«نحر الغزال» مجموعة قصص اللبنانية بسمة الخطيب: دهشة التداخل المتراكب في مصانع القتل

المثنى الشيخ عطية
حجم الخط
0

تحتلّ الأعمال الفنية والأدبية مكانتَها في قلب القارئ كساكنةٍ أصليةٍ، حين تمسّ خلاياه الشغوفة بعصا السحر، كما لو كانت سهاماً ناريةً أطلقها إله الحبّ، واستقبَلَها القلبُ كما لوكان هو من أطلقها، وقد زادَ هيام القرّاء في الحقيقة بالفن والأدب مع أعمال الواقعية السحرية التي تمنّى كل فنان وكاتب امتلاك قدرة إطلاق سهامها، إذ أصبحت قريناً من قرائن الخلق في تجدّداته، والحبّ  في مختلف تجلياته بقلوب المشاهدين والقراء، وأصبح مبدعو أعمال الواقعية السحريّة مثل غابرييل غارسيا ماركيز، سَحَرةً أقرب إلى مفهوم الشامان الذي يثير الدهشة بما يُفَتِّق من أزهار غريبة داخل النفوس التي يخنقها اعتياد النظر إلى الأشياء بعيون الاعتياد لا عيون الدهشة.
وحيث أن كل شيء جديد، بما في ذلك الواقعية السحرية، يؤول بمصيره إلى أن يصبح مع مرور الزمن والاستخدام معتاداً، وربّما يثير السأم إن تكرّرَ بالمشابَهات، مع احتفاظ الأعمال الخالدة بأبدية جِدَّتها؛ تقوم الحياة المتجدّدة كما هي عادتُها، بخلق فناني وكُتّاب التجاوز، المتفاعلين مع تجديدها لنفسها؛ إذْ هكذا هي طبيعتها، وطبيعة جنينها التوّاق للخروج من رحم التجدّد، متدفّقاً بتياراتٍ فنية تجعل القديم ينبض بجديد ما يضاف إليه من إبداع.
هكذا جرى ويجري أمرُ التجدّد، مما قبل الكلاسيكية وإليها، إلى الرومانسية إلى الرمزية إلى التعبيرية والانطباعية والتكعيبية، بفاصل الدادائية التي ألغت نفسَها لتكون روح تجدّد المدارس، فالسوريالية المتداخلة بالعبث في الحداثة وما بعد الحداثة والواقعية السحريّة، متربّعةً فوق الواقع، إلى ما يتجلّى الآن من تيارات نهاية الواقع.
في تجدّد الدهشة بما يُدهش، تنحرُ كاتبة القصة القصيرة اللبنانية بسمة الخطيب، بجرأة التجاوز، عنق الاعتياد على السحر نفسه، بشعاع ليزر التداخل والتشابك والتراكب الكوني المتداخل خفية بحياة البشر، وتلتقطه عين الكاتبة التواقة لقلب المفاهيم أو إيقاف ما هو مقلوب على رجليه بالأحرى، أو تجلية تداخل عملية القلب، بمجموعةٍ قصصية أقلّ ما يقال فيها إنها مدهشة، تحت عنوان «نحر الغزال». إذ هي لا تكتفي بالدهشة المعتادة فنياً، وإنما تزيد ذلك بمحاولة ترقيتها إلى أن تكون حضناً لحماية البيئة، ولوناً أخضر لحماية كائناتها، وشرايينَ مجرَّحةً لمدّ نظر البشر إلى الإنسان الذي يعاني من صدمات مجتمعات القطيع والقهر، ويُلقى به ممسوساٌ على أرصفة التهميش، وبالأخص النساء اللواتي كالعادة من يعاني أكثر، حيث تفاجئنا المرأة «العمياء» المخذولة بـ:
«أمسيت أبحث مع الكلاب عن بقايا طعام صالحة للأكل، آخذها معي لغسْلها، وأهزم الجوع. /لم أعرف أني أزعج أحداً، ولكن الكلاب هاجمتني ذات مرّة، إذ رأتْني أرفع من مستودع ما، فخذ دجاج مشويّ حدّ الاحتراق./ حين وصلت إلى البيت، وخلفي قطيع الكلاب النابحة، اشتعلت الأضواء خلفي، وتبينتُ أصوات الجيران يتأفّفون من الكلاب وبلاد الكلاب التي كانوا يعيشون فيها./ مرّت سنة، ولم يأت زوجي لزيارة البلاد، كما يفعل معظم المسافرين في الصيف./ ذات ليلة حارة، وقعتُ في مرمى ضوء شاحنة، فأعمتني. أغمضت عيني، وعرفت أنّي هالكة. لكنها أخطأتني. أسرعتُ نحو البيت. حين صرت عند العتبة، أصغيتُ، سمعت همساً وصليلاً./ «ها هو»، قال صوت خشن/. انطلقتْ رصاصة. شعرت بها تتصدع في لحمي./ ارتميتُ أرضاً فوق سائل دافئ./ صاح رجل: «قتلته! قتلت الضبع»./ علت الهتافات. رحتُ ألهث خلف روحي، وأرجوها أن تبقى معي».
في «نحر الغزال»، المنسابة دماؤها ضمن بنية تتوالى فيها 21 قصةً قصيرة، بنهج اختلاف وتوسط الطول، تُنَوِّع الخطيب صور راويها العليم الواحد، في منظومة سردها، من راوية أو راوٍ معلوم، عن نفسه وعن الآخرين، إلى راوٍ أو راويةٍ عليمةٍ مجهولةٍ توحي بالكاتبة نفسها، عن الآخرين، ببساطة بدء السرد ومباشرته، في جمل قصيرة يتداخل فيها سرد فعل الماضي، بفعل الحاضر الذي يعمق حالة الشخصية ويخلق مشهديةً في حركتها. بانسياب لغوي بسيط وجميل لا يبتعد عن تصوير سلوكيات أبناء الحاضر، سواء بتقليد قبلة مارلين مونرو، أو محاولة تمثّل شفاه أنجلينا جولي، أو تمنّي وسامة جورج كلوني، كأمثلة، أو تمثل المسخ فرانكشتاين دون إيضاح ذلك.
وفي نحرها للمعتاد، تُميِّز الخطيب قصصَها أولاً: بأسلوب التداخل البسيط في المضمون، بين الحكاية وأحداث الحياة، وبالأخص المقرونة بالفساد في بيروت، كما في مثال قصة «العمياء»، التي يحدث فيها تداخل حالة مرض عين امرأة بما يعكس بؤس حالة المدينة تحت ضغوطات انخفاض قيمة العملة والغلاء، وسرقة الأشجار وتحويلها إلى حطب للتدفئة بسبب فقد الوقود، وحالة تدهور صيانة الطرقات، والتلوث من إحراق المزابل، والقلق من ولادتها لطفل آخر في هذه الظروف، مع خذلان زوجها وعائلته لها، وتحوّلها إلى متشردة تأكل من القمامة مع الكلاب، وقَفْل القصة بدهشة قتلها كضبعة.
وكما في مثال قصة «المصح» التي تصور حالة امرأة محرِّرة في المصح، مصابةٍ بعدم قدرة يدها على الكتابة، وشريكتها المصابة بالصمم نتيجة انفجار مرفأ بيروت، حيث لا أحد يتعافى في المصح المتداخل. وكما في مثال قصة «ورم» التي تمثل خذلان المرأة، وترك ورمٍ في جسدها عند رحيل كل رجل عنها، حتى الوصول إلى إزالة ثدييها.
وثانياً تُمَيِّز الخطيب قصصَها بأسلوب التداخل المتراكب فنياً، والمقرون بالدهشة من خلال قلب المتوقَّع، وتراكب التصوير، كما لو كان حلماً أو كابوساً أو فيلم كارتون، مع العمق في سبر أغوار ومصائر البشر، في جريان صراعاتهم واتهام بعضهم لبعضهم والتهام حيوات الكائنات التي تحيط بهم دون ضرورةٍ. ويتجلّى هذا واضحاً، كمثال، في قصة «أبناء النهر»، التي يسرد فيها الفتى العليم عن نفسه، وعن حياته في نهر الحياة الجاري بصراعات إنسانها مع جنسه، ومع الحيوانات التي يرتكب جرائم ذبحها من أجل الحصول على عطرها، كما يفعل في ذبح الغزال للحصول على عطر المسك.
وهذا مناخ تُكرّره الكاتبة في القصة التي تحمل عنوان المجموعة «نحر الغزال»، وتخطّ فيها مجرى عميقاً للدفاع عن الحيوان أمام فعل الإنسان في صيده والإخلال بتوازن البيئة الخاصة بجميع كائنات الطبيعة، ويتجلّى هذا القلب مميزاً في قصة «المسخ» التي تضيف فيها الخطيب إلى أسلوب التداخل نكهة العبث، والسخرية السوداء، في تصوير وحشٍ تحوّل إلى إنسان فأصبح مسخاً بالنسبة لإخوته الحيوانات، حيث:
«سرعان ما انتشر الخبر في البراري، كصاعقة لا مفرّ منها./ تجمّعت الوحوش لتشاهد ابن جلدتها الذي تحوّل إلى إنسان!/ إنسان!؟ بل مسخ. هكذا سمته الجراء والأشبال، التي لم تتعلم بعد عن الإنسان أو تعرف من هو./ لم تكتف الوحوش وصغارها بمناداته بالمسخ، بل عاملته كمسخٍ بشري شرير، وحاكمتْه على كل جريمة وجناية حدثت في الجوار./ كل فجر، بعد رحلة الصيد، حين يخلد ذاك البشري المستجدّ إلى النوم، يتمنّى أن يستيقظ من كابوسه، ويعودَ إلى حالته الأولى وحياته الهانئة./ لكن أمنيته لم تتحقق، بل إن مأساته تفاقمت حين راح قلبه، ساعة بعد أخرى، يُراكِم مشاعر الكراهية لإخوته، والحقدَ على قطيعه، حتى أنه أشعل فتيل القتال الضاري بين قطيعه وقطيع آخر، طالما تشاركا الكلأ والمستنقع بسلام».
وتُعَمِّق الخطيب تداخلها المتراكب، إلى التراكب في السرد وتداخل الساردين ببعضهم في قصة «الحافلة» التي تقود البشر إلى مصيرهم المحتوم في محطات نزولهم، مع تأكيدها على احترام البيئة في هذه القصة التي يأتي فيها السؤال مثيراً للدهشة بغير مكانه: «هل أخبرتَ الغيوم أنك تحبُّها؟» في متابعتها خط قرن البيئة بالمحبّة، الذي بدأتْه في قصة «هل أخبرتِ الأشجار»، التي يسأل فيها رجل حكيمٌ يحتضرُ ابنته السؤال المدهش بغير مكانه، إن كانت قد أخبرت الأشجار أنها أحبّتها، حيث: «عليكِ بذلك. حين تأتي مثلُ هذه اللحظة التي أنا فيها، ستندمين. أعرف كم أحببتِ الأشجار. قبل أن تكبري كفايةً لترحلي، كنت تبوحين لها بما يزعجك ويؤرقك ويؤلمك. وكنت منذ الصغر تجلسين فوق أغصانها وتغنين.»… «وتتأرجحين، ثم ضبطتك مرة تعانقين شجرةً! لا تخجلي. أرى الآن بشراً يعانقون الأشجار فيبرأون»… «اسمعي! يمكنني أن أخبرها، فأنا ذاهب إلى كل مكان، قريباً سيمكنني أن أكون في كل الأماكن معاً في وقت واحد، ولكنَّ هذا ليس عادلاً، عليك أن تخبريها، إنها حياتك أنت… لم تكن الحياة كريمة معنا لننعم بتلك الفرصة. سيريحني أن تعودي، وسيسعدني أن أكون هناك، يوم تخبرين الأشجار».
مع إيصال الخطيب تداخلها المتراكب، في هذه القصة خاصةً، إلى أبعاد حداثة الدهشة في تخطي عتبة ما فوق الواقع إلى عالم نهاية الواقع الذي تلغي فيه فيزياءُ الكمّ الزمنَ فاتحة تياراتٍ مدهشة في تفكير الإنسان حول وجوده، وفي تقديم العزاء له في الموت، بفكرة أنه ابن الكون الذي يعود إليه مطمَئِناً، على نفسه من جهة التحاقه بحضنه، وعلى الآخرين المطمئِنين عليه في مكان مصيره.
وختاما، يمكننا ببساطةٍ، عيش «نحر الغزال»، كمجموعة قصصية ممتعة مدهشة، تنحر المعتاد في وقوفها الفني والمعنوي ضد نحر البيئة وكائناتها من قبل الكائن الأعلى في سلسلتها الغذائية، والأرقى في تعامله مع بيئته حين يمتثل لمعاني الإنسانية في داخله.

بسمة الخطيب: «نحر الغزال»
منشورات المتوسط، ميلانو 2023
70 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية