نسمة صيف مُعْربة

لست من هواة السهر، لكني من عشاق الحديث اللطيف في أماسي الصيف الموشّحة بالنسمات الزكيّة. الجناس في اللغة العربية ظاهر بين السمر والسهر، لكنه لا يجد طريقه إلى التحقيق في الواقع إلاّ بواسطة انصراف النفس مع من تصطفيه إلى الكلام الذي ينسجم مع نفس أخرى مدركة وواعية جيدا بنفسها وبمخاطبها. لكن لماذا يكون سمر الصيف في الهواء الطلق خير من سمر بقية الفصول؟ هل للفصُول سحرها الذي يسري إلى الكلام؟ وهل يمكن أن نعدّ الطبيعة بفصولها وبجبالها وصحاريها وحقولها جزءا من العناصر المؤثرة في الكلام بناء وإدراكا؟
نحن لا نتكلم من فراغ هذا لا شك فيه، فنحن إمّا أن نتكلم وننتظر قول غيرنا على قولنا، وإمّا أن نردّ على غيرنا بقول فيه تفاعل مع قوله فهذا أمر معروف ومألوف ولا جديد فيه ومعروف أيضا أن السياق النفسي والاجتماعي والثقافي مؤثّر في الكلام متأثّر به، لكن هل يمكن أن نعتبر تغيّر الفصول عنصرا من عناصر السياق ومؤثرا من المؤثرات في الكلام؟
لنجرب معالجة الموضوع انطلاقا من محاورات السمر في الصيف، ونقارنها بسمرنا الشتويّ، لنرى أن الفصل والطقس من بعده مؤثران في محاوراتنا وموجّهان لها. وسوف أبدأ من محاورتي أنا في ليلة صيف قريبة في مقهى جبليّ أخّاذ أنتظر فيه أن يطلّ البدر من وراء الجبل العظيم الذي يقف أمامنا، ويحوي سكان القرية التي تتناثر مساكنهم هنا وهناك، وينتشر سكانها جماعات جماعات هنا وهناك، لا يأبهون لا بالجبل ولا بالقمر. أطلب من النادل الذي يأتي مبتسما وبلهجة عامية تونسية هي لهجة الشمال الغربي، أن يقدم لي عصيرا ويطلب من مرافقيّ شرابهما ثمّ ينصرف ونعود نحن إلى حديثنا. ثمّ يطلع القمر بتفاصيله من خلف الجبل، فيتحدث كل واحد منا عن بهائه بطريقته ثمّ ننشغل عنه لننتقل إلى كلام آخر لم نخطط له، ونحن نتحدث نعلق على عذوبة النسيم ورقته ووقعه على نفوسنا.
رحلة الكلام التي تبدأ مع قدومنا في وقت المغرب ثم تنتهي برحلتنا قافلين رجوعا إلى حيث نسكن هي رحلة كلام يوميّ عاديّ لفصل الصيف، فيها حضور قليل أو كثير. الصيف فرض علينا أن نخرج ونسهر، وهو ما اختار لنا هذا المجلس وهو الذي تدخل في بناء جزء من سمرنا الذي كان حديثا يتبادل في مكان وزمان يراعيان فعل الطبيعة فينا. يبدأ فعل المكان في الكلام كثيرا، يمكن أن يلحظ في حصر مطالب شرابنا، ممّا يتيحه نشاطه باعتباره مقهى ريفيا في هذه الرقعة من الجبل المدهشة. نحن لن نطلب منه مثلا مثلجات، رغم أنّه متاح في أماكن أخرى في هذا الفصل. والمشروب الذي يقدمه لنا النادل فيه ما يشرب في كامل الفصول كالقهوة على اختلاف أصنافها؛ وفيه ما يتناسب مع هذا الفصل بالذات: كل مشروب غازي أو غير غازي ينبغي أن يكون مبرّدا. وما دام الأمر كذلك فإنّ أوصاف المشروبات ستختلف مراعية الفصل: يقول النادل هل تريد قنينة الماء باردة جدا أم قليلة البرودة؟ ويتدخّل الفصل فيكيف كلام النادل فهو يقول لنا مثلا ناصحا أن نغير المجلس: النسيم من هذه الجهة أفضل. ولو قصدنا المقهى في الشتاء لما كان يوجد حديث عن ماء بارد وآخر قليل البرودة، ولا عن نسيم يأتي من هذه الجهة، أو من تلك، بل ما أمكننا الجلوس في هذا الفضاء المفتوح أصلا ليقول لنا النادل ما قاله لنا.

انتظار القمر أن يظهر وما دار من كلام حوله بيني وبين من يعرف أنّي أعشق مشهد القمر في هذا المكان، هو شيء مرتبط بالفصل الذي نحن فيه. ولو كان الفصل شتاء لما جلسنا المجلس ولا صبرنا على القمر ومراقبته، وحتى إن سمحت السحب للقمر بأن يظهر فكيف سيتكلم شخص مثلي وقد لسعه البرد عن جماليات البدر وهو يطل من خلف الجبل. المعذب ببرد الشتاء لا يرى الجمال في الطبيعة: هو لن يدرك إلاّ لفح البرد وإن فعل وذكر الجمال فلن يكون كلامه خاليا من الشكوى. أنظر إلى البدر وهو ينزع قليلا ثوب الجبل الذي كان يخفيه هكذا أرى المشهد ولا يمنعني شيء من أن أعبر عن هذه الفكرة الاستعارية الصيفية المتحررة. يتيح لي جلوسي في طقس معتدل أن أرى ما أراه على الشكل الاستعاري الذي وصفته به.. في فصل الصيف الذي ينزع فيه المرء من اللباس أكثر مما يلبس يكون المشهد الذي يشدك هو أن تنزع ويكون العري هو الأكثر تلاؤما فعلا ووصفا. في الشتاء وأنا أراقب المشهد نفسه سوف أرى القمر كيف يغيب وكأنّه يلبس من شدة خوفه على جسده العاري ثياب السحاب الداكنة. سأرى في الشتاء الخفاء أكثر من الظهور، ولذلك نكثر من وصف الغياب: غياب القمر. حين يشع نور القمر ويلتف الجبل بالظلام شيئا فشيئا لن أعلق على غياب الجبل أو تستره بالليل، أو لأقل أنّه ظلّ حاضرا رغم الغياب.

ونحن نتسامر تقرأ عليّ رفيقة الدرب من صفحة في وسائل التواصل الاجتماعيّ أن مغرّدة كتبت تقول: (وفي طريقي إلى الحبّ.. عرضني بابا روحت) (الجزء الثاني بالعامية التونسية ويعني اعترضني أبي فعدت إلى البيت): جزء من القول فصيح وجزء عاميّ كما ترى؛ جزء مُعْرَبٌ من الكلام صريح الإعراب (يغلب عليه الجرّ لكثرة حروف الجرّ فيه) وجزء يسيطر عليه السكون الذي هو غير حركة الإعراب. ما يضحك في مثل هذا البناء الذي صدره عربي فصيح وعجزه كلام عامّي سليقي هو المفارقة: بين جزء يصنع الشاعريّة هو الفصيح وجزء يصنع الواقعية الصادمة هو العامّي. في الطريق إلى الحُبّ عليك أن تكون شخصا مسافرا زادك التعطش إلى شيء خيالي تلتقيه في الطريق إلى الحبّ. وعليك أن تكون آملا أن تجد من تحبّ أو خائفا من ألاّ تجده.. عوّدتنا العربية التي نسميها فصحى أن تحملنا إلى آفاق الحلم الشاعريّ بأن تسير بنا على طريق الشعراء الباحثين عن الحبّ. أكثر أشعار العرب قديما أو حديثا قيل في طريق السير بحثا عن الحبّ في الغالب حبّ امرأة وأحيانا حبّ رمز امرأة؛ وعبارة في الطريق إلى الحبّ لا يمكن أن تقال من غير أن تحمل شحنة هذا التراث الكبير الذي سار فيه الشعراء بحثا عن الحبّ.. حين تخرج فتاة في الطريق ويعترضها أبوها ينبغي أن يكون الزمن الذي اعترضها فيه لا يسمح بالخروج إنّه الليل أو الهاجرة.. ليل الصيف نبحث فيه أكثر عن الحبّ لأنّه فصل يُحلم النفس بالحبّ.. في طريق كهذا وفي وقت كهذا يكون الأب حارس الأخلاق القديمة فيقطع الطريق أمام رحلة العشق الصيفية. (عرضني بابا) هذه نعرفها باللهجة التونسية في سياق وحيد: أن المعترَض هو شابة وليس شابا. أذكر أنّا لمّا كنّا نخرج خفية في جماعة، كانت بناتنا تقول الجملة نفسها: أخشى أن يعترضني أبي. تقولها بخوف، لكن أيضا بكلّ اعتزاز بأنّها محروسة بعيون لا تسمح لها بأن تترك لساقها حرّية السير في أيّ طريق تريد. البنت تعتز بأن ترى نفسها محروسة حتى إن حرمها ليل الصيف الحلال لقاء مسترقا من الزمان.
ألتفت وأنا من عل إلى شابّات يسرن مع الشباب من غير أن يكون هناك من يعترض على المشهد.. جاءت الفصول بالحرّية في المسلك وفي الكلام ولذلك بتّ ترى في الصيف وفي هذا المقهى الريفي المعلّق على الجبل شيئا كثيرا من الاختلاط الذي فيه حديث مشترك لا همس فيه ولا نجوى: حديث عن ذكريات المعهد والجامعة وحديث عن الكرة والخاسرين وحديث عن الفنانين والمطربين وحديث آخر أستمع إليه ولا أفهمه كان جميعه بلا إعراب، لكنّه كان تحت خانة البحث عن السمر وإرجاء موعد النوم إلى الفجر.

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية