مِيدَان ومساءاتُها

حجم الخط
0

من بين أهم البيانات الثقافية، التي عرفها الأدب الفرنسي، إبان القرن التاسع عشر، نجد: «مساءات مِيدان». بما هي مجموعة من الروايات القصيرة لشلة من الكتاب الفرنسيين المرموقين. ففي سنة 1880 انضم غي دو مون باسن إلى الكتاب الجماعي من خلال مجموعته القصصية «كرة الشحم» إلى جانب إميل زولا في روايته «هجوم الطاحونة». هذا العمل المشترك جاء وثيقة تؤرخ للحرب البروسية، التي حاولت الإطاحة بنابليون الثالث، ومن خلالها دخل الأدب غمار التأريخ لأحداث شهدتها أوروبا، مما كان لألمانيا أطماع ونفوذ في فرنسا، حاولت في معركة سيدان أن تسترجع ماضيها التليد.
فـ«مساءات ميدان» كان العنوان الذي ظل شاهدا على ملحمة المدرسة الطبيعية في الأدب الفرنسي، وفتحت شهية الكتابة والتأليف عند العديد من رواد «المساءات». فالانضمام إلى الكِتاب الجماعي، عند مون باسن، معناه أنه فتح أمامه شهية الإبداع عن طريق نشر قصص قصيرة ومطولة، بانتظام في الصحف الفرنسية، وفي مقدمتها نجد: «لوفيغارو» و«جيل بلاس» و«صدى باريس». وحتى لا يتيه هذا العمل الجبار، تم جمعه في أضمومات عبارة عن حكايات سبق نشرها. ففي سنة 1881 كان موباسن على موعد مع باكورته الإبداعية، الذي تحمل عنوان «منزل الراوي» بما هي ضمت تسع قصص مطولة أهمها: «المقابر» و«منزل الراوي» و«على الماء» و«مع العائلة» و«والد سيمون» و«قصة بنت الضيعة» وقصص أخرى. وفي سنة 1883 ألف مجموعته القصصية «حكايات الحطاب» التي يعيد فيها ذكريات صياد أقعده الزمن، وحنينه الجارف إلى فتوته في الصيد على الرغم من المواساة والتخفيف، لما آل إليه مصيره، من طرف أصدقائه القدامى. وفي سنة 1885 تنضاف «حكايات النهار والليل» إلى قائمة الإبداعات التي عُرف به مون بسان، فبفعل عائداته من إبداعاته، اختار الاستقالة عن وزارة البحرية، والتفرغ للنشر في كبريات الجرائد الباريسية؛ لو فيغارو وجيل بلاس. لتتوالى بعد ذلك أضمومات عديدة من مؤلفاته كـ«حياة» و«الصديق الوسيم» وفي سنة 1888ألف حكايات «بيير وجون»؛ وبهذا النجاح والشهرة استطاع مون باسن من تسلق السلم الاجتماعي، في زمن قياسي، نحو الأثرياء في فرنسا، بفضل الإقبال المتزايد والنهِم الوفير على اقتناء كتبه، ما وسع من قاعدة قرائه ومتتبعيه ومحبي أدبه داخل فرنسا وخارجها؛ ونتيجة لذلك اقتنى «يختا» سافر على متنه متنزها في عرض البحر الأبيض المتوسط، ليعود أدراجه بعدما زار إيطاليا وإنكلترا وجنوب فرنسا.
ويعتبر مؤلفه «سيرة حياة» أول سيرة روائية كتبها غي مون باسن، تحكي عن جان الفتاة ابنة البارون سيمون جاك، التي أنهت دراستها، وعادت إلى والديها لتعيش في كنفهما في نورماندي غرب فرنسا، وإن كانت هذه السيرة مفعمة بالحب والرتابة والحنين، فضلا عن الألم والوحدة والتعاسة، فإنها تنحدر في اتجاه الموت، الذي كان يراود مون باسن، حيث إن الحياة، في نظره، لا تساوي هذا التعب والاجتهاد والجهد الذي يُبدل من أجلها.

يأتي إبداع غي مون باسن ليعري واقع البورجوازية الفرنسية الناشئة والمتوحشة من خلال أعمال قصصية وروائية رائدة، ليضع الإبداع على المحك، ويصبح مون باسن حاملا مشعل المثقف الطامح نحو النقلة النوعية الخاصة في المجتمع الفرنسي.

هذه السيرة الروائية أول ما ظهرت في سلسلة حلقات في الجريدة اليومية الباريسية «جيل بلاس» قبل أن ترى النور في شكل كتاب روائي. فبعدما وصف مون بسان عادات وتقاليد المجتمع الفرنسي، «في سيرة حياة» ما لبث أن انتقل في الرواية الثانية «الصديق الوسيم» إلى انتقاد هذه الأسس الثقافية والعقدية للأسر البورجوازية الباريسية، وما تخلله من نظرة سوداوية، خصوصا عندما افتقد صديقه الحميم غوستاف فلوبير، الذي كان يعتبره بمثابة الأب الروحي وملهم إبداعاته، فترك فراغا غائرا في مسيرته الروائية. بالموازاة مع ذلك، فرواية «الصديق الوسيم» أكثر جاذبية من خلال التعبير عن الواقع الاجتماعي والسياسي الفرنسي نهاية القرن التاسع عشر من خلال بطل الرواية جورج ديروي، الذي انقلبت حياته رأسا على عقب بمجرد ربط آصرة الصداقة مع شارل فروستيير. الذي فسح أمامه باب الصحافة، وبالتالي باب الشهرة.

فرواية «الصديق الوسيم» لغي مون باسن وسعت من دائرة التلقي، لتشمل المهتمين بالسينما، حيث انضاف عشاق الأدب إلى عشاق الفن السابع، فبقدر ما انضبطت الرواية في إخراجها السينمائي بقدر ما صار غي مون باسن على كل لسان. فمعية المخرج البريطاني ديكلان دنلان، استطاع مواطن هذا الأخير؛ الممثل وعارض الأزياء والموسيقي روبير باتنسون، سنة 2012، من أن يلعب دور البطل جورج ديروي، إلى جانب الممثلتين القديرتين كريستينا ريسي وإيما تورمان.
يأتي إبداع غي مون باسن ليعري واقع البورجوازية الفرنسية الناشئة والمتوحشة من خلال أعمال قصصية وروائية رائدة، ليضع الإبداع على المحك، ويصبح مون باسن حاملا مشعل المثقف الطامح نحو النقلة النوعية الخاصة في المجتمع الفرنسي؛ لأن الكاتب يؤمن بأن رسالة الأدب لا تقف عند حدود الفن فقط، بل يجب أن يتعداه ليرسم خريطة طريق نحو المستقبل المشرق، وبالتالي يحقق تلك البصمة المفقودة، كما فعل غوستاف فلوبير، من خلال رائدته «مدام بوفاري» إلى جانب هونوغي دو بالزاك وستندال، وفيكتور هوغو، وإميل زولا، وليو تولستوي وغيرهم كثير…

كاتب‭ ‬مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية