لا بد من التنويه أولا بأن العمل الموسوعي يتطلب جهودا جبارة، وغالبا ما تقوم بإعداده مؤسسات عريقة لها باعها في هذا المجال. كذلك يتطلب رؤية وإحاطة ودقة في التخطيط والمحاور، وتالياً في حسن التبويب والتدقيق اللغوي وتوحيد منهجية الكتابة وغيرها.
في موسوعة الفلسفة الفرنسية المعاصرة، نحن أمام عقل موسوعي في البنية والمنهجية والرؤية، استطاع أن يقوم بإحاطة شاملة للفلسفة الفرنسية في عشرة محاور. ينطلق المشروع من لبنان بجهد شخصي بذله مشير باسيل عون، وجهد جماعي لباحثين لبنانيين وعرب. فعلى الرغم من كل شيء، يحاول لبنان أن يكون أفقا مضيئا بعيدا من العتمة التي أوقعها فيه سياسيوه.
الاتجاهات والمذاهب
العمل الموسوعي ليس جديدا على مشير باسيل عون في الجامعة اللبنانية، بالإضافة إلى كتبه الغزيرة في الفِسارة والتأويل وفلسفة الدين واللاهوت، يقوم بإعداد موسوعة الفكر الفلسفي المعاصر في العالم العربي، نُشر منها إلى اليوم جزءان في مركز دراسات الوحدة العربي: الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان والفكر الفلسفي المعاصر في سوريا، ويجري الإعداد للجزء الثالث الذي يتناول الفكر الفلسفي المعاصر في تونس. صدر الجزء الأول بالتنسيق مع ثمانية عشر أستاذا جامعيا لبنانيا، وهو المصنف الأول الذي يجمع في كتاب واحد أبرز الفلاسفة اللبنانيين مع دراسة شاملة عن كل منهم في جميع مؤلفاته. ولا بد من التنويه هنا بأن الموسوعة الفلسفية الفرنسية المعاصرة هي جزء من مشروع بحثيٌ أكبر، سيتناول الفلسفة الأوروبية والأمريكية والآسيوية والافريقية.
تتناول موسوعة الفلسفة الفرنسية المعاصرة اتجاهات هذه الفلسفة ومذاهبها وإسهاماتها، وهي كنايةٌ عن جهد شخصي ومشروع بحثي جماعي ينطلق من لبنان إلى العالم العربي. من خصائص هذا المشروع أنه لبناني المنطلق، عربي المدى، إنساني المطلب، كوني الانفتاح. من خصائصه أيضا أنه يعتصم بالمجانية ضمانة للاستقلال الفكري والانعتاق من كل استقطاب أيديولوجي، سياسي أو ديني. تنطوي موسوعة الفلسفة الفرنسية المعاصرة على عشرة مجلدات. يتناول المجلد الأول فلسفات البنيوية والتفكيك والاختلاف، والثاني الفِنومِنولوجيا وتفرعاتها والفِسارة الفلسفية، والثالث الفلسفات التفكرية والوجودية والشخصانية، والرابع فلسفات تأريخ الفلسفة، والخامس فلسفات الفن والجمال، والسادس الفلسفات الهيغلية والماركسية والفلسفات التاريخية التفكيكية، والسابع الفلسفات المسيحية، والثامن الفلسفات الاجتماعية والنفسية والتربوية والأخلاقية، والتاسع الفلسفات السياسية والاقتصادية والقانونية والبيئية والإعلامية، والعاشر فلسفات الطبيعة والعلوم والإبيستِمولوجيا. في كل مجلد يقتصر اختيارُ الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين على مواليد القرن العشرين، من الذين اختمرت تصوراتهم الفلسفية، فشارفوا على التقاعد الأكاديمي أو تخطوا هذه المرحلة، مع بعض الاستثناءات من مواليد أواخر القرن التاسع عشر من الذين عاشوا ردحا في القرن العشرين، فبلغوا الستينيات والسبعينيات فيه، فأتى جل إنتاجهم ممهورا بأحوال القرن العشرين هذا.
يتناول الجزء الأول من هذه الموسوعة فلسفات البنيوية والتفكيك والاختلاف، باعتبار أن البنيوية هي الشرارة الأصلية التي أضرمت المسعى الفلسفي الفرنسي، وقادت إلى مسارات التفكيك والاختلاف كثمار لها. فكان هذا الجزء تحريا عن أثر البنيوية في استثارة فلسفات التفكيك والاختلاف.
في مقدمة المجلد الأول هذا ينطلق مشير باسيل عون من تناقضات الفلسفة الفرنسية، إذ يرى أنها تحتضن أشد مراتب التفكير، بناء وتنظيما وتعليلا وتماسكا منطقيا، وأخطر مواضع الانتفاض والثوران والمعاندة والمشاكسة تفكيكا وتشتيتا ونقضا وهدما. في بناءاتها مؤالفةٌ عسيرةٌ بين النهج الدِيكارتي العقلي واللانهج التبعثري التفكيكي، الذي ازدهر في حقبة ما بعد الحداثة. وقد تكون مقولة ما بعد الحداثة مقترنة أشد الاقتران بالخصوصية الفلسفية الفرنسية، التي أثر عنها الغربُ عبارة النظرية الفرنسية (french theory). ومن ثم يبين أن الفلسفة الفرنسية المعاصرة كان يتنازعها قطبان أو مضمونان أو مفهومان أساسيان، ألا وهما مقولة الحياة (برغسون) ومقولة المفهوم (برُنشفيغ). بيد أن المباحثات الفلسفية التي دارت حول تقابل هاتَين المقولتَين أفضت إلى إعادة النظر في مقولة الذات الإنسانية. هو إذن التقابل بين الجسد والفكرة، أو التواجه بين الحياة والمفهوم يُفضي بالفلسفة الفرنسية إلى الاشتباك الجدلي في شأن مقام الذات الإنسانية.
كيف يقرأ اللبنانيون والعرب المشتغلون في الفلسفة اليوم الفلسفةَ الفرنسية المعاصرة؟ أو كيف يستلهمون هذه الفلسفة في واقعنا العربي المعاصر؟ هل يقرؤونها من باب الآخر المختلف؟ أم من منظور التبني والدهشة؟ أم من زاوية ثقب في جدار؟ أم من باب الاكتفاء بالعرض والإبعاد؟
هي البنيوية الفرنسية المعاصرة التي أعلنت منذ عام 1966 موت الإنسان، وأخذت تبحث عن البنى المنحجبة التي تؤثر في اعتمادات الوعي الإنساني الفردي والجماعي. من جراء هذا الإعلان انقلبت البنيوية فلسفة تشمل اللغة والمجتمع والتاريخ والإنسان، فتُعنى بجميع اختبارات الوعي وتردها إلى منحجباتها الفاعلة. أما الشهرة الواسعة التي نالتها البنيوية في فرنسا، حين أصبحت هي حديث باريس الأول، فتحققت في نشر كتاب الكلمات والأشياء الذي أصر فيه ميشِيل فوكو على القول بأن الإنسان ليس سوى اختراع حديثِ العهد. وما لبثت المنشورات البنيوية أن تكاثرت وتعاقبت وتنوعت. فكان منها كتابات جاك لاكان في بنيوية التحليل النفسي، واجتهادات ألغيرداس جوليان غريماس ورولان بارت ولوي هيلمسلِف في الألسنية البنيوية، وتحليلات لوي ألتُسر في البنيوية الماركسية. على الرغم من التباينات الصريحة في المنطلقات والمنهجيات والممارسات والمقاصد والمرامي، تشترك التناولات البنيوية هذه في أمرَين اثنَين. فهي أولا تخاصم الوجودية التي اكتسحت المشهد الفرنسي في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، وفي أثناء الحرب الباردة في الخمسينيات من القرن العشرين؛ وهي ثانيا تجتهد في صياغة مقولات تحليلية موضوعية تستطيع بها أن تضبط معارف المجتمع ومسالكه، وأن تُمسك به إمساكا لصيقا بهيئتها، مراعيا خصائصها، مستجليا قابلياتها التغييرية.
تفاوت الأبحاث
كيف يقرأ اللبنانيون والعرب المشتغلون في الفلسفة اليوم الفلسفةَ الفرنسية المعاصرة؟ أو كيف يستلهمون هذه الفلسفة في واقعنا العربي المعاصر؟ هل يقرؤونها من باب الآخر المختلف؟ أم من منظور التبني والدهشة؟ أم من زاوية ثقب في جدار؟ أم من باب الاكتفاء بالعرض والإبعاد؟
يبدو جليا أن تفاوت الأبحاث بين العرض والنقد ومحاولة استلهام الفلسفة الفرنسية يعود إلى طبيعة الباحث، أو فلنقل عدته البحثية وخلفيته الفكرية في التفاعل معها، ومعظمهم في هذا الجزء من أساتذة الجامعات اللبنانية. فجاء هذا المجلد في أربعة عشر فصلا. الأول تناولت فيه مارلين كنعان «جورج باتاي فيلسوف الإسراف والإقامة على تخوم الذات». والثاني عالج فيه باسل الزين «موريس بلانشو في هدم الأنساق» والثالث عن»فتنة الكاوس أو نحو منابع الخواء» لشادي كسحو، والرابع في «رحلة البحث عن الكتابة خارج اللغة عند رولان بارت» لباسل الزين، الخامس بقلم أنطوان سيف عن فرانسوا ليوتار «في معنى الوضع ما بعد الحداثي» السادس عن جيل دُلوز «من فلسفة التفكيك إلى ما بعد الفلسفة» لمي- لين الدبس، والسابع حول مشكلة الانهمام بالذات عند ميشِل فوكو» لجمال نعيم، والثامن عن متلازمات ما بعد الحداثة عند جان بودريارد» لشادي كسحو، والتاسع حول «وجوه الهيمنة الرمزية في فكر بيار بورديو» لزهراء الطشم، والعاشر لخالد كموني حول «الظن الحضور والتخيف والاختلاف عند جاك دريدا» والحادي عشر حول ساره كوفمان بعنوان «تفكيك الألغاز وتأويل المستورات النفسية المتحكمة بالنص الفلسفي» لمشير باسيل عون، والثاني عشر حول «ترجمة الجمالية الأولى عند فيليب لاكو- بارت» ليوحنا عقيقي، والثالث عشر بعنوان «فيلسوف المعنى والصلة عند جان- لُك نانسي» لوفاء شعبان، والفصل الرابع عشر والأخير عن «مآزق زمن الخواء عند جيل ليبوفِتسكي» لرندى أبي عاد.
كما ذكرنا آنفا، يعالج هذا الجزء فلسفات البنيوية والتفكيك والاختلاف، ومن مكتسباتها المعرفية التي تكللت بها الاعترافُ بهشاشة الواقع الإنساني، والإقرارُ بنسبية التصورات، والقبولُ تاليا بمحدودية كل التقاليد وبإشكالية كل القضايا. هي إذن فلسفات الارتياب من الأصول الأولى التي كانت معتمدة حتى زمن الحداثة، ومنها العقل والحقيقة والهوية والمعنى والمرجع، والصواب والضلال والعقلانية والموضوعية والعلمية، والحرية والتقدم والرقي والازدهار والسلم الكوني.
في الختام، لا بد من القول، مع مُعد الموسوعة، إن ثمة مسؤولية تقع على عاتق الفكر العربي المعاصر، هي مسؤولية النظر النقدي في العوائق الفكرية وغير الفكرية التي تحجب عن المجتمعات العربية سبل التطور والدخول في الحداثة الكونية.
كاتبة لبنانية