نص صعيدي ونص خواجة:ذكريات من حياة الطليان في مصر

نشر في السنوات الأخيرة عدد من الكتب والترجمات التي تناولت تاريخ بعض الجاليات الأوروبية في مصر، وبالأخص على صعيد نشاطها الاجتماعي في مدينة مثل الإسكندرية، التي كان ينظر لها بوصفها مدينة كوزموبوليتانية. ولعل ما يسجل على هذه المنشورات، أنها معظمها انشغل بحياة هذه الجاليات في النصف الأول من القرن العشرين، قبل قدوم المرحلة الناصرية، واضطرار قسم كبير من أبنائها إلى مغادرة البلاد، لأسباب عديدة. مع ذلك فإن بعض الجاليات بقيت ناشطة بعيد هذه الفترة وحتى التسعينيات تقريبا، إلا أنه نادرا ما جرت تغطية هذه الفترة من حياتها. اللافت في هذا الجانب، أن كتب المذكرات والسير هي التي وفرت لنا في السنوات الأخيرة تفاصيل واسعة عن هذه الفترة، وهو ما نراه مؤخراً من خلال سيرة (نص صعيد ونص خواجة) للمهندس المصري ـ الايطالي ريكاردو فريد مانكوزو. إذ حاول كاتب هذه السيرة المنشورة عن دار الكرمة، تقديم تفاصيل صغيرة وهامشية، لكن مهمة وممتعة عن حياة الجالية الإيطالية في القاهرة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.


مؤلف السيرة ينتمي لعائلة مكونة من أب مصري (سوهاج) وأم ايطالية، عاش فترة طفولته وشبابه في مصر، ومن ثم غادرها نحو إيطاليا ليعمل مهندسا، لكنه في السنوات الأخيرة انضم إلى إحدى المجموعات الفيسبوكية، وأخذ يدون تفاصيل من ذكرياته عن القاهرة وبعض الطليان الذين عاشوا في المدينة، بالإضافة إلى تدوين وصفات طعام كانت تطبخها عائلات إيطالية في القاهرة خلال هذه الفترة، وهي في الغالب وصفات تعلمها من والدته التي كانت ماهرة في فنون الطبخ الإيطالي. وعلى الرغم من أن هذه السيرة لم تكتب من قبل باحث مختص في التاريخ الاجتماعي، أو تاريخ الطعام، أو له اهتمامات كتابية، مع ذلك فهي سيرة كما نعتقد تعتبر وثيقة إثنوغرافية مهمة لعدة أسباب، أولها أن كاتبها دوّن جزءا من ذكريات الطليان وذكريات المذاق والطعام في مدينة القاهرة، خاصة مذاق الجماعات الأوروبية التي عاشت في مصر لسنوات طويلة. ثانيا، الكتاب يعد جديدا على مستوى كتابة تاريخ الطعام في مصر. صحيح أن مصر عرفت في النصف الاول من القرن العشرين مجموعة من الكتابات عن الطعام وطرق إعداده، وهو موضوع تطرق له أكثر من باحث أنثروبولوجي مؤخراً (آنا غول)، لكن يمكن القول إن هذه الكتابات تراجعت لاحقا في ظل صعود عبد الناصر، وباتت مصرية، أو محلية، وأكثر من كتب الطعام الصادرة في النصف الأول من القرن العشرين، والتي غالبا ما احتوت على وصفات طعام افريقية أو أوروبية، بينما اختفت هذه الوصفات لاحقا. من هنا، فإن ما دونه المؤلف عن مذاق الإيطاليين في القاهرة، وباقي المدن المصرية مهم، كونه يرمم ويكمل القصة المكتوبة عن الطعام في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين. هناك أيضا نقطة مهمة، وهي، أن السيرة بالأساس عبارة عن مجموعة نصوص كتبها المؤلف على صفحة فيسبوك، وقررت دار النشر نشرها كما هي باللغة العامية المصرية، وهو ما قد يدفعنا للسؤال حول البيانات المتوفرة على شبكات التواصل الاجتماعي، وإلى أي مدى يمكن اعتبارها مواد يمكن الوثوق والأخذ بها لجمع تفاصيل من الحياة اليومية للشرق الأوسط عموما. يشير كاتب السيرة ريكاردو إلى أنه في مصر الثمانينيات من القرن العشرين، كان ما يزال هناك إيطاليون مولودون من ثالث ورابع جيل، وكان عددهم في مصر والإسكندرية كافيا ليشعر به. في هذه السنوات كان معظم الطليان في القاهرة يجتمعون في مكان اسمه «المركز الترفيهي الإيطالي»، عند مؤسسة الإسعاف في وسط البلد. وكان المركز يضم مطعما إيطالياً، وصالة بلياردو، وملعبا صغيرا لكرة القدم، ونادي فيديو بشرائط مسجلة من التلفزيون الإيطالي. وفي هذه الفترة كان المجتمع الطلياني مكونا من طليان مولودين في مصر، وطليان مولودين في إيطاليا ويعيشون في مصر. وعموما بقيت الأسر الإيطالية تمارس طقوسها واحتفالاتها حتى نهاية الثمانينيات تقريبا. كان الاحتفال عادة ما يترافق مع إعداد كميات كبيرة من الأطعمة الإيطالية، وهو ربما ما جعل رائحتها تعلق في ذاكرة ريكاردو. مع التسعينيات أخذت مصر تشهد تحولات اجتماعية وسياسية، كان أهمها بالنسبة للطليان استهدافهم من قبل بعض الجماعات الجهادية، ما دفع بأعداد منهم للانتقال إلى إيطاليا، كما أن العائلات الإيطالية المصرية باتت قليلة في ظل تراجع نسب المواليد، وإحجام الأجيال الجديدة عن تكوين عائلات كبيرة.

عائلات مصرية ـ إيطالية

ولو تجاوزنا كلام الطعام ووصفاته في السيرة، والذي يبدو شهيا ولا يمل من تناول تفاصيله، نلاحظ أن القسم الأكبر في السيرة خصصه ريكاردو للحديث عن سيرة بعض الطليان، أو المصريين ممن ولدوا في عائلات مصرية ـ إيطالية. أول هؤلاء الأشخاص هو رشدي أباظة، الذي ولد عام 1926 في المنصورة لوالد مصري من أصول شركسية وسيدة إيطالية تُدعى تيريزا بورجونجونو. طبعا عائلة أباظة معروفة في تاريخ مصر الحديث، ويعود أصل الأباظية إلى منطقة أبخازيا الشركسية على البحر الأسود. كانت عائلة الأباظية من أهم العائلات الأرستقراطية في مصر، ووالده كان ضابط شرطة. درس رشدي في مدرسة سانت مارك في الإسكندرية ومدرسة الفرير في القاهرة، وكان يجيد العربية والإيطالية والفرنسية والإسبانية والألمانية. كان والده رجلاً منضبطا كعادة رجال الشرطة، ولم يوافق على ميول رشدي الفنية، على عكس والدته التي ساعدته وشجعته. بدت بدايته غير موفقة، ولذلك سافر إلى إيطاليا ليمثل في بعض الأفلام الإيطالية، أشهرها فيلم «أمينة»، من إخراج جيوفريدو أليساندريني، وهو مخرج إيطالي من مواليد مصر، والإسكندرية بالتحديد. وكان جيوفريدو أليساندريني من رواد السينما الإيطالية، وأول من شارك في حركة «التلفون الأبيض» للسينما الإيطالية التي كانت تريد أن تعكس رؤية خيالية لمجتمع منضبط، معتدل وغني. هذه الرؤية المزورة من الواقع هي التي أنجبت وخلقت حركة معادية لهذا النوع من السينما، الحركة الواقعية الإيطالية الجديدة. من التفاصيل التي يذكرها ريكاردو عن رشدي أيضا، أن والدته السيدة تيريزا، كانت معروفة في منطقة شارع الألفي، وكان عندها مكتب وشقة في المنطقة نفسها، و»كانت بتشتغل في مليون حاجة. ست كانت بتعرف تلعب بالبيضة والحجر، وكل رجالة المنطقة كانوا بيعملولها ألف حساب». كانت مشهورة في المنطقة باسم ليلى أباظة، وكان عندها مطعم بيتزا في وسط البلد، بينما كان رشدي يعشق تناول المعكرونة الإيطالية، ويقوم بطهيها، ويحب الكوارع كثيرا، والملوخية والمحشي.
في عام 1907، سافر رجل إيطالي يدعى إيميليو موريلي من قرية بالقرب من نابولي، منشأ البيتزا، إلى القاهرة. وكان إيميليو من الأوائل في مصر ممن افتتحوا دار السينماتوغراف، ومن مؤسسي هذا العمل في القاهرة والإسكندرية. بدت حياته في مصر ناجحة، ولكنها كانت قصيرة. مات في سن مبكرة عام 1912 ودفن في الإسكندرية. بعدها انتقلت عائلته إلى القاهرة، وهناك أخذ أحد أبنائه ويدعى ماريو يتخصص في إعداد الرسوم التوضيحية في الكتب المنشورة في مصر. وفي عام 1938 ماتت زوجته، وبعدها عاد لإيطاليا في عز الحكم الفاشي الاضطهادي. وفي عام 1947 قرر العودة لمصر، لأخته ووالدته. كانت إيطاليا حينها تعيش أهوال مجزرة الحرب والفاشية، على عكس مصر التي كانت مستقرة.
في عام 1949 دخل دار المعارف، وتخصص في الرسوم التوضيحية لكتب الأطفال. وعمل مع صديق آخر له على تأسيس مجلة «السندباد». ساعد صديقه حسين بيكار في المحتوى الفني، وموريلي ابتكر شخصية زوزو أبو شعرة وحيدة، الطفل الشقي الذي كان ينشر ضمن المجلة. وقد بقي يرسم للمجلة حتى الستينيات، وبعد قدوم العسكر منع من الإمضاء على الرسوم باسمه كونه أجنبيا، ولذلك قرر العودة لوطنه الأم واستقر في فلورنسا. هناك حاول العمل في مجال الإعلانات، لكنه لم ينجح، وفي عام 1963 أصيب بشلل نصفي ومات في عام 1969، ويضيف ريكاردو «حتى آخر يوم في حياته، كانت ملامح وجهه تدل على حزن عميق، كباقي أولاد مصر المغتربين، الذين لم يجدوا خارج مصر دفء الحياة التي تعودوا عليها».

شبرا الإيطالية

كانت شبرا إحدى المناطق ‏الممتلئة بعائلات الجالية الإيطالية في مصر. وضمن هذه العائلات ولدت طفلة صغيرة تدعى يولاندا. كان والدها بيترو يعملاً عازفاً في الأوبرا الخديوية في القاهرة. عاشت الطفلة في هذا الحي، وبدت في صغرها غير جميلة بسبب استخدامها للنظارات، وفي أحد الأيام داخل إحدى مدارس القاهرة باللغة الإيطالية، تعرضت للضرب المبرح من قبل زميلاتها، وأصيبت إصابة بالغة في إحدى عينيها، ما شكل لها أزمة نفسية بقيت تعاني منها طوال حياتها.
في الحرب العالمية الثانية اعتقل والدها بيترو مع معظم الرجال الطليان. بسبب دخول إيطاليا الحرب العالمية الثانية. كانت مصر وقتها قد اعتقلت الإيطاليين وجمدت كل ممتلكاتهم لسببين: الأول دخول الحزب الفاشي الإيطالي مع دول المحور لاحتلال مصر، وأيضا بسبب الضغوط البريطانية عليها، من خلال دعوتها لضرورة اعتقال الطليان. لكن الطفلة «احلوت لما كبرت»، وفي 1954 أصبحت ملكة جمال مصر، وفي 1955 مثلت مصر في مسابقة ملكة جمال العالم، وأصبحت تعرف باسم داليدا. بعدها دخلت مجال السينما ليكون أول أفلامها في مصر لتنطلق بعدها إلى الشهرة العالمية. يظهر فيديو على اليوتيوب قيام داليدا بزيارة حي شبرا، إلا أنها خلال الزيارة لم تتمالك نفسها وأخذت تبكي. يومها فسر البعض هذا البكاء من باب أنه يعبر عن حنين للماضي الإيطالي الجميل في المدينة، وهو حنين وشعور ظل الرجال الكبار الطليان يظهرونه، كلما ذكرت أمامهم مصر، لكن ريكاردو يعتقد أيضا أن بكاء داليدا يعكس أيضا نوعا من الحزن على واقع مدينة مثل القاهرة، وكيف تحولت هذه المدينة خلال عدة عقود من أم الدنيا إلى مدينة غارقة في همومها وفقرها وغربتها.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية