية الجندي العادي الذي يدخل الحرب دون أن يملك أي حوافز وطنية كبيرة، بل يجد نفسه في صراع أعمق بكثير. صراع البقاء، وتجنب القتل، وفي النهاية السخرية من النظام العسكري الذي يقوده. شخصية شفيك التي رسمها هاسيك، هي شخصية مركبة تختلط فيها الطيبة بالغباء، ولكن أيضا الحكمة التي تأتي من رؤية الأمور على بساطتها.
لكن لماذا نعتبر شفيك بطلا؟ لماذا يتسم هذا الجندي البسيط بهذه الكاريزما، التي تجعلنا نراه بأعيننا، حتى عندما نعلم أن اسمه لا يتردد في كتب التاريخ، ولا تتذكره المعاهد العسكرية؟ الإجابة تكمن في المقارنة التي يقدمها هاسيك بين شفيك والأبطال التقليديين مثل، نابليون أو الإسكندر الأكبر. هؤلاء قادة عالميون، صانعو إمبراطوريات، مهووسون بالسلطة والمجد، بينما شفيك يعرض صورة مختلفة تماما للبطولة البطولة التي تكمن في القدرة على النجاة، في التفاعل البسيط مع التحديات اليومية، وفي التعاطف مع الآخرين في اللحظات الأكثر إنسانية.
شفيك لا يسعى للانتصار في المعارك الكبرى، أو تغيير مجرى التاريخ، بل يسعى للبقاء حيا في خضم حرب دموية، ومحاربة آلة الحرب التي تتسم بالبيروقراطية العسكرية المفرطة. لا يملك سوى ذكائه الفطري، وحس السخرية الذي يُظهره تجاه الأوامر العسكرية والتوجيهات السطحية. كما أنه لا يتورط في الأحلام المزعجة للأبطال الذين يعتقدون أن مصيرهم هو أن يصبحوا قادة تاريخيين. شفيك هو الجندي الذي يجد في البساطة قوته الحقيقية، حتى في خضم المآسي الكبرى، يظل يذكرنا أنه في بعض الأحيان، لا تكون البطولة في القتال على الجبهات، بل في كيفية تعامل الإنسان مع قسوة الواقع. وفي هذا السياق، يظهر هاسيك جانبا آخر من العمل الحربي، وهو الآثار النفسية التي تتركها الحروب على الجنود. الحرب لا تجلب معها فقط الأضرار الجسدية، بل أيضا التشوهات النفسية التي قد تجعل الإنسان عاجزا عن التفاعل مع المجتمع. شخصية شفيك تعكس هذه الفجوة بين الإنسان ونظامه الاجتماعي والسياسي. لا يعترف شفيك بالقيم التي يروج لها الجيش، ولا يتورط في مسعى شرفي، بل يتخذ من الاستهزاء والتهكم وسيلة للبقاء على قيد الحياة في عالم يقوده الجنرالات البيروقراطيون.
يظل شفيك في النهاية البطل غير التقليدي، الذي يعيد تعريف مفهوم البطولة في زمن الحرب. فالبطولة ليست في الاستشهاد على الجبهات أو في المجد العسكري، بل في الحكمة التي تأتي من تفادي الوقوع في فخ التوقعات التي تفرضها الجيوش والسياسة. ربما تكون هذه هي الرسالة الأهم التي أراد هاسيك أن يوجهها للقارئ. في النهاية، الإنسان الذي يحافظ على إنسانيته، حتى في أحلك الظروف، هو الذي يظل أكثر قوة من أولئك الذين يقاتلون لتأمين المجد الزائف.
«الجندي الطيب شفيك» رحلة فكرية وسردية مليئة بالفكاهة، لكنها تحمل في طياتها رسائل عميقة عن الحرب والسياسة والمجتمع. ومن خلاله، يقدم هاسيك تصورا بديلا عن البطل التقليدي، الذي قد يتضح في النهاية أنه لا يحتاج إلى سيوف، ولا إلى معارك طاحنة ليظل بطلا في عيون الأجيال القادمة. في هذا النص الغني بالتفاصيل والسرد المدهش، نجد تصويرا دقيقا لحالة التدهور الروحي والإنساني، التي يعيشها القسيس، والشخصية الصارمة التي يمثلها شفيك. تكمن القوة الفائقة في هذا المقطع في قدرته على المزج بين السخرية المرة والعبثية، التي تجعل القارئ يتأمل في معاني أعمق حول الحياة والموت، والخطوط الدقيقة بين الإنسان والحيوان. أما الحوار بين شفيك والقسيس، فيتضح من خلاله الصراع بين مفهومي الفضيلة والرذيلة، أو بشكل أدق، بين الفكرة المثالية للدين التي يمثلها القسيس، والمواقف القاسية التي يقابل بها شفيك هذا الانحطاط. يظهر القسيس في حالة من التدهور الكامل ثملا، يتحدث بلا معنى، ويعبر عن إحساسه بالوحدة والتشتت. لكنه، وفي الوقت نفسه، يظل محتفظا ببعض الأوهام عن مكانته، مما يثير السخرية من خلال جملته الشهيرة «أبلغكم بتواضع يا سيدي». بينما يتهاوى القسيس في أوهامه وعبثه، نجد شفيك شخصية ثابتة، هي أقرب إلى الحارس أو المراقب، غير متأثر بما يجري حوله. هو ينظر إلى الأمور بعيون واقعية، ويعتمد على أساليب قاسية للسيطرة على القسيس، الذي يبدو عاجزا تماما أمام تدفق الأحداث. شفيك ليس فقط القوة التي تتحكم في القسيس، بل هو أيضا الشخص الذي يثبت وجوده وسط الفوضى. تعليقاته وقراراته، التي تتراوح بين الازدراء والقسوة، تعكس البعد القاسي للواقع الذي يعيشه.
أما كلام القسيس عن نفسه بأنه «خنزير» فتأتي لتؤكد فكرة التحلل النفسي والروحي، ويظهر ذلك من خلال انعدام وعيه وتهكمه المستمر على نفسه وعلى العالم من حوله. هو لا يعترف فقط بتدهوره، بل يتعامل مع ذلك كجزء من هويته، ما يعكس التشويش الذهني الذي يعيشه. بينما تتعزز صورة شفيك كعنصر خارجي يفرض نفسه على القسيس، فإنه في النهاية يظل الشخصية الأكثر ثباتا وإدراكا لما يحدث. فهل الرواية حافلة بالعبثية والسخرية؟ الرواية تميل إلى العبثية، وهي سمة واضحة في الأدب الشرقي والروسي على حد سواء. كل تصرفات القسيس تدور في حلقة مفرغة من اللوم والمواقف غير الواقعية التي تضعه في مواجهة مع نفسه ومع العالم. محاولاته الدائمة للهروب، أو التفوق على الظروف تكشف عن هزيمته الداخلية المستمرة، بينما يظل شفيك ساعيا نحو كسر تلك الحواجز، واكتشاف حقيقة فشل القسيس في كل خطوة.
الرواية تجسيد لعبثية الحياة ومعاناة الإنسان في مواجهة الزيف والفساد. القسيس، الذي كان يوما رمزا للقداسة، أصبح اليوم ضحية لانحطاطه الشخصي، بينما يتفاعل شفيك مع هذا التحول ببرود، وكأن العالم من حوله لا يهمه بقدر ما يهمه فرض السيطرة على مجريات الأحداث. هذا التفاوت بين الشخصيتين يعكس المأساة الكبرى التي تتحدث عنها الرواية في جزء منها الحرب الكبرى هي معركة لا تنتهي بين الطهر والانحطاط، بين الإنسانية والموت، كل هذا يعكس نوعا من التوتر الساخر والمأساوي في آنٍ واحد، حيث يلتقي الهذيان النفسي، الذي يصاحب حالات العزلة والشعور بالذنب، مع المزاح القاسي الذي يعبر عن حالة من اللامبالاة الشديدة. فالقسيس يقدم شخصية مشتتة ومتأزمة نفسيا، يطغى عليها الهذيان الفكري والسلوكي، بل تصل إلى حد التصرفات اللامنطقية والغرائبية التي تجعلها أكثر إثارة للدهشة والعجب. إن القسيس هنا ليس مجرد شخصية معذبة، بل هو تمثيل للإنسان في مواجهته المستمرة مع مشاعره المتناقضة، رغباته غير المحدودة، وكذلك خيبات أمله. فهل من عوالم متعددة تلتقي معا في خضم الصراع الداخلي للقسيس؟
يواجه القسيس شفيك، الذي يبدو في البداية متعاونا وصبورا، يدخل في سلسلة من الأفكار والهذيان، يعبر فيها عن مزيج من العذاب والتهكم. السخرية تتبدى بوضوح في محاولاته غير المنطقية لطلب الألم، إذ يطلب اللكمات وأشياء أخرى غريبة كطريقة للتعبير عن إحساسه بالعجز أو الاستحقاق للعقاب. من جهة أخرى، يعتبر القسيس شخصية تمثل تناقضات الحياة البشرية، حيث يجسد الألم والضحك في آنٍ واحد. وهو، من خلال سلوكه المبالغ فيه في طلب أشياء شاذة، كالاستشهاد أو قطع الرأس، يعكس الهروب من مواجهة الواقع والبحث عن السكينة في المواقف المؤلمة أو حتى في قسوة الآخرين. هذه الدعوات للألم والخضوع قد تثير التساؤل حول مفهوم الشفاء النفسي. فهل هو يكمن في الخضوع للعذاب؟ أم في التصالح مع الذات؟ تقدم الرواية صورة سلبية للكنيسة ورجال الدين، ممثلة في القسيس، كرمز للهروب من المسؤولية ومجابهة الواقع. القسيس ليس مجرد شخصية ضعيفة أو مهزومة، بل هو إنسان حائر يبرر أفعاله بتصريحات تافهة، ما يعكس حالة من الانفصال عن الجوانب الروحية للأدوات الدينية. في هذا الصدد، يمكن اعتبار الشخصية بمثابة نقد اجتماعي حول ضياع القيم الحقيقية والدور الفعلي الذي يجب أن يقوم به رجل الدين في المجتمع. أما الطابع الفكاهي في الرواية فيتناغم مع الشعور بالكارثة، حيث إن الحالة التي يعاني منها القسيس تثير الضحك المرير؛ فهو شخصية تعيش في حالة من الارتباك الفكري والوجودي، وحينما يلتقي الواقع بالخيال، يطرح مشهدا فوضويا من الغرابة التي تقود إلى المأساة.
يلعب «الكلب» دورا رمزيا في الرواية، حيث يُستخدم كأداة لربط الشخصية الرئيسية (الملازم الأول لوكاش) بماضيه، وتحديدا علاقته بالأوامر العسكرية. الكلب الذي يعبر عن «الوفاء» يُصوَّر هنا كرمز للضياع والانحراف عن الولاء، سواء كان ذلك من خلال سرقته أو التعامل معه كحيوان مهمل. فهل شفيك هو الشخصية المحورية التي تجمع بين البراءة والمكر، مما يزيد من تعقيد المواقف ويجعل الرواية أقرب إلى التراجيديا الكوميدية؟
كاتبة لبنانية