نحن والتكنولوجيا وسؤال التحدي

حجم الخط
0

يُعد سؤال «مستقبل الذكاء الإنساني» من بين أكثر الأسئلة حضورا في مجال التفكير في علاقة الإنسان بالتكنولوجيا. يتعلق الأمر بحالة الخوف من نشاط الذكاء الاصطناعي، الذي قد يتجاوز قدرات الإنسان، لكونه أصبح ضرورة فاعلة في قطاعات كثيرة. نتج عن هذا السؤال شعور بالرعب والقلق، ما عمَق أطروحة الرافضين لمفهوم الذكاء الاصطناعي، والذهاب إلى عدم الاعتراف بقدرات هذا الذكاء في حل المشاكل المستعصية على الذكاء البشري، كما وجد البعض في القبول بهذا المفهوم انتصارا للتقنية، ما قد ينتج عنه تبعية الإنسان إلى التكنولوجيا. غير أن الملاحظة أن السؤال يُطرح بحدة مع تزايد الاهتمام العملي بالذكاء الاصطناعي، واعتماده في عمليات علمية وصحية واقتصادية مثل، الطب والتعليم والتجارة والاقتصاد، كما أن حالات الإحساس بالقلق والخوف والرعب من هيمنة الذكاء الاصطناعي، وتجاوزه للبشري تزداد، في الوقت الذي تجتاح فيه التكنولوجيا مختلف مجالات الحياة والاقتصاد والسياسة والعلم والمعرفة، كما تخترق الماضي، وتُعيد كتابة التاريخ بأشكال مختلفة، بل يتعمق الشعور بالخوف، في الوقت الذي أضحت فيه التكنولوجيا بمختلف وسائطها في متناول الإنسان، يستعملها ويفكر بواسطتها، ويتفاعل مع اقتراحاتها، ويستثمر تطبيقاتها، وتأخذ حياته مظاهر جديدة بفعل التواصل بالخدمات التكنولوجية.
إنها مُفارقة تدعو إلى التفكير في موضوع الرعب من منجزات التكنولوجيا، التي هي إبداع الذكاء البشري، أو بتعبير أكثر دقة، هي حصيلة نشاط الذكاء البشري. فهل يعود السؤال إلى غياب الوعي بجوهر المنجز التكنولوجي؟ أم يعود إلى ضعف أو غياب توظيف المنجز في الحياة؟ هل حالة الخوف من تكنولوجيا الذكاء يتسبب فيها، عدم استفادة أفراد المجتمعات من الخدمات الممكنة؟ أم أن حالة القلق والرعب تكشف عن طبيعة حضور العلم والمعرفة في التفكير؟
