نزهةٌ في عالم الغرافيتي بصحبة بانكسي

بسمة شيخو
حجم الخط
0

الغرافيتي صورةٌ معاصرة عن الرّسم على جدران الكهوف الذي يعتبر الصيغة الأولى لظهور الفن والتي ترافقت مع العصر الحجري، هذا أول ما خطر ببالي وأنا أبدأ بكتابة هذه المادة، إذ أن الجوهر واحد وهو التعبير عن الأفكار من خلال ترجمتها لرسومٍ على الجدران، وقد تتسلل الأحرف أحياناً لكن الحضور الأهم هو للتكوين الذي تصنعه هذه الأحرف وفي المرتبة الثانية هو الفهم اللغوي، مع فارقٍ مهمٍ بينهما وهو أن الرسوم على جدران الكهوف يرسمها صاحب المكان، أما رسوم الغرافيتي فهي ترسم في أماكن عامة أو أملاك خاصة أحياناً دون الحصول على إذن، وهذا ما يجعلها أمراً مرفوضاً يعرّض منفذيها للمساءلة القانونية، فهي بنظر السلطة -متمثلةً بالشرطة- ليست أكثر من شغب، فوضى وعبث بأملاك الدولة أو أملاك مواطنيها، ما استدعى أن يرتبط تنفيذها بالسرّية التامّة، السرعة في الإنجاز، فتنمو فجأةً كالفطر، حتى يظن الناس أن عصاً سحرية مدّت على ذاك البناء المهجور وحوّلته لعمل فني خلال انشغالهم بأمورهم الروتينية اليومية، أو ليلاً خلال ساعات نومهم، فيستيقظون ويفركون أعينهم مراراً وتكراراً ليصدقوا أن ما يرونه ليس امتداداً لحلم.
ولمن لا يعرف معنى الغرافيتي Graffiti أو ما يُطلق عليه «فن الشّوارع» فمن الممكن أن نختصره بأنه الكتابة أو الرّسم على جدران الأماكن العامة أو الأبنية المهجورة، في بدايته كان متنفساً للتعبير عن الآراء السياسية، الاجتماعية والمواقف الإنسانية، من قبل الطبقة المنبوذة أو المجتمع الكادح، لا يمكن تحديد تاريخ واضح لظهوره، لكن يرجّح أنه بدأ في ستينات القرن الماضي في أمريكا (نيويورك) على وجه التحديد من قبل فرقة هيب هوب، تعبيراً عن رفضهم العنصرية ضد –سود- البشرة فكانت هذه الرّسوم بمثابة ثورة على الواقع؛ وقد ارتبط لفترةٍ طويلة بالأفارقة في أمريكا حيث كانوا يقولون «لا» بطرقهم على جدران مدنهم، في الأنفاق، الجسور، الأبنية المهجورة، فنجد على الجدران الكثير من رسوم الغرافيتي ذات البعد الإنساني تنادي بالحرية والمساواة.
فالغرافيتي وسيلة مقاومة فعّالة وطريقة إعلان في الحروب والثورات إذ يستطيع طرف رسم شعاراته وكتابة مبادئه، وقد يقوم الآخر بمحيها وكتابة آرائه عوضاً عنها.
في فلسطين كانت الرسالة السياسية للغرافيتي واضحة، رفض الاحتلال والظلم والتمييز العنصري، وقد نفذت هذه الرسوم على الجانب الفلسطيني من الجدار الذي رفعته إسرائيل ما بين غزة وفلسطين المحتلة، شارك به فنانون عرب وأجانب ليقولوا كفى بصوتٍ يسمعه كلّ من يشاهد أعمالهم.
لم يحافظ فن الغرافيتي على هذه الرصانة بالأهداف التي كان يرسم لأجلها، فصارت أعماله تناقش القضايا المعاصرة الأقل تعقيداً، كوسائل التواصل الاجتماعي، كرة القدم والنجوم والمشاهير، حيث ترسم صور لهم على الجدران باعتبارهم من أهم رموز البلاد كصورة فيروز في شارع الحمرا ببيروت التي تغطي جدار بناءٍ كامل، وفي الاسكندرية أيضاً غرافيتي لشخصيات شهيرة، كالشيخ محمد متولي الشعراوي، وأخرى فنيّة لأم كلثوم وإسماعيل ياسين وسيّد درويش، وأخرى لشخصيات تاريخية، كليوباترا، أبو الهول.
إن تنوَّع غايات الغرافيتي فرض تطوره التقنيّ كغيره من الفنون، فبعد أن كان ينفّذ باستخدام أقلام تخطيط عريضة سوداء، يكتب بها على الجدران، دخل الدّهان الأسود والفرشاة الذين منحا الفنان حريةً أكبر لتحديد المساحة وحجم الرسم والكتابة، ليصل لاستخدام البخاخات اللونية التي أعطت الرسوم رونقاً خاصاً، وما زال التطور في هذا المجال يسير ويحثّ الخطا، حتى صار هذا الفن ساحةً تبرز فيها المهارات الفنية والخبرة التقنية، لينتقل من كونه فناً ملتزماً بحتاً، يحمل رسالة واضحة، ليصبح فناً جمالياً تزينياً، ودليلنا على ذلك قرار بعض المدن أو المؤسسات ترويض هذا الفن البريّ وتمويل فنانيه، كمهرجان الغرافيتي الذي يقام في مركز محمود مختار في القاهرة في إطار دعم هذا الفن الذي ظهر بقوة في المدن المصرية بعد ثورة أكتوبر، إذن الغرافيتي صار يُعتبر من قبل البعض نشاطاً ثقافيا يصنع بيئةً بصرية جمالية جمعية.
واليوم نجد أن لوحات الغرافيتي تحتل مكانةً عالمية بين اللوحات وقد تباع بأسعار عالية، وتعرض في أهم المتاحف، وذلك عن طريق تنفيذ نسخ من هذه الأعمال من قبل فنان الغرافيتي نفسه لبيعها في مزاد أو عرضها في متحفٍ ما، وقد اشتهر عددٌ من فنانيها أيضاً على صعيدٍ واسع، رغم تجنبهم للشهرة والانتشار على الأقل هذا ما حدث مع بانكسي أهم فناني الغرافيتي والذي نجح بالتخفي لليوم فصورته مجهولة وما نعرفه من معلوماتٍ شخصية عنه بسيطة وغير مؤكد؛ هو فنان بريطاني من مواليد بريستول عام 1974 واسمه روبرت بانكسي-وهناك رواية أخرى تقول بأن بانكسي مجموعة من الفنانين يوقعون بهذا الاسم.
أعمال بانكسي ممثل لحقيقة هذا الفن، أول ظهور لرسومه كان عام 2003 على جدران بريستول ثم لندن وغيرها من دول بريطانيا وصولاً لعدد كبير من الدول الأوروبية، ربما كان حرصه الشديد على الاختفاء هو ما جعله مشهوراً ومتابعاً إلى هذا الحد. حصل بانكسي على جائزة أعظم فنان يعيش في بريطانيا والتي قدمتها قناة «ITV» البريطانية، وبالطبع لم يحضر ليستلم جائزته التي ربحها، فيخسر غموضه/هم، لكن سيكون ظلماً منا إن حصرنا شهرته بهذا الجانب، إذ أن فكره وعقيدته وطريقة تعاطيه مع الحدث تلعب الدّور الأكبر في احتلاله هذه المكانة.
من أشهر أعماله وأولها لوحته الموناليزا وهي تثبّت على كتفها قاذف قنابل وترتدي السماعات، وفي هذا العمل مساحات واسعة للتأويل، من الممكن أن نتخيل هذا الرسم باللون الأسود مصوراً الموناليزا قبل إلقائها قنبلة وكأنها تمثّل رفض الفن لما يحدث ونزوله من قصره العاجي وبدءه في القتال بأسلحة اليوم، وقد نفسر وجود الموناليزا بأنها ممثلة للفن الكلاسيكي الرصين، وحملها للقنبلة دليل رفض لما آل إليه حال الفن من تدني على صعد كثيرة، أو ربما ملّت وجودها في اللوفر وقرّرت خوض مغامرة ميدانيّة على شاكلة فيلم أكشن هوليوودي.
عمل «السجين الهارب» والذي نفذ على جدار سجن ريدينغ في بريطانيا، يؤكد المختصون أنه من رسم بانكسي دون أن يؤكد هو أو ينفي، ويصوّر هذا الرسم سجيناً بلباسه التقليدي المخطط يهرب من السجن عن طريق حبل مصنوع من أوراق الآلة الكاتبة، يُعتقد أن السجين الهارب هو أوسكار وايلد الذي سجن في هذا السجن لمدة، عامين بتهمة المثليّة.
ما يمرّ في الذهن أثناء تأمل هذا العمل هو أن الثقافة والأدب متمثلين بالكتابة هما المنجى من السجن ليس بمفهومه الضيق، بل سجن المعتقدات والأوهام التي قد يسجن الإنسان بها طوال حياته دون أن يدري.
شارك بانكسي مع غيره من الفنانين العالميين بالرسم على جدار الفصل العنصري، وعلى حطام بيوت غزة، فقد دخل فلسطين مرتين بطرق غير شرعية، وهذا بالطبع يتلاءم مع شخصيته المتمردة الرافضة للظلم، فما كان منه إلا أن عرّى الاحتلال الإسرائيلي بلوحاته التي سرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم، كغرافيتي الشاب الفلسطيني الذي يأخذ وضعية أطفال الحجارة الذين يقارعون الدبابة بحجر، لكنّه بدّل الحجر بباقة زهور، إشارةً منه إلى سلمية وسيلة المقاومة التي يتبناها هذا الشاب، وفي لوحةٍ أخرى نجد طفلاً يقف أمام جندي ببزته العسكريّة يجلس القرفصاء وكأنه يحضّر نفسه لتصيّد الهدف، ببراءة يدسّ الطفل إقحوانةً في فوهة البندقة، أمنية بأن تتحوّل الرصاصات لزهور، وتكثيفاً لرغبة الأطفال وحاجتهم للعيش بسلام، وهناك أيضاً لوحة تجسّد فتاةً صغيرة تبادلت الدّور مع جندي يقف بجانبها بلباسه الميداني الكامل، يدير ظهره للجدار، وتقوم هي ببراءتها بتفتيشه، ستقلب الآية يوماً، هذه نبوءة أو ربما مجرد أمنية بانكسية.
على جدارٍ في غزة رسم أمام كرة ضخمة من الأسلاك المعدنية الناتجة عن الدمار، قطةً بيضاء كبيرة بشريطة زهرية اللون، فسأله أحد أهالي غزة -كما قرأت- من فضلك، ماذا يعني هذا؟ فأجابه بانكسي أنه أراد نشر صور الدّمار على موقعه الإلكتروني الخاص، لكن على الإنترنت الناس لا تشاهد إلا صور القطط!
أما أكثر الأعمال الذي أثار ضجةً حول العالم، بعد أن تناقلته وسائل الإعلام، هو عمل الفتاة بصحبة البالون «with love» وقد نسخ اللوحة وبيعت في مزاد سوذبيز باسم «love is in the pin» في تشرين الأول/أكتوبر 2018 مقابل 1.356 مليون دولار، وبُعيد البيع قامت اللوحة بتمزيق أكثر من نصفها ذاتيّاً، بسبب جهاز كان بانكسي قد أخفاه، وهذا ما يبرر الاسم الجديد الذي سميت به اللوحة.
بعد ثلاث سنوات من هذه الحادثة بيعت اللوحة الممزقة بمزاد ثانيةً بما يعادل 25.5 مليون دولار وهذا ما جعلها اللوحة الأغلى ثمناً لبانكسي.
من خلال تأمل هذه العينة من أعمال الفنان نلاحظ سمات عامة لفكره، بالطبع هناك ركائز خاصة تميّز عادةً فناني الغرافيتي الحقيقيين الناطقين باسم المهمشين والكادحين والمظلومين، منها: رفض الظلم، العنصرية، الاستبداد، الرأسمالية، النفاق، بالإضافة للشجاعة البالغة التي يحتاجها تنفيذ أعمال الغرافيتي، وخاصةً في مناطق حساسة حيث ينفذ بانكسي أعماله؛ لكن ما يميّزه بشدة عن الباقين هو استخدامه للخيال والرمزية بذكاءٍ يوظّف في طريقة إيصال آرائه، طريقةٌ تحمل الكثير من السخرية العالية البعيدة عن الإسفاف، يقاوم من خلالها الاحتلال، العنصرية، تسليع الفن، الحياة المادية. وغيرها الكثير من المواضيع التي طرحها بانكسي وأسمع صوته -الذي ينطق بلسان الكثيرين من المهمشين والكادحين-، عبر رسم غرافيتي.
يركز في رسومه على أبرز نقطة بالمشكلة، قد يجمعها مع النقيض الذي يكون في الأغلب هو الحل، وهذا الجمع يكون صادماً، مضحكاً، محزناً في آنٍ واحد، يعري المشكلة بوضوح ويعرضها على الملأ.
صنع لنفسه بصمةً خاصة بشقين، الأول هو الشق التقني حيث نستطيع معرفة رسمه من بين مئات الرسوم الأخرى دون الحاجة للاستعانة بخبراء بأعماله، يعتمد تقنية الاستنسل في تنفيذ أعماله (والاستنسل هو عبارة عن تفريغ الرسم المراد تنفيذه على مادة من -البلاستيك أو المعدن أو الخشب- ثم وضع السطح المفرغ فوق السطح المراد الرسم عليه وتلوين الفراغات فيظهر الرسم بسرعة ودقة) أما الشق الثاني فيتعلق بطريقة تفكيرة التي ذكرناها والتي تستشف سريعاً عند مشاهدة رسومه الغرافيتيّة.
في النهاية يبقى الغرافيتي مثار جدل مهما كانت غاياته سامية، سيبقى هناك من يعتبره فوضى وعبثا وتشويها، لكن مهما تضاربت الآراء حوله، وتبدّلت غاياته وتنوّعت تقنياته، ومهما احتدم النقاش حوله، سيبقى هناك غرافيتي يحمل حاجات بسيطة، لا يعرف منفذه أنه يقوم بعملٍ فنيّ أم يمارس شغباً، لا يدخل في السجالات حول الغرافيتي مقبولاً كان أم مرفوضاً، لا يعنيه الأمر، وربما لا يعرف معنى كلمة (غرافيتي) فجلّ ما يريده هذا الشاب هو التّعبير عن عشقه لحبيبته على جدارٍ في طريقها اليومي، أو مقابل نافذة غرفتها، تلك طريقته بالصراخ بكلمة «أحبّك». ورغم تطوّر التكنولوجيا ووسائل الاتصال فقد بقيت كتابة رسائل الحب بهذه الطريقة حاضرة إلى اليوم وفي كل أنحاء العالم، وبقيت معادلة(….+….=حب إلى الأبد) أبسط وأعقد المعادلات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية