■ تحددت الهوّية السردية لدى بول ريكور في ما سماه الأنثروبولوجيا الفلسفية أبعادها الأساسية في الديمومة والتغيير، التي تقوم على الفعل بين ثبات الذات وتحولات السرد، وتجدد الموضوع السردي عبر نظريته المعروفة في السرد التاريخي والقصصي.
هذا الاجتزاء المبّسط من نظرية ريكور في الزمن والسرد، الغاية منه الكشف عن صيغة الفعل- الحدث- وما هو تصورنا السردي له داخل أنواعنا السردية، فما هو مفهوم الحدث اصطلاحا في الروايات والقصص، بل ما هو مفهومه اصطلاحا في الحياة والتاريخ تبعا لذلك؟ وكيف يكتمل الحدث المشروط في عناصره الأساسية الإنسان والزمن والمكان، بدون أن يحدث التركيب التطوري الفعّال بين تلك العناصر الثلاثة، وبدون أن يحدث التحوّل. الحدث يعني حصول تطور من حال إلى استقبال مختلف فبداية القصص والروايات غيرها في النهاية.. من المستحيل إدراك الحدث ما لم ينشأ ارتقاء. الحدث في الطبيعة يتكرر.. شكل البذرة لم يكن حدثا إلا عند اكتمال صورة الشجرة، واكتمال صورة الشجرة لم يكن حدثا حتى استعادة إنتاج الثمار.
شكل البذرة في تحوّله حدث طبيعي ولكن تدجينه حدث إنساني. الإنسان لوحده في البرّية حدث طبيعي، ولكن حين خلقه الله صار حدثا بشريا له تاريخ، يسجل في تثبيت مُلكه على الأرض ويتعقب عصوره التباشيرية والنحاسية والذهبية صعودا نحو إقرار مُلكية الحدث. إذن الحدث ليس مشاعا في القصة والرواية، ولم يكن كذلك في الحياة، بل له عائدية بامتياز إلى صاحب الفعل، لمن يقوم به شعوبا وأفرادا، والرواية حدث في مفهومه الحقيقي وتعد انعكاسا لعمقه في الواقع والتاريخ والمجتمعات. حتما لا تعد وقائع الزمن العشوائي حدثا مثلما ليس له أن يكون تاريخا، كما أن التاريخ لا يحدث مرتين.. كذلك الحدث، لكل حدث صورة ولا يمكن له أن يحدث إلا مرة واحدة وإذا حدث يتخذ صورة أخرى.
نحن بصدد قراءة وتحليل موقع التحول بين الظاهرتين وخلق الكائن الروائي. وإذا كان الحدث كذلك كيف نستطيع تحليله وإيجاد موقعنا الحدثي من العالم، هل نملك الحدث حقا لكي نروي؟ أم إننا نروي لكي نملك الحدث؟
صناعة الساعات تعد حدثا ولكن دوران عقاربها لا يعد كذلك، وربما يكون اختراع الكتابة حدثا غير أن صناعة الورق لم تعد بمستواه، أو هي استكمال تطوري له. إذن فكل حدث مشروط لاحقا بعملية تغيير أو تحوّل في عناصره الثلاثة، ولسنا هنا في معرض التفسير الجدلي التاريخي له بقدر ما هو ظاهرة تستطيع عبر زمن ارتقائي متنام خلق الكائن السياسي والمدني في أعقاب ظاهرة الكائن البدائي والرعوي، أي هنا نحن بصدد قراءة وتحليل موقع التحول بين الظاهرتين وخلق الكائن الروائي. وإذا كان الحدث كذلك كيف نستطيع تحليله وإيجاد موقعنا الحدثي من العالم، هل نملك الحدث حقا لكي نروي؟ أم إننا نروي لكي نملك الحدث؟ كيف نعطي تصورنا السردي «التاريخي والقصصي» في عالمنا المَعيش في ضوء التحليل للهوية السردية؟ لا شك في أن ثوراتنا المستحيلة وعلومنا القديمة وحروبنا المستقبلية وديمقراطيتنا المهجّنة، ستغدو مجرد امتلاء نواعير، تلقى على قنوات جافة لأننا لا نمتلك موقع التحوّل من قطائع الفعل إلى الاستمرارية مع المَعيش المعاصر، وبذلك يصبح الحدث حلما، طيفا، مشروعا شبحا. وكأن الحلم نصف حياة والمشروع نصف حدث.
إذن فالكتابة قبل الحدث هي طيف سردي في إطار هوّية سردية تروي بغية امتلاكه بامتياز. هوية تنشد حدثا مترابطاً لا يسفح زمنه أو ينفي فعله البشري. هذا ما لا ندركه حين نغدو مصنع الحدث الشرقي، ولكنه ليس ملكا لصاحبه.. إنه رو ّي الآخر.. هكذا تصبح كل عناءاتنا وشقاءاتنا مروّيات ليست من صنعنا. نغدو مصنع الحدث الاستشراقي ليكشف الآخر الغربي ما تخبئه رمالنا من أثر قديم لن نتبصره في خلايا ذاتنا، ولم نبحث عنه في شبكة هويتنا السردية. يمضي العالم بزمننا ويسّاقط عن تقدمه وقوفنا العرضي والخارجي.. ما أن ينتهي عقد عربي أو عراقي على وجه الخصوص، حتى انفرط حدثنا الجديد، وحل آخر بكامل الجاهزية للإزاحة، التاريخ عندنا ثنائية ليل ونهار، فرارة هوائية تعيد نفسها بجدية عالية كل مرة شروقا وغروبا لتظهر وتختفي الأشياء والأفكار، كما هي، أو ترتكس عن حدث الآخر الوافد والغازي والعلمي.
لم يكن السجان في مكانه ولا المستبد على عرش الطغيان والظالم بغيه إلا لكي يستعيض أحدهما بنقيضه يوما ما، ويمسي موقعا مماثلا آخر للسجين والمناضل والمظلوم.. لعبة استعاضة فلكية.. لقد اخترعنا النقطة التي هي أصل الخط الحروفي المتصل، ولكننا لم نكتشف اللحظة المترابطة مع خط الزمن وتشكل الحدث. هل نطارد شبح الحدث النصفي بيقظة النصف المكمل منه؟ أم نتحرى أطيافا قديمة مع الإنسان العائد من الحدث المدفون تحت رمال سومر وآشور؟ لدينا صيغة تكوينية للحدث تقابله حالة فعل على نحو معين، لذا ينشأ التصور السردي تبعا لذلك بلا مواربة، بين استعادة لهوية تاريخية مفقودة، ونشدان أن يستوي حدثنا الحقيقي على الواقع. لعلنا نروي لكي نمتلك الحدث.
٭ كاتب عراقي
انطلاقا من الأحداث التي وقع امتلاكها في أزمنة مختلفة تُكتب الرواية.