نبلُ التصوف والأمن الروحي

في مثل ظروفنا الراهنة، والمجتمع العربي يعيش حاضرا مضطربا في ظل مصير مجهول، حيث يواجه المسلم، كما المسيحي والعلماني واليساري واليميني مصيرا واحدا، بات من اللازم علينا كعرب أن نعيد طرح سؤال الهوية العربية الإسلامية من جديد. هوية لا يمكن إلا أن نراها متجددة، ومتعددة، ومتخلقة، وآمنة. إن التخلق في عصب هذا المنعطف التاريخي العربي، سيكون هو الضامن الحقيقي للذهاب بالأمة العربية الإسلامية، نحو مستقبل عربي أكثر أمنا وخصوصية.
ليس من شك، إذن، في أن الإنسان في أصله، كائن مجبول على التخلق، تفرّد بهذه الخاصية عن سائر المخلوقات الحيوانية، عكس ما كان يُعتقد منذ الفلسفة اليونانية، إلى يومنا هذا، بأن العقل هو المقوم الرئيسي والفيصل بين الإنسية والبهيمة. فقد يشترك الحيوان مع الإنسان، بنسب تقل أو تكثر، في هذا التعقل. غير أن ما يسم هذا الكائن البشري بسمة الإنسية هو الفعل «الإيتوسي» أي (الفعل الخلقي) بما هو فعل بمكنته القدرة على نقلنا من عالم التجلي- بتعبير هيدغر- إلى «عالم المثال».
إن الإنسان هويةٌ أخلاقيةٌ قبل وبعد أن كانت عقلانية، على اعتبار أن الفعل العقلي ليس وحده الكفيل بخلق التمايز بين الإنسية والبهيمة؛ بله، وإن كان مدخلا آمنا للفعل الخلقي، يُنزل الإنسان إلى مرتبة البهيمة متى صار ضارا.
لا ريب إذن، والحالة هذه، أن طبيعة الهوية الإنسانية أخلاقية بامتياز، وأن الإنسان المتخلق، في سعيه إلى حقيقة الوجود، لما يزل يتشبث بحقيقة التخلق، دون أن يسرف في إلغاء وتغييب العقل المنحاز – للأسف – داخل المشروع الحضاري الجديد، في جوانب كثيرة منه، إلى اللاأخلاقية.
والحق إنني أتصور أن الخُلق الحق، كان يصدر دائما عن مرجعيات دينية، على اختلافها وتنوعها، ما يعني أن الأصل في الأخلاق هو الدين. فالدين، كما يقول طه عبد الرحمن «يجيب أساسا عن السؤال المحدد للهوية البشرية، وهو كيف أكون على خلق» (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي). فضلا عن هذا، يختص الدين، دون غيره من الدساتير الوضعية، بعنصر النفاذ إلى كل الظواهر السلوكية النفسية، والمعنوية المتمنعة دوما، التي تلعب دورا رئيسيا في الإجهاز على كل ما هو سام وجميل، وذلك بقصد المحاسبة والتقويم.
إن مظاهر القبح التي تلف حياتنا المعاصرة، سببها الرئيس، التجرد الكلي من الوازع الأخلاقي الديني، وكذا الارتماء المفرط في مستنقع الماديات، والحسّيات المشيّئة للإنسان. والحاصل إن السبيل إلى الامتلاء الروحي، أو كما سماه أحدهم بالأمن الروحي، هو التوسل بالتربية الخلقية الدينية، والتشبع بها. ولما كان الدين الإسلامي هو خاتم الأديان السماوية، انتهى صاحب مشروع «تخليق الحداثة» طه عبد الرحمن، إلى أن الجواب الأخلاقي الذي من شأنه قهر العولمة في بعدها السلبي، الذي يسلب الإنسان إرادته، هو الدين الإسلامي وليس غيره. فليس من شك في أن الإسلام قد احتفى بالإنسان في بعده ورمزيته، وسعى إلى الرقي به إلى مداه النقي، ونبعه الصافي، عبر تخليقه وتهذيبه، خصوصا إذا ما علمنا أن جوهر الدين الإسلامي خُلقيٌّ بامتياز، ذلك أن الإسلام جاء ليكمل النقائص الموجودة في أخلاق العرب. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وبهذا النزوع يكون الإسلام قد أسس، عبر منهجه القويم، الأرضية الصلبة لممارسة ثقافية وحضارية متفتحة على الزمان والمكان، إلا أنه ينبغي أن لا تغيب عن أذهاننا حقيقة مفيدة، وهي أن مقولة الأخلاق ليست بالضرورة دينية. فهناك مرجعيات أخرى لهذه المقولة، كالأخلاق العلمانية، التي تحتكم إلى قيم الحداثة النبيلة، مثل الديمقراطية والعقلانية والاختلاف، في سبيل تنظيم العلاقات بين الأفراد ضد كل أشكال العنف والإقصاء والتهميش. لذلك فإنني، عندما لوحت بالدين الإسلامي، كمنهج قويم ومتفتح، الآن وهنا، فلإيماني القوي بمدى قدرة هذا الدين الحنيف، أكثر من أي عقيدة أخرى، على استيعاب كل الأطياف، دينية كانت أم علمانية، بأريحية كبيرة، مما لا يدع مجالا لأي نوع من الإقصاء أو التهميش. فلا شك في أن الإسلام بمكنته أن يشكل وعاء لمنظومة خُلقية كونية، يتعايش فيها الأنا والغير.
وفي داخل هذا الوعاء الديني، نعثر على مسلك قويم، صالح لتقويم هويتنا المتعددة والمتجددة، بما يضمن مصلحة كل طرف، دون أن يؤثر ذلك سلبا على مصلحة الهوية العليا، وأقصد بذلك التصوف، كمسلك سلوكي وتربوي، لا كمسلك هروبي- استسلامي. والحق أن المشروع الحداثي الغربي، على الرغم من سلبياته، فقد أسس لبعض القيم الإنسانية النبيلة، كالمساواة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما أسلفت، وهي التفاتة إيجابية جدا تُحسب له، ولا يمكن أن ينكرها سوى جاحد. القيم نفسها نجدها مبطنة في مدونة الدين الإسلامي، وأخرى عديدة يضمها لا تعد ولا تحصى، وإن كانت القراءة الرسمية للإسلام، القراءة التي تحكمت فيها السلطة المركزية تاريخيا، قد غيبتها انطلاقا من تأويلات مغرضة تعللت بفكرة الإجماع، تأويلات تحكمت فيها مصالح السلطة المركزية أولا وأخيرا، إلا أنه، على الرغم من ذلك، كانت هناك بعض القراءات المتحررة، والمتنورة للنص القرآني، لعل أهمها المشروع الصوفي، وإن تعرضت للإقصاء والتهميش والطمس، قد تبنت هذه القيم، واعتقدت بها فكرا وسلوكا، كالمحبة والتسامح والحرية والحوار. هي قيم تتطابق في مضمونها، لا شك، مع قيم المشروع الحداثي في جانبه الإنساني. ومن هنا تأتي مشروعية وإمكانية الاستفادة من هذا المشروع، في طريقنا، نحن العرب المسلمين، لبناء هوية ثقافية متخلقة وآمنة، هوية يتصالح فيها الحداثي مع الصوفي، والعقل مع الحدس، والحقيقة العلمية مع الحقيقة القلبية.
إن التصوف تجربة دينية فريدة، يسعى المتصوف، بها ومن خلالها، إلى التقرب من الله، من خلال التأمل والتفكير العميق في معاني الحياة. وبذلك فالتصوف، كفلسفة ومسلك في الحياة، يتجاوز حدود الشرائع والقوانين، ليغوص في أعماق الروح والوجدان. في قلب فلسفة التصوف، إذن، يكمن المفهوم الجوهري للوحدة مع الله، حيث يرى المتصوفون أن الروح الإنسانية هي جزء من الوحدة الإلهية، لذلك نراهم دائما في سعي حثيث إلى فهم الذات والتواصل مع الله عبر الصلاة والصوم والتصوف الذاتي، بل إنهم يعتبرون هذه الطرق وسيلة لتحقيق التأثير الروحي والتحول الداخلي. ومن فضائل التصوف كذلك، كونه يركز أيضا على فهم الحياة بمفهوم أعمق، حيث يتجاوز المتصوفون الجوانب الظاهرية، ويسعون لفهم الأسرار الكامنة في الوجود، ويعتبرون الحياة مغامرة روحية، في أفق فهم عميق للحقيقة والوجود.
إن التصوف بعدّه مسلكا تربويا قويما، يغذي الروح، ويُصلح حال الفرد والمجتمع، ويبذر فيهما بذور المحبة والتسامح والحوار، يعتبر سبيلا آمنا، كفيلا بإنقاذ البشرية من همجية عولمة جارفة ومائعة. فالتصوف، كمشروع ثقافي كوني، يطبع الفرد بالسلوك الكريم، ويحيي الضمير لديه، والشعور بالمسؤولية، ومحاسبة النفس، ومراقبة الله سبحانه وتعالى له على الدوام. إنه أوج المثالية الخلقية، وحامل لوائها، التي قد ترفعنا إلى مراتب أرقى المجتمعات. إن التصوف الإسلامي، كمنهج خلقي وتربوي، ما فتئ يدافع عن قيم إنسانية سامية كالمحبة والتسامح والحوار، واعتبرها مرتكزات أساسية في فلسفة التصوف (نظرا وممارسة). يقول ابن عربي/الشيخ الأكبر، مختزلا كل هذه المكتسبات الإنسانية النبيلة، في مقطع شعري رائع وبديع:
لقد صار قلبي قبلا كل سورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني.
والأكيد أن المحبة الصوفية، والتسامح، والحوار، بوصفها قيما إنسانية، يمكن المراهنة عليها، سواء في علاقتنا مع ذواتنا أو مع الآخر، أقول إن هذه القيم ستشكل لأمتنا العربية الإسلامية، لا محالة، أفقا إنسانيا وكونيا، من شأنه أن يصحّح صورة العربي والمسلم في معتقد الآخر، وأن يعيد الاعتبار لدينه أولا، ولنفسه ثانيا.

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نينار إسبر:

    أستاذ محمد الديهاجي/
    لطالما استهللت بالكلام الحميم على المجتمع العربي إزاء حاضره المضطرب ومصير ه المجهول، سواء كان الفرد مسلما أم مسيحيا أم حتى علمانيا إلخ، كان عليك إذن أن تقول بأنه بات لزاما علينا كعرب (ناطقين باللغة العربية) أن نعيد طرح سؤال “الهوية العربية” من جديد بغض النظر عن كونها “إسلامية” في القرينة. ذلك لأن مجرد القول بـ”الهوية العربية الإسلامية” على المستوى الاسمي لا غير إنما يخلق، أو على الأدنى يساهم في أن يخلق، ضمنا نوعا من الحساسية التمييزية لدى الفرد غير المسلم لكن الناطق باللغة العربية – هذا إذا كنا نتطلع بالفعل إلى السير دأبا نحو مستقبل عربي (وليس نحو مستقبل عربي “إسلامي”، فحسب) أكثر أمنا وخصوصية، كما أسلفت !!
    مع التحية

    1. يقول المؤمنة بالله:

      أحسنت أخت نينار إسبر
      العرب غير المسلمين لهم حق وعليهم واجب
      تماما كمثل حال العرب المسلمين شاء من شاء وأبى من أبى

  2. يقول الناقد الفلسفي:

    [إن الإنسان هويةٌ أخلاقيةٌ قبل وبعد أن كانت عقلانية، على اعتبار أن الفعل العقلي ليس وحده الكفيل بخلق التمايز بين الإنسية والبهيمة؛ بله، وإن كان مدخلا آمنا للفعل الخلقي، يُنزل الإنسان إلى مرتبة البهيمة متى صار ضارا] اه
    ثمة في هذا التصريح شيء من الالتباس المنطقي والتراتبي حقيقةً – إن الإنسان، قبل كل شيء، “هويةٌ عقلانية” بكل من تمثُّلاتها الإيجابية وتجسُّداتها السلبية، وإن كونه “هويةً أخلاقيةً، إن تحصّل فعلا واقعا، إنما يتحصّل بعد ظهور أيما إرهاص قابل للإدراك من إرهاصات الفعل العقلي، سواء كان هذا الفعل كفيلا بخلق التمايز بين الإنسية والبهيمية أم لم يكن. أقول هذا الكلام بشيء من اليقين لأن الفعل الخُلقي، إن بان أيُّ تجلٍّ مُسْتَشَفٍّ من تجلياته الماثلة، إنما يقوم على مدى التمييز بين ما هو “صحٌّ” وبين ما هو “شطحٌ” عن الصحِّ (كيلا أقولَ “غلطٌ” أو “خطأٌ”) وفقا لنسق من الأنساق “المثلى”. وبما أن فعلَ التمييز هذا لَفعلٌ عقليٌّ في حدّ ذاته، فمن المنطقي إذن أن يكونَ الإنسانُ “هويةً عقلانيةً” كونا سابقا (تراتبيا) على كونه “هويةً أخلاقيةً، مثلما هو بيِّنٌ كل البيان وجليٌّ كل الجلاء – إنزال الإنسان إلى مرتبة البهيمية إن صار ضارًّا فعلا ليس، بالضرورة، إنزالا إلى ما لا مساسَ له بالفعل العقلي.
    سلامات

    1. يقول حسان:

      ذلك، متعلق بكونه عقلا ( عربيا) بالمفهوم القراني-
      لقوم يعقلون ويفقهون
      ويتدبرون ويتوسمون
      ويستنبطون ويتفكرون
      ويتقون،- وليس عقلا ديكارتيا
      محدودا ضامرا والاهم؛ ملتبسا( انا افكر ولا اعرف نفسي..)
      او،كوصف شاعر فرنسا:
      ” عقلنا الشاحب الذي يحجب الابدي عنا”.
      تحياتي ومودتي

    2. يقول نينار إسبر:

      ثَمَّ شيء من الالتباس هنا أيضا:
      1 لا فرق بين عقل عربي وعقل أعجمي إزاء البحث عن الحقيقة حتى بالمفهوم القرآني.
      2 العقل الديكارتي لم يكن محدودا ولا ضامرا ولا حتى ملتبسا (أنا أفكر إذن أنا موجود).
      3 هكذا مقولة هي غائية أنطولوجية قبل أن تكون غائية إبستمولوجية لو يفقه أولو الألباب.
      تحية للأخ الناقد الفلسفي

    3. يقول حسان:

      الى نينار اسبر
      يبدو انكم اساتم الفهم..
      ليس المقصود عقلا ( عربيا)
      بالمعنى القومي او الاثني( معاذ الله) ولكن بتلك الخصوصية التي اختصت بها
      لغة الوحي المنزل على قلب
      محمد وقلوب المحبين معه ومن بعده- ابحث عن
      قصة الشيخ الكردي( امسيت
      كرديا واصبحت عربيا)..
      وكذلك بوح مولانا جلال الدين البلخي-ما نحن ولا
      اشعارنا واسفارنا الا ” غبار
      من طريق الرسول).
      وعلى كل اتفق العجم والعرب والهند والروم واليونان وغيرهم على خلاصة
      القول: ( اعرف نفسك)..
      وهي المناط والمحك والغاية.
      ودمتم سالمين

  3. يقول كنان:

    الى حسان: الفرق بين الإنشاء الطلبي وغير الطلبي، أن الإنشاء الطلبي هو ما يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه. ومن هنا قيل إن‌‌ الإنشاء الطلبي هو ما ما يسبق وجود لفظه على وجود معناه. أما الإنشاء غير الطلبي فهو ما يقترن فيه الوجودان، بمعنى أن يتحقق وجود معناه في الوقت الذي يتحقق فيه وجود لفظه، أي في الوقت الذي يتم اللفظ به. فإذا قال شخص لآخر: «قلت كذا»، فقال الآخر: «ولكنه قول ملتبس»، فقال الشخص: «قصدت كذا»، فقال الآخر: «ولكن البون بين كذا الأولى وكذا الثانية كالبون بين السماء والأرض»!؟

  4. يقول تماضر:

    إلى حسان
    الاسم نينار اسم مؤنث معناه النور أو المنفذ له ولا يأتي مذكرا إلا استثناء لو يفقه أولو الأبصار
    تحية تقدير استثنائية للأخت نينار

    1. يقول حسان:

      تصحيح:
      لقد صار قلبي قابلا كل صورة
      فمرعى لغزلان ودير لرهبان
      شكرا للاستاذ الديهاجي
      وللمشاركين ، خاصة لاولي
      الالباب ما داموا لا يصنفون
      انفسهم كذلك( ذلك من باب
      المرح الودود)..

اشترك في قائمتنا البريدية