مُسابقة كارل لويس بدل كارل ماركس

حجم الخط
0

في السوشيال ميديا ينعدم الفاصل بين الحياة العامة والحياة الخاصة، يصير المثقف عارياً، مجرداً من هامش العزلة، تتحول سلوكياته أو كلامه إلى مادة يتداولها الناس في ما بينهم، تارة بالتصفيق وتارة أخرى بالذم. كما أن المثقف نفسه يتلبس تلك اللعبة، يجد في فيسبوك وسيلة قصد التعبير عن كبت، عن حاجاته النفسية، يتخلى عن دوره في التفكير، فيصير ميالاً للانفعال، يُمارس ردود الفعل أكثر من ممارسة الفعل في حد ذاته. لقد جردته السوشيال ميديا من شرط التفكير، لم يعد يجد سكينة في الانعزال، في الانسحاب من الجموع، بل إنه يخوض معهم في كل حين، يدون ويعلق، ينشر صورة أو يرد على تعليق، يتفاعل مع منشور شخص آخر أو يتراسل معه، كل ذلك يحصل في الدقيقة نفسها، فالزمن هو ترمومتر النشاط على فيسبوك، وكل حدث افتراضي لا تطول حياته أكثر من 24 ساعة.

بالتالي يشعر المثقف كما لو أنه في سباقات السرعة، إنه يُسابق كارل لويس لا يُسابق كارل ماركس، ليس مهماً أن يتخذ مسافة للتأمل والحذر، بل إنه يغطس رأيه في الأحداث في حينها، في ساعة سريانها، خوفاً من أن ينعت بالجبن. مع أن المثقف الجبان أكثر حكمة من مثقف متسرع. يخشى أن يقيس الآخرون شجاعته من عدمها بمدى سرعته في الأخذ والرد مع التعليقات التي تظهر على شاشة موبايله في كل ساعة.

في السوشيال ميديا، ينزع المثقف إلى ممارسة ما يُشبه «التويزة» إنه يُشارك الآخرين ـ سواء أكان يعرفهم أو لا يعرفهم ـ انفعالاتهم وأحاسيسهم، لم يعد متاحاً له أن يتريث، فهو أيضاً تحت تأثير اللحظة، سواء كانت لحظة حزن أو فرح، إنه منخرط في عمل جماعي، يشارك فيه مثقف آخر أو غير مثقف، ففي فيسبوك تتجلى أعلى قيم الديمقراطية. الناس كلهم لهم الحق في إبداء الرأي، أو الاعتراض، لهم الحق في النشر أو الحذف، في الرد بأدب أو بطيش. فيصير المثقف رقماً مثل الملايين من الأرقام الأخرى، لا فضل له على غيره، ولا تراتبية نظراً إلى صفته مقارنة بالآخرين، يصير المشهد أقرب إلى بازار. ففي البازار السلطة لمن يملك مالاً أكثر من غيره، وفي فيسبوك السلطة لمن يملك متابعين وهميين أكثر من غيره، من هنا تتأتى أولى الصدامات، حين يتحول المثقف إلى مهرج، قصد كسب المريدين في حسابه، مثل راقص يود كسب «الرشقة» في أمسيات الصيف الحارة.

في السوشيال ميديا، يتخلى المثقف عن كرسيه الأثير في الحياد، فيصير متحدثاً باسم القضايا كلها، وفي غفلة منه يجمع بين النقيضين في الدقيقة الواحدة. يصير يسارياً يُرافع من أجل «التشيغيفارية» من غير أن يتضايق من كونه ضيفاً على سوشيال ميديا رأسمالية الهوى.

لم يعد من الممكن أن نفرق بين مثقف ومندس في فيسبوك، بحكم أنهما يمارسان الفعل عينه، كلاهما يجري خلف جمع اللايكات والتعليقات على منشوراته، بل من المثقفين من يعتقد أنه امتلك حيلة علي بابا، فيُغرق فيسبوك بأخبار الموت والموتى، قناعة منه أن الجزائريين يجمعهم الحزن أكثر مما يجمعهم الفرح، على رأي مالك حداد، فيمعن في الجنائز، بل يصير ناطقاً باسم الموتى لعل القلوب الرحيمة تنتشل وحدته باللايكات، وعلى النقيض فهناك من المثقفين من استبدل النص بالصورة، يفضل نشر ألبومات بدل نثر كلمات، نراه في كل حين، في المطبخ أو الصالون، جالساً أو واقفاً، ممسكاً كتاباً أو كأساً، كي يستميل القلوب المبتهجة، ويصير صاحب لايكات أكثر من نظيره. هكذا إذن يتحول المشهد من ابتكار الأفكار إلى ابتكار الغبار، وتصير المعركة بين مثقفين من معركة قضية إلى معركة أرقام، من يمتلك أعلى رقم من المتابعين فهو المنتصر وصاحب الوسام.

في السوشيال ميديا، يتخلى المثقف عن كرسيه الأثير في الحياد، فيصير متحدثاً باسم القضايا كلها، وفي غفلة منه يجمع بين النقيضين في الدقيقة الواحدة. يصير يسارياً يُرافع من أجل «التشيغيفارية» من غير أن يتضايق من كونه ضيفاً على سوشيال ميديا رأسمالية الهوى. لم يعد الحياد شرطاً في حياة المثقف الجديد. لم تعد العزلة أساساً في شغله الفكري، لقد قرر أن يُخرج الكبت الذي أقام طويلاً في قلبه، صار يركض خلف اللاعزلة، بل إن عزلته صارت تقاس بقلة التفاعلات مع منشوراته، هكذا هو الخيار السائد، فهل نحزن إزاء التصحر الثقافي الذي نحيا فيه؟

طبعاً لا، فالمثقف الذي لا يُقاوم إغراء اللحظة الراهنة، الذي لا يتمسك بصبر قبل أن يطلق لسانه بالكلام، ثم أصابعه على الكيبورد، هو مثقف مواسم لا أكثر. إن هذه السلوكيات التي تسير على إيقاعها يومياتنا تجعلنا نعيد التفكير في مكانة المثقف الجزائري وأهميته في الزمن الحاضر. فبعض المثقفين تضايقهم جملة مستوردة من العصور الوسطى، تقول: «المثقف يعيش في برج عاجي». صاحب هذه المقولة كان يتحدث عن زمن سابق، حيث كانت الثقافة حكراً على الارستقراطية، بينما المثقف الحالي فهو نتاج احتكاك طويل مع الطبقات السحيقة من المجتمع. المثقف الجزائري الحالي هو نتاج أجيال، من محمد بن أبي شنب إلى فرحات عباس، من فرانز فانون إلى أبي القاسم سعد الله، من محمد ديب إلى علي الكنز، إنه قرن من المثقفين الجزائريين الذين عاشوا كلهم ضمن الأحداث الكبرى، ضمن التاريخ الأشمل للبلاد، ولم يعرفوا أبراجا عاجية، فلماذا يتنازل المثقف الحالي عن إرثه؟ يتبرأ من جيناته ويصير ميالاً للخيارات السهلة، وهي إرضاء العامة، على فيسبوك، فيتحول حائطه إما إلى مبكى أو ملهى توسلا للمتابعين. كان يفترض أن يكون المثقف مقياساً في الفصل بين الآراء المتضاربة في ما بينها، أن ينقل مكتبه إلى السوشيال ميديا، مع الحذر من السقوط في إغراءات اللحظة، أن يواصل عمله في الفضاء العام كما كان يفعل في الفضاء الخاص، لكن يبدو أن الجموع هي من سحبت المثقف إليها، فجعلت منه واحداً من صنوفها، بدل أن يحصل العكس. هكذا شيئاً فشيئاً امحت وظيفة المثقف وصار لا فرق بينه وبين مشوش، وبدل أن يُحافظ على برجه العاجي، الذي يخجل من سماع كلام عنه، يتوارى في كهف الجري مع السائد، لا فضل له على غيره، ولا شيء يجعلنا نفكر أنه عاش ـ في زمن سابق ـ كمثقف جزائري.

روائي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية