نجيب محفوظ والأجيال

كتب الناقد حسين حمودة كلمة على صفحته على «فيسبوك» عن نجيب محفوظ يقول تحت عنوان «الانتقام من نجيب محفوظ» (في عدد محدود من الكتّاب (والكاتبات) ربنا يسامحهم، بياخدوا بالهم من إن قدراتهم الإبداعية ليها سقف قريّب جد. كل لمّا تيجي سيرة نجيب محفوظ، ينتقموا منّه بطريقتهم. فيستخدموا تعبيرات زي «نجيب محفوظ ككاتب كلاسيكي» بما معناه: إحنا كتّاب موش كلاسيكيين.. أو زي «مرحلة نجيب محفوظ» (على أساس إن أعمال نجيب محفوظ كانت مرحلة وراحت لحالها).
أنا ما بقتش أتضايق لكن عندي أمنية معاها سؤال: إزّاي أعمال كتير لمحفوظ (زي اللص والكلاب، والشحاذ، والحرافيش، وحديث الصباح والمساء، والعائش في الحقيقة، ورأيت فيما يرى النائم، وأصداء السيرة الذاتية…).. إزّاي ممكن تكون «كلاسيكية»..؟ أما عن حكاية «مرحلة نجيب محفوظ « فعندي أمنية تانية مامعاهاش سؤال إن الكتاب اللي سقفهم قريب جدا دول يعيشوا في سعادة وسرور مع مراحلهم.. وسماح لو كنت تجاوزت حدودي».
هكذا أنهاها بأدبه الجم الذي اعتدنا عليه، لكنها أثارت في نفسي رغبة في أن أكتب في المسألة. ليس بمناسبة ذكرى وفاة نجيب محفوظ فقط، لكنه رأيي في الأدب الذي أتصور أنه غائب كثيرا. بالنسبة لنجيب محفوظ فالحديث عنه طويل يحتاج إلى كتب، وعلاقتي به أيضا كتبت عنها كثيرا، وهي العلاقة التي بدأت عمليا بعد أن فزت بجائزته من الجامعة الأمريكية في القاهرة في أولى دورات الجائزة عام 1996 عن رواية «البلدة الأخرى». نجيب محفوظ فعل بالرواية العربية ما فعله كتّاب الرواية في العالم عبر التاريخ. الرواية في العالم بدأت تاريخية ثم صارت كلاسيكية ورومانتيكية وواقعية، ثم تتالت المدارس من الطبيعية إلى اللاشعور إلى الواقعية الاشتراكية إلى الواقعية الجديدة في أوروبا إلى الرواية العجائبية في أمريكا اللاتينية، وهكذا حتى صرنا نتحدث عن الحداثة وما بعد الحداثة، حدث ذلك خلال أكثر من ثلاثمئة سنة. وفعله نجيب محفوظ في حياته الأدبية، هو من مواليد الحادي عشر من ديسمبر/كانون الأول عام 1911 وتوفي في الثلاثين من أغسطس/آب عام 2006. بدأ بالرواية التاريخية فكتب «كفاح طيبة» و«رادوبيس» ثم الرواية الواقعية أو الكلاسيكية فكتب «زقاق المدق» و«خان الخليلي» ثم الثلاثية. ثم قفز إلى الرواية الحداثية بـ«أولاد حارتنا» وما بعدها من ورايات مثل «اللص والكلاب» و«ميرامار» و«السمان والخريف» ووصل غايته في رواية «الحرافيش». الناظر في أسلوبه يجد تطورا مع الأشكال التي يختارها لأعماله، فمن اللغة الواصفة الدقيقة، إلى اللغة القصيرة المنهمرة الشعرية في تدفقها، وليس في تشبيهاتها فقط، مع رواية «أولاد حارتنا» وبشكل أكبر مع «اللص والكلاب» وما بعدها، بل إنه حين كتب قصة قصيرة مثل «تحت المظلة» بعد هزيمة 1967 فتح الباب للمغامرة والتجديد، الذي قيل إن كتّاب الستينيات بدأوه وهو موجود من قبل عند أسماء مثل يوسف إدريس وقبله يوسف الشاروني، لكن دخول نجيب محفوظ إلى هذا التدفق اللغوي والمزج العجيب بين الواقع والخيال، فتح الباب بقوة للحرية في الكتابة والتجديد.

حقيقة أن بعض الكتّاب ينظرون إلى من قبلهم باعتبارهم كلاسيكيين، هي حقيقة مؤسفة لأنها تقوم على العمر، بينما الكاتب الحقيقي مهما تقدم به السن يجدد في شكل الكتابة.

هذا جهد رائع يحتاج إلى دراسات كبيرة جدا. كيف قام وحده بإبداع تاريخ للرواية فعله كتاب العالم أجمع! هذا بشكل عام عن نجيب محفوظ وقليلا ما أقرأ شيئا عنه. ربما جمل مبعثرة لكن بحثا يتناول أعمال الرجل كلها ليقرر ذلك، لم أقرأ عنه بعد. وهذا ينقلتي إلى النقطة الأخرى التي لا تخص نجيب محفوظ وحده.
حقيقة أن بعض الكتّاب ينظرون إلى من قبلهم باعتبارهم كلاسيكيين، هي حقيقة مؤسفة لأنها تقوم على العمر، بينما الكاتب الحقيقي مهما تقدم به السن يجدد في شكل الكتابة. هل مغامرة نجيب محفوظ وقد تجاوز السبعين في كتابة «الحرافيش» التي ينهي كل فصل منها بمقطوعة باللغة الفارسية شعرا وتصوفا، أمر يخص الشباب فقط. لم يفعلها الشباب. هل مغامرته في «ليالي ألف ليلة» أو «العائش في الحقيقة» أمر يخص الشباب فقط؟ الأمر لا يرتبط بسن في الكتابة أبدا، وما أكثر الكتّاب الذين كتبوا في سن متأخرة أعمالا ريادية مهمة جدا مثل أمبرتو إيكو. والأمثلة كثيرة جدا. لكن في بلادنا كما قسموا الأجيال كل عشر سنوات، وهو أحمق تقسيم رأيته للفنون، لأن الأجيال تأتي مع الأحداث الكبرى وليس كل عشر سنوات، وهنا أتذكر كلمة صديق العمر سعيد الكفراوي عن هذا التقسيم بأنه أشبه بكشوف البلهارسيا في المستشفيات. للأسف مسألة اعتبار كبار السن كلاسيكيين سائدة في مصر وفي عالمنا العربي. ويتم استخدام كلمة كلاسيكي في غير معناها، إذ يربطونها بالزمن، وهي ترتبط بحالة من التكامل الشكلي، دون مغامرة في اللغة، أو في البناء كأنها حالة تقسيم طبقي لا خروج عليها.
المسرح اليوناني كله أعتبر كلاسيكيا لأنه قام على الوحدات الثلاث ولم يتغير، وحدة المكان ووحدة الزمان ووحدة الحدث، مع تغير طفيف حدث مع يوريبيدس. وظل المسرح كذلك في أوروبا قرونا طويلة، حتى خرج عليه موليير إلى حد ما، ثم انطلق فيكتور هوغو مدشنا الرومانتيكية، التي لا تتحدد فيها المصائر مسبقا، ويمكن أن يكون فيها أكثر من حدث، وبعده انطلق التجديد في المسرح من كسر للحائط الرابع وغير ذلك مما نشهده الآن في العالم من مؤثرات صورية ـ من الصور ـ التي يمكن أن تضاف إلى المشاهد. فضلا عن الموسيقى طبعا وغير ذلك. المقارنة العادية جدا بين الثلاثية مثلا و«الحرافيش» توضح لك كم التطور المذهل الذي حدث في كتابة نجيب محفوظ، فما بالك لو قرأت ما بينهما. كثيرا أيضا ما يرى بعض الكتّاب الشباب في الأكبر سنا عائقا فيطلقون هذه الكلمة، بينما من يطلقها في الأغلب غير دارس لمعنى وتاريخ الأدب، وترى عمله كثيرا ما يكون ساذجا قائما على الحكي، دون إبداع في شكل الرواية ولغتها. لكن الصحافة تحتفي بهذا الكلام لتجعل منه موضوعا مثيرا، وهو مجرد اعتقاد خاطئ أن الكبار في السن يقفون أمام الصغار في السن. لماذا هو اعتقاد خاطئ، لأن البعض يظن أنه يمكن «النفي» في الأدب، إذا ردد هذا الكلام. وفي الفنون عامة لا يوجد نفي لكن يوجد نسخ. والنسخ هنا لا يعني إعادة الشيء كما هو، إنما يعني خروجا للجديد من قلب القديم، لكن بشكل آخر. كل مدرسة أدبية خرجت ثائرة على ما قبلها، لم تستطع أن تنفي بعض العناصر السابقة. فالرومانتيكية في المسرح أضافت الحرية للفرد، ولم تنفِ وجود زمان ومكان، حطمت الزمان ولجأت إلى مشاهد من الماضي ثم العودة فلا تكون هناك وحدة للزمان، لكن يظل الزمن عنصرا فنيا.
والرواية الواقعية التي احتفت بالواقع، وجعلت الكاتب يصف لك الشوارع والبنايات منفصلة عمن يمشي فيها، لم تمنع الرواية الرومانتيكية من وصف الشوارع أو المكان أيضا، لكن من خلال إحساس البطل. يظل المكان موجودا لكنه هنا غير منفصل عن إحساس البطل الرومانتيكي به. فالوقت لا ينتهي في انتظار الحبيب، والشارع ينتهي بسرعة في الذهاب إليه، الرواية الواقعية الجديدة احتفت بالأشياء أكثر من البشر باعتبار أنها الوجود الدائم المستعصي على الفناء مثل البشر، لكن كل هذا وغيره لم ينفي وجود البشر، أو المكان أو الزمان، فقط هو الاستخدام والفلسفة التي وراءه. هكذا خرجت كل المذاهب من بعضها بالنسخ لا بالنفي، وهذا سر المتعة حين تقرأ حتي اليوم وللأزمان المقبلة «دون كيخوته» أو أعمال ديكنز أو زولا أو غوركي أو من تشاء من المعاصرين منذ ماركيز ومن هم بعده.
في كل المذاهب فكرة الخلود من الصدق الفني، وفي كل مذهب جمال للسرد حتى لو لم يعجب الكاتب المعاصر، لكنه يعجب القارئ الذي لا دراية له بهذه التطورات، فهو يبحث عن المتعة وهي في كل المذاهب والأشكال.

٭ روائي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    استاذنا الكبير
    كم استفيد من قراءاتي لمقالاتك وأتثقف بها. لقد قرأت كل أعمال كاتبنا العظيم نجيب محفوظ قبل أن أبلغ سن الرشد وأعجبت بها وقرأت معظم الكتاب المصريين وانت منهم وأرى أن هناك ثراء كبير في الفكر والأدب. شكرا لك

  2. يقول مغاربي مقيم بألمانيا:

    ناهيك عن كتاب ثرثرة فوق النيل،
    فهو يجيب عن سؤال المرحلتين.
    نجيب محفوظ كان وسيبقى من أكبر أدباء العصر….

اشترك في قائمتنا البريدية