نبيل سليمان… عُمُرٌ أكلتْه الرّواية

حجم الخط
3

حينما استضفت الروائي والناقد السوري نبيل سليمان سنة 2009 في برنامجي «نلتقي مع بروين» كنت قد قرأت له ضمن ما قرأت مشروع عمره الروائي «مدارات الشرق»، التي احتلت المرتبة العشرين في لائحة أفضل مئة رواية عربية في القرن العشرين، والتي اختارها اتحاد الكتاب العرب، ولكنني كنت يومها معجبة خصوصا بروايته «درج الليل درج النهار»، وتساءلت وأنا أحاوره ما الذي لم يكتبه بعد نبيل سليمان، وهو الذي أصدر يومها أكثر من أربعين كتابا ما بين رواية ونقد، ولكن في أعماقي كنت أشعر بأن في جعبة هذا الحاوي الكثير من القدرة على الإدهاش، وهو الذي ورث عن والده الدركي أمرين يظهران بسهولة لكل من التقاه: حبه للحياة وقدرته الاستثنائية على الحكي، فاستحق لقب «مجنون المجاز» وهو عنوان الكتاب الذي تضمن دراسات عن رواياته وأعماله النقدية، كتبتها أسماء وازنة أدبيا من طراز عبد الرحمن منيف وواسيني الأعرج وممدوح عدوان وإدوار الخراط.
وأعود بعد خمسة عشر عاما وقد ناهز نبيل سليمان الثمانين، لأجده أضاف إلى أعماله الأربعين عشرين كتابا آخر لتصبح حصيلة هذا العمر من الكتابة 23 رواية و30 كتابا نقديا وستة كتب عامة مضافا إليها ثلاثة اعتداءات وذبحة قلبية وقِصر نظر وديسك في الظهر كما كان يردد مازحا.

رغم أن الروائي نبيل سليمان، الذي ضمّن رواياته ومقالاته الكثيرة، شذرات ليست قليلة من سيرته الذاتية إلا أنه لم يجمعها في كتاب، وكان يجيب من يطالبه بذلك قائلا: «لا أجد في حياتي ما يستحق أن يدوّن في كتاب سيريّ». ولكن المتتبع يجد عند هذا الراهب في صومعته الكتابية في قريته الجبلية البودي ما يستحق التدوين، رغم أن نشأته وبداياته لا تشي بما سيصبح عليه لاحقا، وهي نشأة تتشابه مع كثير من مبدعي سوريا، كأدونيس وغيره من أصيلي جبال الساحل السوري، فبعد رغبة في دراسة الهندسة حالت دونها الظروف المادية، وجد نفسه طالبا في قسم اللغة العربية في جامعة دمشق يوم كانت تحفل بأساتذة علماء، ثم تتبع المسار الطبيعي لخريجي الأدب العربي عموما وهو التعليم، حيث مارسه لفترة طويلة في دور المعلمين إلى أن تفرغ بعد أزيد من عشرين موسما دراسيا للكتابة سنة 1990، وكان قبلها بثماني سنوات قد أسس دار الحوار للنشر والتوزيع سنة 1982. وحين أنجز روايته الأولى «ينداح الطوفان» التي صدرت عام 1970بدأت مسيرته الكتابية، وبدأت معها مشاكله مع الرقابة بأنواعها المختلفة ليس أقلها الرقابة الاجتماعية والدينية، فقد تعرض يومها لأول اعتداء عليه «كم كف وكم شتيمة» كما وصف ذلك، لأن المعتدي ظن أن الروائي كان يعرّض به في نصه. وتتالت بعدها الاعتداءات ففي سنة 2001 مع وصول الأسد الابن إلى الحكم، كان نبيل سليمان أحد الموقعين على رسالة مفتوحة موجهة للرئيس الجديد للمطالبة بإقامة دولة القانون إضافة إلى التوقيع على رسالة ثانية تطالب بإجراء انتخابات ديمقراطية، فكان الجواب قمعيا، إضافة إلى اعتداء معنوي أكثر إيلاما حين أشيع أن أسباب الاعتداء شخصية تتعلق بالمال والنساء كالعادة، وبعدها بعشر سنوات شارك نبيل سليمان في مؤتمر المعارضة السورية في فندق سميراميس في دمشق، دفع ثمنه اعتداءً على منزله الريفي، حيث خلوته للكتابة، وسارع النظام ممثلا برئيس اتحاد الكتاب العرب يومها لتتفيه الحادثة وإعطائها صبغة فردية.

وهذه الاعتداءات المتكررة تجاورت مع منع رواياته بدءا بروايته الثانية «السجن» (1972) مرورا بروايتي «جرماتي» و»جداريات الشام – نمنوما» وصولا إلى «ليل العالم» (2016). دون أن نغفل ما جره عليه كتابه الشهير «الأدب والأيديولوجيا في سوريا 1967-1973» الصادر قبل نصف قرن من الآن وألفه مع صديقه بوعلي ياسين الذي قال عنه نبيل سليمان في لقائه المتلفز معي «بموته مات جزء مني»، فقد أثار هذا الكتاب النقدي المشترك كثيرا من الجدل يوم صدوره، وأغضب كل من جاء ذكره في الكتاب، وهي شجاعة أدبية لا يزال يتحلى بها نبيل سليمان تحسب له.
كانت الرواية كتابة ونقدا مشروع عمر نبيل سليمان الذي أخلص له، فهو لم يأت إلى هذا الجنس الأدبي ككثير من المبدعين عبر بوابة الشعر، أو القصة القصيرة، بل بدأ روائيا ولا يزال، مع اهتمام نظري تجلى في عشرين كتابا في النقد الروائي خاصة، معتمدا على نهم بالغ في القراءات الروائية لا يستثني جيلا دون جيل، أجاد الناقد المغربي سعيد يقطين توصيفه حين قال «لا أبالغ كثيراً إذا قلت: ليست هناك رواية عربية لم يطلع عليها نبيل سليمان»، فقد كتب مئات المراجعات النقدية للروايات وعدة دراسات ضمّتها كتبه، ولو رجعنا إلى آخر كتبه النقدية «قلق السرد» لوجدنا فيه 146 رواية تناولها بالنقد، وكذلك الأمر مع كتابه الآخر «المخاتلة السردية»، وبقلمه اللامجامل يشكو نبيل سليمان من الدّاءين اللذين أصابا الرواية العربية وهما السهولة والاستسهال، وبالمناسبة هما داءان أصابا حياتنا المعاصرة في جميع نواحيها، فعصر التكنولوجيا والسرعة، الذي نعيشه كاد يقضي على العمق والإتقان في كل شيء.

لا يخشى صاحب «مدارات الشرق» من التجريب، بل يسعى إليه وهو يرى أن الاطمئنان إلى أسلوب كتابي واحد تكلُّس، وقد تناولت عدة كتب ودراسات تحولاته الروائية، وكمثال على هذا التجريب المتواصل نذكر روايته الأخيرة «تحولات الإنسان الذهبي» وهي مسار معكوس، أو بلغة النقد الشعري معارضة لأول رواية مكتملة في تاريخ الإنسانية كتبت قبل تسعة عشر قرنا بعنوان «تحولات الجحش الذهبي» للكاتب الأمازيغي لوكيوس أبوليس، وهي عن شاب يدعى لوكيوس يتحول إلى حمار، ولكنه يبقى بعقل إنسان فيروي لنا معاناته وتقلبه بين مالكيه. في حين يعكس نبيل سليمان هذه الفكرة فهي عن إنسان يتقمص حمارا وإن بقي على شكله الإنساني، ولكنه ينبهنا كما جاء في الرواية على لسان بطلها كارم «يا سيدي إني حمار، لا تغتر بمظهري كواحد منكم. أنا يا سيدي رهين الحمار الذي كنتْ، والإنسان الذي صرتْ»، وبما أن هذا الإنسان/الحمار كاتب يكتب لنا رواية عن جنسه، ولكن يقدم لنا صورة مغايرة عن الحمير، فذلك الحيوان الذي يوصف بالغباء والبلادة والقبح أحيانا يقدمه لنا نبيل سليمان بصورة مختلفة محببة معتمدا على مئة وأربعة وثلاثين مرجعا أثبتها في روايته، موثقا «مركزية الحمار في الفلسفة والحكمة والتاريخ والأحدوثة والمعاجم وكتب الأسفار». فهذه الرواية، أو الميتا رواية كما وُصفت، يكسر فيها نبيل سليمان قوالب شتى منها الزمن المتشظي فيها والممتد من عصور سحيقة إلى عصر توفيق الحكيم وحماره، ويَفردها على مساحة جغرافية كبيرة ممتدة من أنطاكيا والكويت وصولا إلى المغرب. ومن جملة كسر القوالب في هذه الرواية تحليتها بهوامش توضيحية وكأنها بحث موثق وهي ليست تعليقات على المتن الروائي فقط، بل هي من صلبه، ففيها شروحات وتوضيحات وحكايات.

ثم يلفتنا تقسيم الرواية إلى فصول أربعة ضمت تحتها أربعمئة عنوان فرعي. وثلاثة من هذه الفصول فيه كلمة زلزال (على شفا زلزال أو زمن تولاي، على شفا الزلزال، زمن الزلزال) بما لها من مدلولات عند نبيل سليمان، الذي يطلق على ما حدث في سوريا بعد 2011 وصف الزلزال، وليس الحراك أو الثورة ويبرر ذلك بقوله «بالنسبة للزلزال، وجدت أن هذا الوصف يحتمل معنى التغيير، ومعنى التخريب، ومعنى الدمار». ونجد في هذا المتن الروائي «تحولات الإنسان الذهبي» أجناسا أدبية متعددة من رواية وقصة وأسطورة وأدب رحلة وأدب رسائل وقصائد وأغانٍ، وفيه أمران لا تخطئهما عين القارئ: الإسقاطات السياسية، خاصة في تناول الموضوع السوري من خمسينيات القرن الماضي إلى حراكه الأخير، مع جرعة تهكم عالية عودنا عليها نبيل سليمان في كتاباته، كما جاء على لسان بطله مثلا «من ألقابنا الحميرية: الزعيمُ الأوحد، المجاهد الأكبر، المُلهم، الأخُ القائد. ونحن يا أجمل الحمارات مولعون بأفعال التفضيل»، والأمر الثاني شذرات من السيرة الذاتية تطل برأسها من خلال الفعاليات الثقافية التي حضرها الكاتب والكتاب الذين التقاهم مثل عبد السلام العجيلي والطيب صالح وغيرهما.
لا أتفاجأ إن صدرت لنبيل سليمان رواية جديدة وهو في الثمانين من عمره أو دراسة نقدية في فضاء الرواية، فمجنون المجاز نذر عمره لهذا الجنس الأدبي وتماهى معه، فلعل التغيرات التي لطالما حلم بها وانتظرها التي حلت بسوريا مؤخرا تلهمه حكاية جديدة.

شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتور جمال البدري:

    تحياتنا للأستاذ نبيل سليمان…ونتمنى له الصحة وبركة العمر.لقد سبق وقرأت له روايته : { المبجلة } : مدارات الشرق…
    بأجزائها…وكيف بدأها منذ نهايات الدولة العثمانيّة مع الحرب العالميّة الأولى وصولًا إلى تاريخ نشرها مع نهايّة الحرب الباردة 1990ح وانعكاس ذلك على الصراع والتطوّر الاجتماعيّ المحليّ…حقًّا إنها لرواية ذات إضافة نوعية للمكتبة العربيّة الروائيّة.شكرًا بروين لأنك تناولتِ كاتبًا عربيًا يستحق الإشادة.

  2. يقول الدكتور جمال البدري:

    تحياتنا للأستاذ نبيل سليمان…ونتمنى له الصحة وبركة العمر.لقد سبق وقرأت له روايته : { المبجلة } : مدارات الشرق… بأجزائها…وكيف بدأها منذ نهايات الدولة العثمانيّة مع الحرب العالميّة الأولى وصولًا إلى تاريخ نشرها مع نهايّة الحرب الباردة 1990 وانعكاس ذلك على الصراع والتطوّر الاجتماعيّ المحليّ…حقًّا إنها لرواية ذات إضافة نوعية للمكتبة العربيّة الروائيّة.شكرًا بروين لأنك تناولتِ كاتبًا عربيًا يستحق الإشادة.

  3. يقول عبدالرحمن النهدي:

    عندما اقرأ ما تكتبه الاستاذه بروين فانا حقا اتلذذ بكل كلمة وجملة تكتبها وكانني اتعرف على جمال لغتي العربية لأول مره في حياتي، فهي تجعل من كل شخصية أدبية او فكرية او روائية تكتب عنها قصة جميلة بحد
    ذاتها منسوجة بخيوط من حرير حتى يخال لك انك تقرا رواية تاريخية او قصيدة جميلة بكل ألامها وحزانها وافراحها في نسق جميل ،، بروين او برفين انك فعلآ ثريا في سماء الكتابة الجميلة في الادب العربي ،، وأنا بكل احترام وتقدير اقول لك لو كان هناك مليون شخص في العالم يحب ما تكتبينه فانا واحد منهم واذا كان هناك شخص واحد فقط يحب ما تكتبينه فهو انا، واذا لم تجدي من لم يحب ما تكتبينه فعلى الدنيا السلام.

اشترك في قائمتنا البريدية