نتنياهو في ورطة

بعد ساعة واحدة فقط من قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مطلع الأسبوع الحالي، بإقالة وزير الأمن الإسرائيلي، جنرال الاحتياط يوآف جالانت، بدأت جموع المتظاهرين تؤم الشوارع والساحات في المدن اليهودية كافة في إسرائيل، وخرج مئات الألوف للتظاهر وأغلقوا الطرق الرئيسة وهتفوا بسقوط «ديكتاتورية نتنياهو» معبّرين عن غضبهم على ما يقوم به من «انقلاب» على الجهاز القضائي، ومن انقضاض على الدولة العميقة، وعلى كل ما ومن يمثّلها. تبع ذلك إعلان للنقابات والمشغّلين ورؤساء الجامعات ومديري البنوك وأصحاب المصانع والمجمعات التجارية والمصالح التجارية عن إضراب مفتوح، مطالبين بوقف سن قوانين «الانقلاب على النظام»، التي يعتبرونها خطرا محدقا على الدولة الصهيونية بالأخص في مجالات الأمن والاقتصاد وبنية النظام. ولم يستطع نتنياهو الصمود أمام موجة الغضب العاتية، وبعد مشاورات مع قيادة الائتلاف الحكومي، أعلن عن تأجيل التشريع في قوانين الانقلاب القضائي داعيا إلى إجراء مفاوضات مع المعارضة للتوصل الى تفاهمات بشأن هذه القوانين. وقد بدأت المفاوضات فعلا وحضرها ممثلون عن الائتلاف والمعارضة، وشككت قيادة حركة الاحتجاج بنوايا نتنياهو واعتبرتها محاولة «تنويم» ليعود بعدها الى سن القوانين نفسها في أول فرصة مواتية. ويبدو أن الإدارة الأمريكية غير واثقة بنتنياهو، وأعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أن نتنياهو ليس مدعوّا لزيارة واشنطن في هذه المرحلة ودعاه إلى العدول عن مخططاته والتوصل إلى حلول وسط مع بقية الفاعلين على الساحة السياسية الإسرائيلية.

نتنياهو شعر بثقل المسؤولية وقرر التوقف وإعادة الحساب والاستعداد بشكل أفضل للمرّة المقبلة. ما يحدث تراجع مؤقّت: خطوة الى الوراء استعدادا لخطوتين إلى الأمام

تراجع مؤقّت

ليست المظاهرات الغاضبة بحد ذاتها هي السبب المباشر لتراجع نتنياهو، فهي لو بقيت كما هي لما أدت الى تغيير في موقفه، الذي حدث هو أنّه بعد نشر خبر إقالة وزير الأمن يوآف جالانت، دعت قيادة نقابة العمال العامة في إسرائيل (الهستدروت) إلى لقاء واسع وغير مسبوق بمشاركة مديري البنوك والمستشفيات ورؤساء الجامعات وقادة لجان العمّال وأصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى، وقرروا معا إعلان الإضراب العام المفتوح، حتى تعلن الحكومة وقف إجراءات سن قوانين الانقلاب القضائي، وتبدأ مفاوضات مع المعارضة للتوصل الى تفاهمات. وكان من مؤشّرات عمق الغضب في الشارع الإسرائيلي، انضمام قيادات شعبية من حزب الليكود الى الإضراب، وكذلك لأن القائمين على الإضراب هم العمود الفقري لإدارة الحياة اليومية في مرافق المجتمع كافة، وليسوا معارضة سياسية عادية. ما حرّك هؤلاء وغيرهم من المحتجّين لم يكن فقط القضية المبدئية المتعلّقة بالفصل بين السلطات ومدى استقلالية القضاء الإسرائيلي، بل أساسا الخوف من فقدان الامتيازات والمكانة في المجتمع، فالغالبية الساحقة من المحتجين هي من الطبقة الوسطى الأشكنازية، التي ما زالت تهيمن على الدولة العميقة، وتخشى خسارة موقعها وتتوجّس من فقدان أسلوب حياتها العلماني، في ظل هيمنة قوى دينية محافظة ومعادية للقيم الليبرالية على الحياة العامة. اليمين الإسرائيلي الصاعد من جهته مصر على الإمساك بجميع مفاصل الحكم، وينوي فعلا استبعاد كل من يعارضه عن موقعه، واستبداله بآخرين. هو ينوي السيطرة على الدولة العميقة بالكامل، لكنّه لم يتوقّع هذا الزخم الشعبي في الاحتجاج، فقررت قيادته الانحناء قليلا، ريثما يهدأ الشارع، لتواصل لاحقا العمل صيفا لتمرير التشريعات اللازمة للسيطرة على الجهاز القضائي كخطوة أولى. الصراع الدائر في إسرائيل هو شرخ حقيقي وعميق، لكنّه يدور في إطار المعسكر الصهيوني ولا يخرج عنه. وهذا لا يمنع حدوث كسر داخل المعسكر. فلأول مرة نشهد غالبية ساحقة من ضباط فرق النخبة العسكرية في الاحتياط تعلن جهارا أنّها لن تخدم في الجيش إذا جرى تمرير ما تسميه حكومة نتنياهو «إصلاحات قضائية». ولأول مرة كذلك تجتمع النخب الاقتصادية والأكاديمية والثقافية والإدارية على موقف موحّد في رفض الانقلاب القضائي، محذرةً من انهيارات وشيكة وبعيدة المدى. نتنياهو شعر بثقل المسؤولية وقرر التوقف وإعادة الحساب والاستعداد بشكل أفضل للمرّة المقبلة. ما يحدث هو تراجع مؤقّت: خطوة الى الوراء استعدادا لخطوتين إلى الأمام.

ميليشيا بن غفير

على الرغم، وربما بسبب، معارضته الشديدة للوقف المؤقت لتشريعات الانقلاب على الجهاز القضائي، فإن بن غفير هو الرابح الأكبر من هذا الوقف، فقد حاول نتنياهو، طوال يوم الاثنين الماضي، إقناع قيادة حزبه وقيادات الأحزاب الائتلافية بدعم قراره بتأجيل التصويت على سن قانون «تعيين القضاة»، الذي يمنح الحكومة سيطرة كاملة على تحديد هوية القضاة الجدد في المحكمة العليا، والذي كان من المفروض الانتهاء من التصويت عليه هذا الأسبوع. واستطاع نتنياهو إقناعهم جميعا بتجميد التشريعات مؤقتا سوى بن غفير، الذي هدد بالاستقالة. هنا لجأ نتنياهو إلى إغرائه بالاستجابة إلى أحد مطالبه السابقة وهو تشكيل «حرس وطني» مستقل عن الشرطة يخضع مباشرة لوزارة الأمن القومي، التي يشغلها بن غفير، ويجري الحديث عمليا عن تشكيل ميليشيا تابعة له ويستطيع تجنيد أنصاره من اليمين المتطرف للانضمام إلى صفوفها.
بن غفير لم يفصح عن وظيفة «الحرس الوطني» الجديد، ولكنّه تحدث مطوّلا في الماضي عن مشروعه هذا، مشيرا إلى أنّه لو كان هناك حرس وطني لقام بقمع هبّة مايو 2021 في القدس وفي مدن الساحل الفلسطيني (يافا واللد والرملة وحيفا وعكّا) على «أكمل وجه»، ومضيفا بأن الشرطة غير جاهزة لمهام من هذا النوع. ومن الواضح أيضا أنّه يريد قوّة ضاربة الى جانبه يستغلّها للقمع السياسي حتى ضد احتجاجات المعارضة الإسرائيلية، وليس فقط ضد العرب. حتى يمنع خلخلة الائتلاف، وقّع نتنياهو على التزام خطّي بتشكيل حرس وطني مؤلّف من حوالي ألفي نفر وبرصد مئات الملايين من الدولارات لتمويله. لن يبقى هذا الاتفاق حبرا على ورق، ومن المفروض أن تقرّه الحكومة الإسرائيلية في جلستها الأسبوعية العادية يوم الأحد المقبل. إنّ تمسّك نتنياهو ببن غفير بهذا الشكل، هو مؤشّر إلى أن اتجاه نتنياهو هو الحفاظ على تحالفه مع اليمين المتطرف، وليس التوصّل إلى حلول وسط مع معارضة مركز- يمين.

تدخل أمريكي

تعرّض نتنياهو إلى ضغوط أمريكية شديدة للعدول عن إقالة يوآف جالانت، الذي يعتبره الأمريكيون شخصا «مسؤولا» ورصينا في حكومة يمين متطرف مهووس. وتعرض إلى ضغوط أمريكية مماثلة لوقف الهرولة في تشريع قوانين الانقلاب القضائي، ولدفعه للدخول في مسار تفاوضي مع المعارضة. وردّ نتنياهو في العلن بأن إسرائيل «ستبقى دولة ديمقراطية»، ولكنه قال في مقابلات صحافية إن الإدارة الأمريكية تسعى لإسقاط حكومته، وتقوم بتمويل الاحتجاجات ضدها، وأصدر السفير الأمريكي في إسرائيل، بيانا خاصا لتفنيد هذه الادعاءات، التي نشرها يئير نتنياهو الابن. ووفق ما تنشره «نيويورك تايمز»، فإن الإدارة الأمريكية غاضبة جدا على الإشاعات التي يبثها نتنياهو ومن حوله، الولايات المتحدة ما زالت تضغط على نتنياهو لعدم إقالة جالانت، خاصة أنه لم يسلمه رسالة إقالة رسمية، بل أبلغه شفويا بأنه ينوي إزاحته عن منصبه. وما يحدث هذه الأيام عملا هو أزمة دبلوماسية مع الإدارة الأمريكية، فبعد حديث السفير الأمريكي في إسرائيل عن إمكانية دعوة نتنياهو للبيت الأبيض، أعلن الرئيس بايدن نفسه بأنّه لن يدعو نتنياهو لزيارة واشنطن وبأنّه «قلق جدّا» من سلوك الحكومة الإسرائيلية، ودعا علنا إلى وقف التشريعات الجديدة. ويأتي التدخل الأمريكي أيضا استجابة لاستجداء من قيادات عسكرية إسرائيلية للضغط على نتنياهو لإبقاء جالانت في منصبه، فهي تخشى أن يأتيها نتنياهو بمن لن تستطيع التفاهم معه، وكذلك يتهم المتحدثون باسم حزب الليكود، رئيس المعارضة يئير لبيد بأنّه يستورد الضغط الأمريكي.

ورطة نتنياهو

لقد دخل نتنياهو إلى ورطة صعبة، فهو من جهة لا يستطيع التوصل إلى تفاهم مع المعارضة، لأن مثل هذا التفاهم سيؤدّي تلقائيا إلى إسقاط حكومته من قبل بن غفير وسموتريتش، ومن الصعب جدا عليه إقناع غانتس ولبيد بالانضمام إلى الحكومة بدلا عنهما. من جهة أخرى فإن عدم التوصل الى تفاهمات يعني العودة تشريع القوانين التي تثير غضب الشارع الإسرائيلي، وبالتالي العودة الى تأجيج المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات، وتتبع ذلك أيضا أزمات اقتصادية وأمنية صعبة وجدية، وتوتر شديد في العلاقة مع الإدارة الديمقراطية في واشنطن. إلى جانب ذلك فإن نتنياهو بحاجة الى إدخال تغييرات في الجهاز القضائي لمنع إدانته وسجنه تبعا لملفات الفساد التي يحاكم عليها. نتنياهو لا يستطيع الذهاب إلى الانتخابات أيضا، فشعبيته في الحضيض وكذلك شعبية حكومته، فوفق استطلاعات الرأي تخسر أحزاب الائتلاف الحاكم عشرة مقاعد وتفقد أغلبيتها البرلمانية. وقد يلجأ نتنياهو إلى حيلة جديدة للخروج من ورطته، ولكن ليس مؤكّدا انه يستطيع. صحيح هو ثعلب سياسي قديم، لكنّه، كما قيل، ثعلب وقع في فخ.
كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عامر عريم:

    المهم ماذا تعد القيادات الفلسطينية داخل اسراءيل لمواجهة الغطرسه الاسرائيلية. اذ ان الحكومة الاسرائيلية الاخيرة تمثل الخطر الاسرائيلي المتطرف والذي اذا نجح سيعمل على التضييق على الفلسطينين داخل اسراءيل وستزداد إجراءات اسراءيل القمعية ضد ألشعب الفلسطيني في الاراضي الفلسطينية المحتلة بما في ذلك القدس الشريف.

  2. يقول سيف كرار... السودان:

    اعتقد مهما تكون النتيجه بين الأطراف اليهوديه، فإن تعاملهم مع المسأله الفلسطينيه سوف يكون ثابت….

اشترك في قائمتنا البريدية