بالنظر إلى تاريخ العلوم والمعارف، فإن ظهور العلوم بدأت بفضول الإنسان في اكتشاف قدراته ومهاراته من خلال مغامراته، وتجاربه ونشاط فكره. أدى به هذا الفضول إلى اكتشاف الطبيعة، والوعي بنظامها، ثم التحكم في خيراتها، وتطوير العلاقة معها بهدف استثمارها والاستفادة منها، وتولدت عن الفضول تجارب أبهرت الإنسان نفسه، بل طورت ذكاءه، ونظمت حياته، ومكنته من أجوبة لأسئلة لم يكن قد طرحها بعد، بل أثرت في إدراكه الفلسفي للوجود. لهذا لا يخرج التفكير في التكنولوجيا عن منطق العلوم والمعارف وعلاقة الذكاء البشري بها. إنه يبدعها ويبتكرها ويصنعها ويُجربها، لكنها بالمقابل تُطور تفكيره وذكاءه الذي يظل يمارس نشاطا مستمرا بفعل تلك العلوم والمعارف إلى جانب التفكير فيها من قبل الفلسفة والمنطق والعلوم الإنسانية، وغير ذلك من أشكال التفكير. تدخل إذن التكنولوجيا ـ بدورها- في إطار مسار تطور الفضول لدى الإنسان ونشاط الذكاء البشري، الذي كلما غامر وأبدع اكتشف قدراته في تحسين حياته بالاختراع والابتكار وإبداع علوم ومعارف تكون مساعدة له في حل المشاكل المعقدة، وتُمكنه من استثمار وقته للتفكير في ذاته وفي السلام في العالم، وفي قيم الجمال والحب والحوار، وهي قضايا يغيب التفكير فيها عندما تنشغل الذات بمتطلبات الحياة، وعندما يستعمرها الفقر والأمية والجوع والبطالة والأمراض وغير ذلك من الظواهر الفتاكة التي تُحول الإنسان إلى موضوع أيديولوجي وتجاري، أو تجعله ورقة يانصيب في مزاد سياسي.
بناء على ذلك، فإن المُنجز التكنولوجي هو تحصيل حاصل لنشاط قدرات الإنسان في علاقة مع سياق سياسي، يُؤمن الشروط الموضوعية، التي تسمح للفرد بممارسة فضوله، وإبداع متخيله، وتفعيل قدراته ومهاراته، وإبداع ما يمكن أن يمنح للإنسانية جمعاء الكرامة في الحياة. بناء على ذلك، يُصبح القلق من الذكاء الاصطناعي حالة ثقافية وعلمية وتنموية، لم تسهم في تفعيل المنجز التكنولوجي في حياة الأفراد. بمعنى، ضعف أو غياب إمكانيات استقبال مثل هذا الذكاء باعتباره تطورا لمسار نشاط الذكاء البشري من جهة أولى، وغياب رؤية ثقافية تجعل العلم قلب التنمية من جهة ثانية، ولكون التنمية ما تزال مطلبا مجتمعيا، أو مجرد خطاب سياسي، بدون أن تتحول إلى مشاريع مؤثرة في حياة الأفراد من جهة ثالثة. إن الفهم مُرتبط بمناخ متداخل ومتفاعل بين عدة مجالات منها السياسي والاقتصادي والتعليمي والعلمي، أو ما يمكن اختصاره بالبيئة التنموية لأفراد المجتمع.

الذكاء الاصطناعي ليس بديلا عن الذكاء البشري، إنما داعم ومساعد وأنظمة ذكية خدماتية للإنسان، لكن، عندما يخرج عن جوهر وظيفته الإنسانية، فإنه يتحول إلى عدوٍ يهدد إنسانية الإنسان

وبالتالي، عندما نعود إلى أهم مجالات نشاط الذكاء الاصطناعي في البلدان الغربية والآسيوية سنلتقي بقطاعات الطب والتعليم والاقتصاد والتجارة والصناعة التي استثمرت خصائص هذا الذكاء، وربحت الجودة في الإنتاج، ومكنت الإنسان من الوصول إلى حلول لمشاكل استعصت عليه، كما جعلت مجتمعات تربح الوقت باعتماد الأنظمة الذكية التي تخدم الإنسان في المعلومة، وفي ترتيبها والتذكير بها وتحليلها. وهو وضع يمنح الفرد فرصة تطوير ذكائه. هناك علاقة تفاعلية بين الذكاء البشري ومنجزات هذا الذكاء. ولذا، فإن حالة الرعب من الذكاء الاصطناعي، تتماشى مع بيئة ما تزال التكنولوجيا فيها منتوجا استهلاكيا، والتنمية سؤالا تتقاذفه الأجندات السياسية في ما بينها، والتعليم يسير بدون رؤية. كما لا يُطرح سؤال الرعب من الذكاء الاصطناعي في المجتمعات التي تستثمر هذا الذكاء في خدمة مواطنيها، وفي إيجاد حلول للمشاكل المعقدة في قطاعات الصحة والتعليم والفلاحة والتجارة والصناعة وغير ذلك. إنما سؤالٌ يُطرح قلقا في المجتمعات التي لا تحضر فيها التكنولوجيا خادمة للإنسان، وفاعلة في حياته، وداعمة لجودة إنتاجه، وإمكانية وظيفية لتطوير التعليم والتربية، بل عكس ذلك، تحضر التكنولوجيا استهلاكا، يتحول معها المُستهلك إلى موضوعٍ لها. في مثل هذه الوضعية يجوز لنا الحديث عن استعباد التكنولوجيا للإنسان، الذي سقط في فخ الاستهلاك. إذن، سؤال القلق من الذكاء الاصطناعي، ينبغي أن يحمل سؤالا مغايرا، تتولد عنه أسئلة كثيرة، وهو سؤال العلاقة بالتكنولوجيا، الذي تتفرع عنه الأسئلة التالية: كيف نفهم التكنولوجيا؟ هل ننتجها وننتج بها؟ أم نقف عند إغراءات الاستهلاك؟ ما موقع التكنولوجيا في تدبير الشأن السياسي؟ هل يتم التفكير بها وفيها؟ وهل يتطور التعليم بمنطقها؟ إلى أي حد تعاملنا مع التكنولوجيا باعتبارها وسائط خدماتية؟ ما حظوظ التكنولوجيا في قطاع الصحة؟ هل اقترب البحث العلمي من التكنولوجيا؟ وكيف يمكن تفسير هجرة الأدمغة (الشباب) التكنولوجية إلى الغرب؟ ولماذا لا يزال طلب وثيقة إدارية يحتاج انتظارا طويلا أمام الإدارات؟
إن الذكاء الاصطناعي باعتباره أنظمة ذكية تُحاكي الذكاء البشري، وتسعى إلى تقديم خدمات اجتماعية وعلمية وإدارية وصحية، من أجل تحقيق الجودة، فإن وظيفته تتمثل في خدمة الإنسان، وتحسين شروط حياته وصحته وتعليمه وعمله. بمعنى، أن الذكاء الاصطناعي ليس بديلا عن الذكاء البشري، إنما داعم ومساعد وأنظمة ذكية خدماتية للإنسان، لكن، عندما يخرج عن جوهر وظيفته الإنسانية، فإنه يتحول ساعتها إلى عدوٍ يهدد إنسانية الإنسان (الإنسان الآلي)، وأمنه واستقراره البشري (الحرب التكنولوجية). ولعل مثل هذه المخاوف قد طرحت بحدة، وأسهمت أفلام الخيال العلمي في طرحها، بعد أن ذهبت بهذا المنجز التكنولوجي إلى أبعد الحدود، وعمقت من مساحة الخيال، وجعلت الذكاء الاصطناعي يتحكم في مصير الإنسان، بتسييره وتجازوه. ولعلها تصورات يتدخل فيها السياسي والأيديولوجي، الذي يُحول مُنجز الذكاء البشري إلى أداة لضرب السلام والأمان والمحبة، ويحول الإنسان إلى حالة قلق دائمة من احتمالات التكنولوجيا.
تستطيع المجتمعات تحدي حالة القلق من انفلات الذكاء الاصطناعي عن المنطق البشري، بالحرص على اشتغال الذكاء البشري وممارسة نشاطه، وعدم السقوط في مغارة الحالة، التي يتم تركيبها باعتبارها واقعا ممكنا بواسطة أفلام الخيال العلمي، ونظريات فكرية وأيديولوجيات. غير أن حالة القلق تختزل من جهة أخرى مظاهر هذا الصراع الدائم بين عقول تُبدع السلام وأخرى تصنع الحرب، وضمائر ترسم الابتسامة جمالا وأخرى تنشر القبح، بين من يعلن الحب انتصارا للإنسان ومن يجعل الكراهية قانونا للعلاقات الإنسانية، إنه صراعٌ تاريخي بين من يجعل العلم في خدمة الإنسان ومن يحول العلم إلى حربٍ على البشر.

٭ روائية وناقدة مغربية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية