واشنطن – «القدس العربي»: توجه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى الولايات المتحدة الأمريكية، هذا الأسبوع، وسط احتدام المواجهات العسكرية مع حزب الله في لبنان وبلوغها درجة غير مسبوقة منذ حرب تموز عام 2006، وعلى الرغم من تصاعد الأصوات المنتقدة لذلك في الدوائر السياسية في تل أبيب التي رأت أنها رحلة غير ضرورية في ظروف استثنائية حرجة حيث يشن جيش “الدفاع” حربًا جوية شبه مفتوحة على لبنان تودي بحياة المئات يوميًا وتدمر ما تبقى من بنى تحتية في هذا البلد المتعثر، ويرتكب المزيد من المجازر المروعة في الجنوب وبعلبك والبقاع، مقابل استمرار حزب الله في إطلاق صواريخه التقليدية على الجليل وتخوم حيفا والتي وإن لم تحقق إصابات بالغة، تبقي مئات آلاف المستوطنين في حالة حرب يضطرون خلالها على النزوح أو المبيت في الملاجئ.
لم يكن نتنياهو في حاجة إلى نصائح معارضيه، ولم تكن الحرب التي يعرف أنه متفوق فيها عسكريًا وأمنيًا وتقنيًا نصب عينيه، فهو السياسي المحنك، الأمريكي النشأة والتربية والسلوك، والذي يعرف أن مربط الفرس، في المدى المنظور، في واشنطن، ويعرف أن واشنطن اليوم غارقة في همها الأكبر وهي الانتخابات التي ستجري بعد أقل من خمسة أسابيع، ويعرف أيضًا أن عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والذي شكل في عهده (2017-2021) علامة فارقة في تاريخ الاحتلال حيث أباح للصهيونية كل ما تحلم به من عربدة (الاعتراف بالقدس عاصمة لها، ونقل السفارة الأميركية إليها، والاعتراف بضم الجولان السوري المحتل، والتخلي عن مبدأ حل الدولتين)، لذلك جاءت زيارة نتنياهو بأهداف أميركية صرفة تسعى إلى تعزيز فرص ترامب بالفوز.
تحت الأنظار المشبعة بالإعجاب من زوجته الثانية سارة (المتهمة معه بالإثراء غير المشروع)، كان التصريح الأول لنتنياهو، وهو مبتسم، أنه أجاز وهو في الطائرة التي أقلته إلى نيويورك، الغارة التي استهدفت مسؤول القوة الجوية في حزب الله محمد حسين سرور في الضاحية الجنوبية لبيروت. ففي أمريكا ما بعد ترامب تلعب التعبئة الشعبوية ومظاهر القوة العارية دورًا وازنًا في المزاج العام، ونتنياهو الذي يعرف طبيعة الجمهور المؤيد لترامب، لأنه شديد الشبه بالجمهور المؤيد له في إسرائيل، يتقن لعبة الإعلام جيدًا ويستخدم الكاميرا لإيصال رسائله إلى من يهمهم الأمر، وهم في هذه الحالة الناخبون الذين لم يحسموا قرارهم بالتصويت حتى الآن، والذين يقدرون على ترجيح كفة ترامب في انتخابات متقاربة كثيرًا. هذا هو الانطباع الذي يريد نتنياهو تكريسه لدى فريق ترامب لكن الوجه الأخر للأمر أكثر تشعبًا وتعقيدًا.
يمارس نتنياهو ببراعة لعبة ابتزاز فاقعة للمستوى السياسي الأمريكي الذي تحتل فيه الصهيونية كعقيدة ومؤسسات وشخصيات مكانة بارزة تستند إلى قطاعات نافذة (خصوصًا عبر الكنائس والإعلام وجماعات الضغط الموالية لإسرائيل)، ففي الوقت الذي يجاهر بدعمه لترامب ويعمل جاهدًا لإقامة تحالف عضوي بين تياري اليمين في إسرائيل وأمريكا، يحصل من إدارة الرئيس جوزيف بايدن على كل ما يريد عسكريًا وسياسيًا، وكان لافتا أن واشنطن التي دأبت على انتقاده والتعبير عن عدم رضاها عن عرقلته لجهودها الدبلوماسية، استبقت وصوله إلى نيويورك بالإعلان عن حزمة مساعدات عاجلة لإسرائيل تبلغ قيمتها 8.7 مليارات دولار، بالتوازي مع منع مجلس الأمن الدولي، الذي عقد جلسة طارئة بدعوة من فرنسا لبحث التصعيد ضد لبنان، من إصدار قرار أو بيان يدعو إلى وقف إطلاق النار.
وتمنح انتخابات الرئاسة التي ستجري بعد خمسة أسابيع، هامشًا أكبر لألاعيب نتنياهو الذي يراهن على انقلاب محتمل في مواقف اليهود الأمريكيين والمستقلين (الذين تصوت غالبيتهم لصالح الحزب الديمقراطي) إذا غيّرت إدارة بايدن موقفها الداعم بشكل مطلق لإسرائيل التي تعتبر مسألة وجودية بالنسبة للكثير منهم، وقد تجلى ذلك في المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي الذي زكّى ترشيح كامالا هاريس التي تحاول استعادة ثقة الناخبين العرب الأمريكيين والليبراليين الذين عبرّوا عن امتعاضهم من سياسة بايدن إزاء الإبادة المستمرة في غزة وشكلوا حالة اعتراضية دفعته إلى العزوف عن ترشيح نفسه خشية تعرض حزبه لهزيمة قاسية. استغلت هاريس المؤتمر لتبدد أي شكوك في نواياها حول العلاقة مع إسرائيل فأفسحت المجال أمام شخصيات سياسية مؤيدة للإحتلال لتجديد الولاء “الديمقراطي” لإسرائيل، كما شاركت عائلات الأسرى في غزة بفعالية في المؤتمر. كان واضحًا في المؤتمر أن هاريس حاولت قدر المستطاع إرضاء تيارين كبيرين داخل حزبها، لكنها أعطت أنصار إسرائيل أضعاف ما قدمته لمعارضي الحرب، وذلك بسبب الفارق الواضح في الوزن الانتخابي لكل منهما.
ويحرص نتنياهو في عدوانه المتمادي على فلسطين ولبنان على تقديم نفسه كحامٍ فعّال للمصالح الأمنية الأمريكية من خلال اغتيال شخصيات تصنفها أمريكا في خانة “الإرهابيين” المطلوبين للعدالة أمثال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية والقائدين العسكريين في حزب الله فؤاد شكر وإبراهيم حيدر، وقبلهم بسنوات عماد مغنية. يتلقف الإعلام الأمريكي أخبار الاغتيالات هذه بشغف بالغ ويروّج لها كـ “إنجازات” إسرائيلية تثبت كفاءة وشجاعة إسرائيل، وتصوّر المحطات التلفزيونية والمنصات الإلكترونية اليمينية الهوى الجيش الإسرائيلي ومخابراته ككائنات خارقة تتمتع بقيادة سياسية جريئة وفعّالة تتخذ قرارات صعبة على عكس إدارة بايدن المتخاذلة والتي “تحابي” إيران وأذرعها وتحاول استرضاءها. من الواضح أن نتنياهو منذ وصوله إلى السلطة عام 1996، يسعى إلى تغيير طبيعة العلاقة الإستراتيجية بين إسرائيل وأمريكا، ونقلها إلى مستوى غير مسبوق في العلاقات بين الدول، فتبنى مبدأ هنري كيسينجر الذي لعب بعد “الانتصار الباهر” لإسرائيل على العرب مجتمعين في حرب حزيران/ يونيو 1967، دورًا بارزًا في فصل إسرائيل معنويًا وبنيويًا عن دول أوروبا الغربية التي كان لها الفضل الأكبر في إنشائها وتسليحها وتمويلها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحويلها إلى حليف استثنائي في سياق الحرب الباردة التي لعبت فيها الصهيونية الدور الإيديولوجي والدعائي الأكبر ضد الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، وما تبع ذلك من تحولات عميقة نحو اليمين الديني الذي ورث بجشع التجربة اليسارية لحزب العمال والحركات التعاونية ذات النكهة الأوروبية واستبدلها بتشكيلات دينية متزمتة تشبه إلى حد كبير النزعات اليمينية البيضاء في أميركا والتي عممت الفصل العنصري في الجنوب لعقود طويلة. لذلك راهن نتنياهو على اليمين الصاعد والمحافظين الجدد حتى صدمة وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض.
لم يحقق نتنياهو ولا اليمين الأمريكي ما أراداه، وكان انتخاب أوباما فاتحة تحوّل في التعاطي اليهودي الأمريكي مع إسرائيل خصوصًا في أوساط الشباب الذي تخلى تدريجيًا عن الرواية الصهيونية الكلاسيكية للمحرقة النازية ومعاداة السامية وتبنى رؤية جديدة ترى في الصهيونية نفسها الخطر الأكبر على اليهود الذين يعيشون بأمان في كل دول العالم إلا في إسرائيل التي تستعدي مئات ملايين العرب والمسلمين، وتستخف بمواقف شرائح وازنة في الدول التي تعتبر حليفة تقليدية لإسرائيل ومنها أمريكا وكندا وأستراليا وبريطانيا وفرنسا، وهذا ما ترجم نفسه في مبادرات ومؤسسات تدعو إلى وقف الاستيطان والسياسات العنصرية وتحقيق سلام عادل ينهي معاناة الشعب الفلسطيني، وكذلك إنهاء التباس “الولاء المزدوج” لليهود في الدول التي يعيشون فيها بسلام، وهذا التوجه في حال استمراره يعني نسف أسس العلاقة مع أكبر مصادر دعم إسرائيل، وهو ما بدأت ترجمته فعليًا في مواقف شرائح وازنة في الحزب الديمقراطي. لذلك يسعى نتنياهو إلى ما هو أبعد من نجاح ترامب كشخص، فهو يريد عودة اليمين الذي ألبسه ترامب ثوبًا فاشيًا دينيًا على أمل حصول تغيير عميق في المجتمع الأميركي كالذي حصل في المجتمع الإسرائيلي الذي جنح نحو اليمين الديني خلال العقود الأربعة الأخيرة، ويعتبر ذلك شريان حياة جديدا للمشروع الصهيوني.
بعد إفشاله بوقاحة مساعي التهدئة التي حظيت بإجماع دولي نادر، خاطب نتنياهو في نيويورك قاعة شبه فارغة بعد انسحاب وفود عشرات الدول لدى اعتلائه منصة الأمم المتحدة، لكنه لم يتأثر ولم يغير من كلمته التي لم تكن في الأساس موجهة إلى دول العالم بل إلى جمهور محدد في دولة واحدة هي أمريكا من أجل تزكية ترامب ودعمه.