ميشال سَر… كل منظومتنا المعرفية قد تغيرت

أجرى كل من سيرج أبيتبول وجيل دويك «مدونة بينار» حوارا مع ميشال سَر الفيلسوف ومؤرخ العلوم ورجل الآداب وعضو الأكاديمية الفرنسية، تحدث خلاله عن موضوع أثير لديه، ألا وهو موضوع التحولات المعرفية، الذي سبق له أن درسه في كتب ومقالات سابقة على غرار كتابه الأخير «الإبهام الصغيرة».

■ لقد كتبتَ عن التحول المعرفي الذي خضع له الإنسان بسبب ظهور المعلوماتية.
□ يندرج هذا التحول ضمن حراك قديم جدا. مع الكتابة والطباعة، صارت الذاكرة تستعين بمصادر خارجية، وأصبح التعبير عنها ممكنا. المعلوماتية تابعت ذلك الحراك. كانت كل مرحلة مصحوبة بتغيرات في مجال العلوم. المعلوماتية ليست استثناء. بالنسبة إلى المعرفة، أصبح لدينا الآن منفذ عالمي وفوري إلى كمية هائلة من المعلومات، لكن المعلومات ليست بعدُ هي المعرفة، إنها جسر لم يتم بناؤه بعد. المعرفة هي تحدي المعلوماتية المقبل. بجانب الذاكرة ، هناك مَلَكة أخرى تتحول: إنها الخيال، يعني القدرة على تشكيل الصور، هل نفقد القدرة على التخيل مع جميع الصور التي يمكننا الوصول إليها على الشبكة؟ أو هل نكتشف علاقة أخرى بالصورة؟ أما بالنسبة إلى الاستدلال المنطقي، فإن بعض البرامج تحل المشاكل التي تتجاوز قدرتنا، نرى أن كل منظومتنا المعرفية قد تغيرت: الذاكرة والخيال والتفكير.
■ المعلوماتية تحول كل شيء في المجتمع، فهل هناك خشية من ذلك؟
□ سأبدأ بالمهن، كان التنظيم الاجتماعي السابق مبنيا على التواصل وعلى التجميع، في ما يتعلق بالتواصل، لنُفَكر في مهنة الوسطاء، من «مُحولة المكالمات الهاتفية» إلى التاجر. وفي ما يتعلق بالتركيز، لنفكر في المدن – تجمع الأشخاص والقوة ـ وفي المكتبات – تجميع الكتب…إلخ. تقوم المعلوماتية بتحويل هذين العنصرين الأساسيين لمجتمعاتنا، ففي التواصل، نشهد اختفاء الوسطاء، أما في ما يتعلق بالتجميع، فإنه أفسح المجال للتوزيع. على سبيل المثال، يتم استبدال العملة الصادرة من البنوك المركزية (التجميع)، بعمولات مشفرة (التوزيع). كما أن الرابط الاجتماعي قد تغير بشكل عميق. على سبيل المثال، فإن العدد الأكبر من المكالمات على الهاتف المحمول هي مكالمات الأمهات للأطفال. وهذا يقلب العلاقات الأسرية.
ما تغير أيضا هو أنه يمكننا الاتصال بأي شخص، وفي أي وقت، لذا فالمسافة قد ألغيت وانتقلنا من المساحة المترية إلى فضاء طوبولوجي. كنا نتفاعل، في الماضي، مع أناس يعيشون بالقرب منا، وأصبحنا الآن جيران كل شخص نجده على الشبكة، حتى لو كان في الطرف الآخر من العالم. إن المعلوماتية أمر غير المجتمع المبني على العلاقات برمته.

إن الخطر الرئيسي للشبكات الاجتماعية، اليوم، ليس الانغلاق، بل الأكاذيب والإشاعات والأخبار الزائفة.

■ هل ترى هنا تكثيفا للعلاقات الاجتماعية؟
□ هذا مؤكد كميا. يقال إن الناس معزولون، ومرتبطون بهواتفهم المحمولة. عندما كنت صغيرا وكنت استقل قطار الأنفاق، لم أكن على اتصال مع الجالسين قربي. الآن أتكلم على الهاتف، وعلى اتصال مع شخص ما. خلافا لما يقال، فأنا أقل وحدة. تحدثتُ عن الشعور بالوحدة، ويجب أن نميز بين الشعور بالوحدة والشعور بالانتماء. قبل المعلوماتية، كنا نقول أنا فرنسي، أو صيني، أو بروطوني، أو مسيحي…. كانت تلك هي انتماءاتنا، التي بنيت في عالم لا يعرف أجهزة الكمبيوتر. على سبيل المثال، كنا نعيش في أقاليم مقطوعة فلكي نتمكن من الذهاب من مركز المحافظة إلى أي مكان نقضي نهارا بأكمله على صهوة جواد. لا معنى لهذا بعد الآن. انهارت هذه المجموعات كلها تقريبا. تُجبرنا المعلوماتية على بناء انتماءات جديدة. وهو ما يجعل الشبكات الاجتماعية ناجعة. نبحث بشكل أعمى عن مجموعات جديدة. في الماضي، كان يتمُ تحديد الشبكة الاجتماعية للمرء عبر جيرانه، لكن اليوم، يمكننا اختيار الأشخاص الذين يشبهوننا.
■ ألا يتهدد الإنسان خطر الانغلاق داخل انتماءات محددة؟
□ نعم هناك خطر، لكن ذلك يزيد من حريتنا. كان الأرستقراطيون، حين يلتقون، يقولون «مرحبا يا أخي» أو «يا ابن عمي». وقد توجه أحد الأرستقراطيين إلى نابليون قائلا: «مرحبا يا صديقي»، للتأكيد على أن نابليون لم يكن أرستقراطيا. فرد عليه نابليون قائلا: «لا يختار المرء أسرته لكنه يختار أصدقاءه». إن الخطر الرئيسي للشبكات الاجتماعية، اليوم، ليس الانغلاق، بل الأكاذيب والإشاعات والأخبار الزائفة. لقد اختبرنا الأخطار الهائلة للشائعات وللكراهية. هكذا إذن، نحن لدينا مشكلة خطيرة.
ذلك أننا لا نعرف حتى الآن كيفية تقييم آثار هذه الأكاذيب. هل هي مَن حددت انتخاب دونالد ترامب؟ لكن المسألة هي أكثر شمولية. فما نعرفه هو أنه وُجِد ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وزعامة بوتين…. وسبب هذه الموجة يتأتى من خوف الناس من المستقبل. وهذا، جزئيا، هو خطأ المعلوماتية. بالنسبة إلينا، نحن ورثة عصر التنوير للقرن الثامن عشر، كانت لدينا ثقة مطلقة تقريبا، وربما متحمسة جدا، في التقدم المعرفي. تذكرنا هذه الأحداث أن كل تقدم له ضريبة. هذا هو الثمن الذي يجب دفعه مقابل الوصول الشامل إلى جميع المعلومات، أي وسيلة للتواصل هي، في الآن نفسه، أفضل وأسوأ الأشياء. وعلينا أن نتقبل ذلك. إن ذلك يعطي فكرة عن الأخلاق الجديدة، كان بوش قد تحدث عن محور الشر، كما لو كان هناك القديس جورج على جانب والتنين على الجانب الآخر. ولكن بمجرد أن نقاتل الشر، نصبح أشرارا ويتحول القديس جورج إلى تنين. إن الشر يمتزج بشكل دقيق مع الخير. وهذا يعطي نوعا من فلسفة الامتزاج. وقد كانت للفيلسوف لايبنيز كلمة في هذا الأمر: «الوتر السابع، تنافر ما، في مكان ملائم، يمكن أن يؤدي إلى تكوين شيء أفضل بكثير من التوافق المثالي».

لقد عايشنا تحولا ثقافيا كبيرا بسبب العلوم الطبيعية والفيزياء والكيمياء والطب، وما إلى ذلك، إضافة إلى المعلوماتية بالطبع.

■ في هذا المجتمع المتغير، أليس من الضروري أيضا أن تتحول السياسة؟
□ أنتما على حق. لقد عايشنا تحولا ثقافيا كبيرا بسبب العلوم الطبيعية والفيزياء والكيمياء والطب، وما إلى ذلك، إضافة إلى المعلوماتية بالطبع. وقد حسمت العلوم الصلبة، أكثر من العلوم الإنسانية، هذه التحولات. ومع ذلك، فإن تكوين الذين يحكموننا هو في الغالب يندرج ضمن العلوم الإنسانية، ولذلك فهي كارثة بكل المقاييس. فصانع القرار والصحافي… أولئك الذين لديهم الكلمة الفصل لا يعرفون شيئا عن العلوم الصلبة. هذا أمر خطير للغاية نظرا لأنه يجب إعادة النظر في السياسة، وفقا للعالم المعاصر. فهم لا يمكنهم الاستمرار في البت في أمور لم يعودوا يفهمونها. ونحن نلاحظ ذلك يوميا. في الآونة الأخيرة، دعاني لوران فابيوس لحضور «ليلة القانون»، الذي خصص جزء كبير جدا منه للبيئة. كان هناك رجال قانون، وفلاسفة، وعلماء اجتماع، وما إلى ذلك، لكن لم يكن هناك عالم واحد. فقلت لفابيوس: سنتخذ قرارات بشأن أمور لا نفهمها. فرد عليّ: آه، لدينا معلومات.
■ لديكم معلومات، لكنكم لا تمتلكون المعرفة! فما بإمكان المواطن الذي يعيش هذه الأزمات أن يفعل؟
□ المواطن يعيش في عالم جديد تماما، يديره أناس يأتون من عوالم قديمة كلية. لذا، فالمواطن ممزق حتى إذا لم يفهم ما يعيشه. تأتي الأزمات السياسية التي نمر بها من هذه المفارقة، فهي أزمات معرفية بالأساس. يتم بناء حرم جامعي كوندورسيه (معهد يحمل اسم المركيز دو كوندروسيه 1743- 1794، وهو رياضي وفيلسوف فرنسي) مخصص حصريا للعلوم الإنسانية، شمال باريس. وفي جنوبها، توجد جامعة ساكلاي، المكرسة بشكل أساسي للعلوم الصلبة. هناك عشرات من الكيلومترات بين الاثنين. والنتيجة مثقفون جهلة أو علماء غير مثقفين. في حين أن التقليد الفلسفي كان العكس تماما.
■ هذا الانفصال يزعجنا بقدر ما يزعجك. ولكن يبدو أن هناك وعيا به وقد بدأ الشعور بالحاجة إلى كسر هذه الحدود؟
□ في فترات الأزمات، تتطلب المشاكل الرئيسية حلولا متعددة التخصصات، لنأخذ، مثلا، موضوع البطالة، إنها تمس العمل والتعليم والزراعة… لا تستطيع حكومة مقسمة إلى أجزاء صغيرة حل هذه المشاكل متعددة التخصصات. نحن، علماء نواصل سلك طريق أدى إلى ظهور المعلوماتية مع آلان تورينج. لدينا فكرة تاريخ وتطور. الحُكْمُ يعني الإمساك بالدفة، ومعرفة أين نحن، ومن أين أتينا، وإلى أين نحن ذاهبون. اليوم، لم يعد يوجد قائد، بل فقط إدارة (الأعمال). لم تعد توجد حكومة لأنه لم يعد يوجد تاريخ. ولم يعد هناك المزيد من التاريخ لأنه لم يعد هناك معرفة بالعلوم. إن العلوم الصلبة هي التي صنعت العالم الحديث، وليس التاريخ الذي يتحدث عنه اختصاصيو العلوم الإنسانية. يجب علينا الجمع بين الاثنين. وللمعلوماتية دور أساسي تلعبه، بما في ذلك تطوير العلوم الإنسانية. يجب على علماء الكمبيوتر أن يتعلموا كيف يكونون علماء الاجتماع، بعض الشيء، خبراء اقتصاديين، وما إلى ذلك. ويجب على الباحثين في العلوم الإنسانية أن يُلموا بعض الشيء بعلوم الكمبيوتر. إنه لمن الضروري أن تكون لدى المرء وجهتا النظر هاتان للغوص في العالم الحقيقي.

في فترات الأزمات، تتطلب المشاكل الرئيسية حلولا متعددة التخصصات، لنأخذ، مثلا، موضوع البطالة، إنها تمس العمل والتعليم والزراعة.

■ ربما يمكننا أن ننهي الحوار برؤيتك لهذا المجتمع في طور التشكل؟
□ لقد أحدثت الثورة الصناعية الأخيرة فوضى كبيرة. على سبيل المثال، وقع تصنيع كميات ضخمة من السيارات التي تُستخدَم لأقل من ساعة في اليوم. أنا لا أشاطر وجهة نظر جيريمي ريفكين الذي يتحدث عن الحوسبة كثورة صناعية جديدة. تُسرع الثورة الصناعية الإنتروبيا (درجة التعادل الحراري أو قياس الطاقة اللامتاحة)، عندما تسرع ثورة الكمبيوتر المعلومة. الأمر مختلف للغاية. فرق آخر مع الثورة الصناعية هو العمل. في كل ثورة صناعية، تختفي مهن وتظهر أخرى. على سبيل المثال، أصبح الفلاحون عمالا.
من المرجح أن تُدمر المعلوماتية العديد من الوظائف أكثر مما ستخلقه. ليس لدينا الأرقام لأن الثورة جارية، لكن علينا أن نستعد لما ستبلغه. في مجتمع الأمس، كان العامل يُعتبر رجلا عاديا. لكن لن يكون الحال على ما هو عليه في المستقبل.
وهذا أيضا دليل على أننا لا نعيش ثورة صناعية. كان العمل قيمة أساسية. في مجتمع الغد، ربما خلال 50 عاما، سيكون العمل نشاطا نادرا. لهذا علينا تخيل مجتمع بقِيَمٍ أخرى. أعظم فيلسوف في عصرنا سيكون ذلك الشخص الذي سيصور هذا المجتمع الجديد، مجتمع الكسل. ماذا سنفعل بكل الوقت الذي وفرته لنا المعلوماتية؟ لا شيء سوى مشاهدة التلفزيون.. أيْ: أن نصير حَمْقَى.

٭ كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية