نساء ميثولوجيات في طور التكوين للتشكيلي المغربي نصر الدين بوشقيف

تذكرنا فكرة إقبال الفنان المغربي نصر الدين بوشقيف المقيم في فرنسا، بمساءلة جوهر المرأة، عبر لوحاته المعروضة حاليا في مدينة بلسيتريفيس، بتاريخ طويل من الأسئلة الشائكة، ومن إسقاطات أحكام القيمة، التي دأبت على إضاءة أو تعتيم هويتها، حيث تتداخل الأبعاد الميثولوجية والدينية، متقاطعة بأخرى ذات منحى أخلاقي وجمالي، فضلا عن الأحكام المتبناة من قبل الأعراف الثقافية المعتمدة عادة في تأطير وتفعيل علاقة المرأة بمحيطها. ومن المؤكد أن هذا التداخل والتقاطع، يؤثر بشكل كبير في إضفاء حالة من الغموض الملازم لهويتها، ما يجعلها بؤرة نموذجية لتنابذ وتناحر هذه الأحكام والتوصيفات.
إنها من هذا المنطلق «الشر كله»، و»الفتنة كلها»، حيث تتفرد كل جغرافية مجتمعية بمواقفها الخاصة منها، انسجاما مع مكونات تضاريسها الثقافية، التي قد تكون مطبوعة بمقومات الانفتاح، أو عكس ذلك محاصرة بعوائق الانغلاق وسلبياته، وبين هذه المنزلة ونقيضاتها، تمتد فجاج وأرخبيلات لا متناهية من الاختلافات الجذرية، المراوحة بين أريحية التبجيل ودموية القتل. وبالتالي، فإن احتفاء الفنان نصر الدين بذاتية المرأة واستسلامه لمتعة تشكيلها، هو في الآن ذاته احتفاء برؤيته الشخصية والجمالية لجوهرها، سواء كانت متخيلة، أو منتمية لمرجعية واقعية معلومة.
إنها بهذا المعنى، تمارس حضورا مزدوجا في الذاكرة البصرية، حيث تنصهر سماتها الروحية والجسدية بروح الفنان، الذي تستمد منه خصوصيتها الفنية والجمالية، وهو ما ينتقل بها من إطارها التشكيلي الصرف، إلى إطار آخر أكثر تركيبا، قوامه هوية ذات أنثوية أمست خلسة، وفي لحظة إبداعية طارئة واستثنائية، مسكونة بهوية ذات الفنان، هذا الذي أعاد خلقها بإيعاز من مخيلته الشخصية، أو بإيحاء من وجود قبلي مؤطر بمرجعيته الواقعية. وفي الحالتين معا سيتفرد الفنان ذاته برؤيته الشخصية والجمالية لعالم الأنثى، والفاعلة إبداعيا في إعادة تجسيدها أوتجريدها، طبعا على مستوى الألوان والخطوط والظلال. وبالتالي، فإن هذا التركيب الثنائي الأبعاد، لا يني يؤثر وبشكل مباشر، في انتزاع ذات المرأة من شرط وجودها الخاص بها، كي تصبح مندرجة ضمن موكب النساء المنتميات إلى سلالات الوجود الشكيلي، والمسكونة بأرواحها الرمزية التي هي خلاصة تخييل فني مطعم بمرجعياته الواقعية والثقافية.
ولنا أن نستحضر في هذا السياق، على سبيل المثال لا الحصر، لوحة «الموناليزا» لليوناردو دافنشي، ولوحة «دورا مار» للفنان بابلو بيكاسو، أيضا لوحة «القارئة» للفنان جان أونوريه فراغونار، إلى جانب لوحات الفنان الهولندي يوهان فيرمير، التي تضم محفلا من النساء المضاءات بشبق تلك الأشعة النورانية، المتساقطة من نافذة محفوفة هي أيضا بأسرارها العجيبة. ومن الواضح أن الأمر يتعلق هنا إما بموكب حاشد من سلالات نساء «أفروديات» و»عشتاريات» منحدرات من جنائن الفردوس، أو بموكب من النساء الطالعات من دهاليز الجحيم، اللواتي تذكرنا بهن اللوحات المرعبة للفنان البولندي جيسلاف بيكسينسكي، أو اللوحات ذات الذائقة الميدوسية للفنان الإيطالي كارافاجيو. والموكبان معا، يترجمان بشكل أو بآخر تناقضات وتجاذبات رؤية المحفل الذكوري، لهذا الكائن المعلق بين دلالات المابين. ونعني بها، دلالات الإكبار المفضية للتبجيل، وفي الوقت نفسه دلالات اللعنة المحيلة على الخطيئة الأولى.


لكن ما عساها تكون رؤية الشاعر والفنان المغربي نصر الدين بوشقيف لهذا الكائن الجميل والملتبس، الذي تتمحور حوله لوحات معرضه؟ تساؤل غير بريء، خاصة حينما يأخذ بعين الاعتبار خصوصية ذات قلقة، لفنان يراوح في ترحاله الفكري والجمالي، بين ذاكرة عربية موشومة بطلاسم أزمنتها الفقهية، وأخرى منفتحة على أزمنة الحداثة. وبالتالي، أي غواية تلك التي سوف تستدرج فرشاة الفنان لتشكيل هوية المرأة؟ هل هي غواية ذاكرة أزمنة الظلام؟ أم هي غواية ذاكرة أزمنة الأنوار؟ أم هما معا؟ غير أن تجربة الفنان نصر الدين، وانطلاقا من وعيه العميق بالحساسية المفرطة التي يتميز بها هذا الإشكال، سوف تأخذنا بعيدا عن انتظاراتنا المسبقة، لتقترح علينا جمالية مغايرة من جماليات توصيف المؤنث، التي يمكن اختزالها في تجربة البحث عن هوية مستعصية على التعيين، بالنظر لما يتخلل شبكة مرجعياتها من فطائع ومناكفات تاريخية.
يتعلق الأمر هنا ببحث الفنان – وطبعا ضمن موقعه الثقافي والجمالي الخاص به -عن تجل ممكن ومحتمل، لهوية هذه المرأة المحتجبة سلفا، خلف ركام هائل من الأحكام والتوصيفات التي تتبادل في ما بينها عنف الإقصاء. ولعل قسوة هذا الاحتجاب القسري الذي يطال هويتها، هو الذي استبد باهتمام هاجسه التشكيلي، فكرّس له بحثه الجمالي عساه ينتهي به ولو مؤقتا إلى التقاط ما أمكن من ملامح هذه الهوية الغائمة والمنفلتة العصية على التوصيف.
إن أحكام القيمة الجاهزة، والمتتالية عبر مختلف العصور الحضارية والأزمنة التاريخية، هي التي تتقمص بالقوة والفعل، جمالية الهندسة الفضائية التي استندت إليها اللوحات في استضافتها لطيف المرأة. هندسة فضاء مشوب بمسحة تغييمية، تحول دون تسرب ضوء الرؤية إلى عمق مرئيات، تبدو للعين المتأملة مقبلة على التخفي، ذلك أن الطيف الذي يظهر متوحدا أحيانا داخل غربة الفضاء، مصاحبا بظله أو بقرينه، مفردا كان أو متعددا، لا يتيح لنا إمكانية التملي في ملامحه، بفعل واقع التغييم المبيت للتفاصيل. ومن المؤكد أن ارتباك النظر سيحتد، حينما يحضر الطيف، وقد بدا محفوفا بأطياف أخرى متماهية معه، في ما يشبه محفلا ملتبس الهوية، وقد دثرته تلك الغلالة السديمية التي تحول بينه وبين الكشف عما احتجب من تقاسيم صورته.
إنه بهذا المعنى، بحث عن هوية الأنثى المنذورة لفضاءاتها الغائمة، والمحكومة بشعرية تشكيلية، تسودها حالة مريبة من الصمت، حيث لا أثر ثمة لقول أو لفعل ما، صادر عنها ودال على ملمح ما من ملامحها، وهي هكذا ماثلة أمامنا تتقمص شكل دمية، كما تتقمص شكل عارضة عاهات. ذلك أن احتجاب الملامح تحت الطمس المبيت لإيقاع اللون، هو في حد ذاته احتجاب شبه تام لوظائف الحواس، حيث لا عين تسمح لها بالرؤية ولا لسان يتيح لها فرصة البوح. كما أن ظهورها في أغلب اللوحات وهي منزوعة الذراعين والساقين، يشي حتما بغياب حقها في ممارسة أي فعل أنثوي محتمل.
هكذا تتدخل التجربة التشكيلية الطويلة، والمتعددة المسارات والمنعطفات، لدى نصر الدين بوشقيف، كي تستضيفنا في جماليات طقس تتوقف فيه حركية الزمن المؤنث الغارق في صمت مثقل بزرقته المتكتمة، التي تغطي دلالاتها الرمزية خلفية اللوحات. زرقة صمت، داكن متواطئ تماما مع أوضاع غير مألوفة، لنساء تستفز بغرائبية استعراضيتها حيرة التساؤل والرؤية.
إنهن هكذا، ماثلات أمامك، ينتظرن بالصمت ذاته فرصة استعادة أوصالهن المقطوعة. أيضا يأملن ربما في عودة ما أمكن من ملامحهن المطموسة، من حواسهن، وما أمكن من سقط رغباتهن التي طالها الإجهاض. نساء مستسلمات لفتنة طقس تحنيطي، وهن مرقطات ببقايا ألوان كبريتية وزعفرانية، مشوبة بحمرة الجرح، وبطيش بياض يحط هواه حيث يشاء هو، لا حيث تومئ سلطة الفرشاة.
هن هكذا، مقمطات في غلالات سديمية، ذات تلوينات منتقاة من تلوينات فضائهن، بما يعنيه هذا الفضاء من تجسيد رمزي للواقع اليومي، الذي أوحت لهن هجنة فحولته كي يتمظهرن، وفقا لمشيئة مدوناته التشكيلية والعرفية أيضا، حيث ليس لهن سوى أن يكتسين بما يفيض عن حاجته من تداعيات. فعن أي سلالة من سلالات النساء التشكيليات، تنقب فرشاة الفنان نصر الدين بوشقيف، وهي تدعونا للاندماج في هذا المحفل العجائبي، الذي تبحث فيه السيدة الأنثى هي أيضا، عن مزق هويتها المتناثرة والمتطايرة عبر الأزمنة والأمكنة؟ وأي خطاب ذاك الذي تحاول أن تبوح به زرقة الصمت المطبقة بدكنتها على حوافي اللوحات وثنياتها؟ ثم كيف حدث أن غادرت هذه الكائنات الملتبسة التي ربما هي الآن في طور التكوين، أو التلاشي، إطار اللوحات كي تتعقب خطواتك، وأنت تسير هكذا على غير هدى عبر براري الأزمنة، وعلى امتداد مفازات المكان، مرددا في عمق الدواخل سمفونية السؤال؟
شاعر وكاتب من المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية