نحو انفراج في أزمات الشرق الأوسط

عقدت الجمعية العمومية للأمم المتحدة دورتها الثامنة والستين في أجواء أقل ما يقال عنها انها غير متشنجة، وتوحي بنوع من الطمأنينة، خاصة بعد خطابي الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الإيراني حسن روحاني، اللذين شخصت إليهما كل أنظار العالم، سواء الصديق أم العدو. فبعد أكثر من ثلاثة وثلاثين عاما على قطع العلاقات الدبلوماسية بين واشنطن وطهران سنة 1980 على إثر اقتحام مجموعة من الطلبة الإيرانيين سفارة الولايات المتحدة الأمريكية واحتجازهم لاثنين وخمسين مواطنا أمريكيا لمدة 444 يوما، في ما بات يعرف بأزمة رهائن إيران، وما تلاها من عداء وحصار وعقوبات أمريكية في حق طهران، يبدو أن الجميع بدأ يتحسس المتغيرات الإقليمية والدولية الجديدة، التي باتت تشكل سمة بارزة في العلاقات الدولية الراهنة، والتي تحتم ضرورة انسجام وتكييف مجموعة من السياسات والتوجهات الدولية مع الواقع المستجد، مما ولد شعورا لدى الكثيرين بأن وقت التقارب الأمريكي – الإيراني قد حان أوانه، خاصة مع التغيرات السياسية في طهران التي حملت حسن روحاني إلى رئاسة إيران، وما يمثله من توجه معتدل في السياسة الإيرانية الحالية، وأنه لا يجوز تضييع هذه الفرصة التاريخية لتسوية الملف الإيراني النووي بطرق سلمية، وعدم تكرار أخطاء أمريكا مع حكومة محمد خاتمي الإصلاحية، التي دفعت الساسة الإيرانيين بعدها إلى مزيد من الإصرار والتحدي من أجل الحصول على حقوقهم النووية السلمية.
إن واقع التوازنات الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم لم تكن وليدة اللحظة، بل هي نتيجة صيرورة متواصلة من الأحداث والوقائع البنيوية على مستوى العلاقات الدولية، فمنذ قيام الولايات المتحدة الأمريكية بغزو كل من أفغانستان والعراق، وما استتبع ذلك من تدهور واضح في قوة أمريكا وانحسار دورها نتيجة لحجم الضربات الثقيلة التي منيت بها في هذين البلدين، وما نتج عنه من أزمة اقتصادية عالمية خانقة حدت من النمو والتمدد الاقتصادي لكثير من الدول الكبرى في العالم، مما أتاح الفرصة لصعود قوى إقليمية ودولية على مسرح العلاقات الدولية، لتصير شيئا فشيئا لاعبا أساسيا في تحديد معالم ومجرى الأحداث في كثير من مناطق العالم، كل هذا شكل مؤشرا قويا على تبلور توازنات إقليمية ودولية جديدة، تسير بالعالم بشكل حثيث وحتمي نحو نظام عالمي جديد، قوامه تعدد مراكز القوى وتعدد الفاعلين الدوليين وما يعنيه ذلك من استقلالية وانسلاخ القرار الدولي من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأساسيين. وفي هذا السياق يمكن القول بأن الغزل الأمريكي – الإيراني الذي شهدت فصوله قاعة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، خلال دورتها الثامنة والستين، هو أحد إرهاصات التحولات العميقة في موازين القوى في الشرق الأوسط، التي أضحت فيها إيران لاعبا إقليميا ثقيلا وغير ممكن تجاوزه، فهي إضافة لقوتها العسكرية المتنامية وإمكاناتها الاقتصادية الكبيرة والمتنوعة وبراعتها الدبلوماسية العريقة، فإنها تمتلك نفوذا وأوراقا كبيرة في منطقة الشرق الأوسط برمتها، ابتداء بالعراق ولبنان والسعودية والبحرين، مرورا بعلاقاتها الاقتصادية والثقافية واللغوية مع دول آسيا الوسطى، مثل تركمانستان وطاجكستان وكازاخستان، وليس انتهاء بعلاقتها الإستراتيجية مع روسيا والصين.
إن القراءة الجيدة والدقيقة للساسة الإيرانيين للمشهد السياسي وللتطورات الداخلية والخارجية في كل مفاصل تحولاتها، دفعتهم إلى تكييف التوجهات والمواقف الإيرانية وفق ما تقتضيه هذه التحولات، من دون التنازل عن جوهر وثوابت السياسة الإيرانية، وعلى رأسها دعمها لما تسميه حركات المقاومة وحقها المشروع في امتلاك تكنولوجيا نووية لأغراض سلمية، وهنا تكمن قوة وبراعة السياسة الإيرانية.
من جهة أخرى فإن الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أكثر من ثلاثة وثلاثين سنة من العداء وقطع العلاقات الدبلوماسية بينها وبين طهران، جربت فيها واشنطن كل ألوان الحصار والعقوبات والتهديدات، التي لم تفلح في ثني إيران عن الوصول إلى مطامحها، وبعد المتغيرات الإقليمية والدولية التي لا تصب في مصلحة القوة الأولى في العالم، بات من الضروري التفكير في التقارب مع إيران، خاصة أن واشنطن تعلم علم اليقين بأن حل مجموعة من الملفات الكبرى في الشرق الأوسط لا يمكن أن يتم بدون التفاهم مع الساسة الإيرانيين، وتتزايد حاجة أمريكا لمثل هذا التفاهم أكثر فأكثر، وهي على أعتاب الانسحاب من أفغانستان، التي سببت لها الكثير من التكاليف البشرية والمالية، والتي كان لها تداعيات إستراتيجية خطيرة على مكانتها ودورها على مستوى العلاقات الدولية الراهنة، وبالتالي فإن صعود رئيس جديد أفرزته الانتخابات الأخيرة في إيران وما يمثله من توجه معتدل واستعداد للتفاوض مع الغرب، بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية، شكل فرصة تاريخية لواشنطن من أجل السعي نحو التفاوض المباشر معها. ولقد شكلت اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والستين ساحة تبلورت فيها كل هذه التوجهات الجديدة، التي اتسمت بأجواء خطابية إيجابية ومعتدلة ومنفتحة لكل من الرئيس الأمريكي باراك أوباما والرئيس الإيراني حسن روحاني، حيث كانت ترجمة للرغبة الأمريكية للتقارب مع طهران، ومحاولة حل مشاكلها معها بطرق دبلوماسية، خاصة الملف النووي الإيراني، كما كان خطاب روحاني انعكاسا لسياسة المرونة التي تنوي الحكومة الإيرانية الجديدة انتهاجها، فأوباما جعل من الملف النووي لطهران أحد الدعائم الأساسية لأولويات السياسة الأمريكية، حيث أكد في خطابه على ما يلي: حق إيران المشروع في امتلاك تكنولوجيا نووية لأغراض سلمية .التأكيد على أن واشنطن لا تعمل على قلب النظام الحاكم في طهران. الاعتراف بـ’أخطاء الماضي’ حيال الجمهورية الإسلامية في إيران.
من جهة أخرى فإن أهم ما جاء في خطاب الرئيس الإيراني حسن روحاني هو:
إيران جزء من الأمن العالمي.
حق إيران في الحصول على التكنولوجيا النووية السلمية.
إيران قوة إقليمية كبرى.
التنديد بالإرهاب والتطرف.
وبأجواء خطابية كهذه لم تعد إيران وبرنامجها النووي هما المشكلة الكبرى، كما في السابق، وهي مستعدة لتبديد مخاوف الغرب وشكوكه حيال هذا الملف الشائك، كما أن مثل هذه الأجواء شجعت دولا غربية عديدة للتواصل وعقد لقاءات مع الوفد الإيراني، من بينها فرنسا وإيطاليا، كما أن بريطانيا صرحت بأنها لا تريد الحرب مع إيران. أما الاجتماعات مع روسيا فلم تتوقف لحظة، وفي هذا السياق تجدر الإشارة الى أنه حتى دولة البحرين اجتمعت بالساسة الإيرانيين ووصفت اللقاء بالجيد، وحدها ‘إسرائيل’ التي تشعر بأنها تركت وحيدة في مواجهة النووي الإيراني، الذي تعتبره تحديا وجوديا لها، كانت جد ممتعضة ومستاءة من خطاب حسن روحاني، حيث وصفه بنيامين نتنياهو بالخطاب السافر والمليء بالنفاق، كما انتقده رئيس البعثة ‘الإسرائيلية’ من على منصة الجمعية العمومية، إضافة لتعبير العديد من المحللين الإسرائيليين عن خيبة أملهم من خطاب باراك اوباما.
وإذا كان المصافحة التاريخية بين الرئيسيين باراك أوباما وحسن روحاني لم تنضج الظروف بعد لحصولها، حيث تم تعويضها بمكالمة هاتفية بينهما، فإن اللقاء الانفرادي والمهم بين جون كيري وجواد ظريف، على هامش أعمال الجمعية العمومية يعد خطوة كبرى نحو تكسير الجليد في العلاقات الإيرانية – الأمريكية مما يسمح بانفراج هذه العلاقات ومعها انفراج في الأزمات الحادة والساخنة للمنطقة، سواء تعلق الأمر بالملف النووي الإيراني أو الأزمة السورية، وأزمة البحرين ولبنان والعراق، أو مسألة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وغيرها من القضايا الشائكة والدامية في المنطقة، والملاحظة الأساسية في هذا الإطار هي أن كلا من الرئيسين الأمريكي والإيراني أكدا ضرورة الحل الدبلوماسي للأزمة السورية وألا حل عسكريا لها .
في المحصلة فإن أي تقارب أمريكي- إيراني من شأنه أن ينعكس إيجابا على مجموعة من الملفات الكبرى في الشرق الأوسط، كما أن مثل هذا التقارب لا بد أن يرتد على شكل زلزال على دول المنطقة، خاصة دول الخليج التي لا شك أنها ستكون الخاسر الأكبر في كل هذا، إضافة إلى ‘إسرائيل’، فالأكيد أن انعدام أي خيارات قومية مستقلة للدول العربية في المنطقة، وغياب أي تصور واقعي ومؤسس لمنظومة الأمن القومي لها ولمصالحها العليا سيقلص من نفوذها ودورها في قضايا الشرق، وسيجعل تسويات الملفات الكبرى للمنطقة على حسابها وفي غير صالحها .

‘ كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية