“نظرية الفوضى ـ علم اللامتوقع” لجايمس غليك: «في الرَّمْلَةِ تُخْتَزَنُ الصَّحْراءْ»

حجم الخط
1

يحكى أن فيرنر هايزنبيرغ (1901-1976) عالم الفيزياء الشهير وصاحب مبدأ اللايقين في الفيزياء، أسر لمن حوله وهو على سرير الموت، أن لديه سؤالين ربما يجد إجابة عنهما بعد مفارقة الحياة، وإن كان هناك أمل في أن يجد إجابة عن (النسبية) فليس لديه أمل في أن يجد إجابة عن الثاني، لماذا على الطبيعة أن تتضمن الاضطراب أصلا؟ وسواء كان السياق الذي طُرح فيه هذا التساؤل جديا أم فكاهيا، فإنه يسعى خلف الجانب غير المنظم من الطبيعة وهو جانب متجذر فيها، وممتد في البحث عنه، مثل تقلبات المناخ، وحركة أمواج البحر، وانتشار الأوبئة واختفائها بصورة مستمرة، بل مسار الحياة نفسها، وإن كان السؤال لا ينتهى بموت من طرحه، فإن الإجابة ممتدة ومتشوفة للكمال إلى مالانهاية، وتتلاقي مع السؤال في عقول شخصيات مليئة بالهواجس، ويحدوها اللايقين حتى عن الشيء الذي يبحثون عنه، وتتجلى تلك الصفات في رحلة تكشف نظرية الفوضى أو علم اللامتوقع.
فالمتتبع لخريطة كتاب «نظرية الفوضى ـ علم اللامتوقع» ترجمة أحمد مغربي، يجد محورين يشكلان الكتاب، الأول سيرة مختصرة لهولاء العلماء وصفاتهم المتفردة مثل أدوارد لورانس، وميتشل فايينبوم، وماندلبروت، وغيرهم ممن كانت إسهاماتهم مفصلية في تشكل هذا العلم، والثاني سيرة السؤال الذي كانوا يبحثون عنه ورحلة الإجابة على مدار سنوات. فأتت نظرية الفوضى في ميلاد مترابط على مساحة جغرافية ممتدة، وخلفيات علمية مختلفة، يجمعها طرح الأسئلة عن تلك الظواهر في نطاقات متعددة، وجاءت الإجابة شيئا فشيئا كأحجية البازل، وتكاملت في نموذج كامل يصف تلك الظاهرة في رحلة شاقة ومشوقة من الأسئلة والبحث والإجابات، التي جمعها رابط خفي، فأثمر لاحقا نظرية الفوضى أو علم اللامتوقع، التي يتصل تكونها بفكرة الثورة العلمية التي نظّر لها المفكر الأمريكي توماس كون (1922 ـ 1996) باعتبارها «الانتقال من نموذج علمى جذري إلى آخر مغاير له كليا» ويؤكد عليه غليك بظهور علم جديد من قلب آخر وصل إلى نهاية مسدودة، يمتلك القدرة على عبور التقسيمات بين الاختصاصات العلمية، وغالبا ما تأتي على يد أشخاص يصعب إدراجهم في اختصاص محدد، فتغير العالم يأتي تباعا لتغير البراديغم، ويجد في القديم أشياء جديدة ومختلفة، ويقوم ذلك المفهوم حائط صد أمام فكرة أن التقدم العلمي يحدث عبر تراكم المعرفة.

نظرية الفوضى

فنلاحظ تقاطع التخصصات في نظرية الفوضى، والانتقال من الانغلاق في الأجزاء إلى الانفتاح على النظم الكلية، فنجد عبورا من مأزق أصحاب الكهف إلى التكامل الممتد والمترابط والمتجدد عبر الزمن، ما دفع جيمس غليك إلى وضعها في منطقة وسط على خريطة النظريات العلمية، بين النسبية ونظرية الكم، ويحدد نطاقها بالعمل في ظواهر على مقياس الإنسان، حيث تتأمل في التجارب اليومية والعادية للبشر والعالم كما يعرفه الإنسان بالبداهة والحدس المباشرين، وهو الانتقال الذي يشبه التحرك من قطرة ماء إلى التيارات والأعاصير، فلا يعني أن تعرف المكونات الصغيرة لشيء ما وتمسك بقوانينه الصغيرة، أنك تستطيع أن تفسر تمظهراته الكبرى، فنشاهد في علم اللامتوقع مداً للجسور بين الشيء المفرد، والكلي المتألف من مجموعات ذلك الشيء عينه، وفيه معنى يتعالق مع قول الرحباني «مُختَزنٌ سرُّك فيّ كما في الرملة تُختزن الصحراء».
تقع كلمة «Chaos» محل شد وجذب حول الترجمة الدقيقة لها إلى اللغة العربية، ونشير إلى أن الكتاب نفسه تُرجم سابقا تحت عنوان «الهيولية تصنع علما جديدا» ترجمة علي يوسف علي، وفى كتب أخرى تمت ترجمة الكلمة إلى «الشواش» ولكن بشكل عام تمتد جذور كلمة «Chaos» إلى الأساطير الإغريقية وتحيل إلى الربة كاوس التي تجسد المكان غير المحدد، والمادة التي لا شكل لها، فهى «اللاشيء الذي ظهرت منه الأشياء» بتعبير الشاعر هسيودوس، ويرتبط ذلك بلفظ الهيولي في تعريفات الجرجاني على مرحلتين، الأولى مرحلة أصل الكلمة بأنها «لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة» ومرحلة المصطلح بأنها جوهر في الجسم قابل لما يعرض عليه، وكلها معانٍ تتمركز حول جوهر ما، تكمن فيه كل الإمكانات ومفتوح على كل الاحتمالات، وفي الترجمة العلمية لكلمة «كايوس» يؤكد علي يوسف، على أنها تعرف بين المتخصصين «بالنظم الديناميكية اللاخطية» وكان أحمد مغربي موفق عندما صك مصطلح «علم اللامتوقع» كعنوان فرعي للكتاب، وهو جدل يصب في الاقتراب من المعنى الدقيق للكلمة والابتعاد عن المعنى المباشر، الذي يمكن أن تثيره كلمة الفوضى أو «الشواش» من العشوائية واختلاط الأمر، أو عدم النظام والتمرد على التحكم، فحقيقة ليست هناك فوضى في الأمر، توجد فقط ظواهر ديناميكية لا خطية، تفارق مفهوم الخطية والكون، باعتباره آلة كبيرة محكومة بالقوانين، ويمكن التنبؤ بمصيره انطلاقا من قوانين نيوتن، وقدر أوديب المحكوم والمخطوط بقلم مؤلفه، إلى كون لاخطي وغير متوقع وقابل لكل الاحتمالات، فاللاخطية لا تتساوى فيها التغيرات الطفيفة في المدخلات مع المخرجات، وهو نوع من مفارقة المنطق البسيط إلى منطق أكثر تنوعا لا تؤدي فيه المقدمات إلى حتميات بقدر ما تؤول إلى ممكنات متنوعه، فالنظم الفوضوية تسلك سلوكا فوضويا، أو غير متوقع انطلاقا من عمليات بسيطة، ولكن بتكرارها ملايين المرات والتشابك المتراكم والمتكرر بين الأسباب والنتائج تؤدي إلى الفوضى.

وتفضي النهاية إلى أن فضاء كلمة الفوضى يثير كثيرا من المعاني التي تشكل مدارات من الاضطراب واللانظام واللاخطية، وكثيرا من الدوائر التي تتفرع إلى أشكال غير متوقعة، ولكن داخل إطار وفضاء محدد.

وتنطوي أفكار نظرية الفوضى على تداعيات اختلاف الظواهر الطبيعية التي تدرسها وتمتد إلي حياة الإنسان، فتتجسد في أفلام سينمائية كثيرة، وتسكن اختصاصات متعددة وتتشعب إلى أفكار متنوعة، وكلها تتمركز حول فكرة أثر الفراشة، التي تنتمي إلى أدوارد لورنس عالم المناخ، وصاحب السؤال الشهير هل خفقة جناح فراشة في البرازيل، تؤدي إلى إعصار في تكساس؟ والإجابة عن السؤال بالإيجاب أو بالسلب يقع في القلب منه مفهوم «الاعتماد الحساس على الظروف الأولية» ما يعني أن أي نظام يسلك سلوكا فوضويا يعتمد بشكل حساس على الشروط الأولية مهما كانت طفيفة، أو حتى غير مرئية، وهي خاصية اكتشفها لورانس من خلال نماذج محاكاة الطقس التي كان يعمل عليها، فعبرت عن الأثر البالغ للتفاعل بين تغييرات طفيفة كمدخلات لدورة جديدة من مخرجات دورة أخرى، وإن كان لورنس عثر على عدم القدرة على التنبؤ على المدى الطويل، فإنه في المقابل أيضا عثر على النمط والبنية ضمن السلوك العشوائي ظاهريا، فالنمط المتكرر هو ذاته الذي يفصل بين العشوائية والفوضى، وذلك النسق ما كان ليظهر لولا الكمبيوتر ونماذج المحاكاة، التي احتلت مكان المعمل في العصر الحديث، وامتد استخدامها على مدار الكتاب كمنهج رئيسي في استكشاف أبعاد الفوضى في المجالات كافة.

النقاط الحرجة في الأنظمة

فيمكن القول إن فكرة الاعتماد الحساس على الظروف الأولية وتراكم التأثيرات البسيطة عبر النظام، والتغذية المرتدة وربطها الدائم بين المدخلات والمخرجات في تجدد مستمر، والتسلسل إلى النقاط الحرجة في الأنظمة، والتفرع اللامتناهي، والجاذب الغريب، الذي يجمع التقارب والتباعد، والمعنى وعكسه في مفهوم الاستقرار حول نمط ما، وهو شكل الفراشة في نموذج لورانس، واللاخطية والمحاكاة، هذه المفاهيم كلها تشكل أبعاد نموذج متكامل لنظرية الفوضى، ورغم التعقيدات العلمية في هذه المفاهيم، لكنها تعْبر بسهولة إلى الحياة اليومية للإنسان وللأنظمة الاجتماعية، فيمكنك أن تترك إنساناً في صحراء ومعه ما يكفيه لبلوغ هدفه، أو تتركه بدون زاد أو الشروط الأولية للحياة ليلاقي مصيره أيا كان، ومن هنا يمكن أن نطرح سؤال هل غرق شخص ما على سفينة وسط البحر، يمكن أن يؤدي إلى دمار العالم؟ يمكن ذلك ولا يمكن، ويتوقف ذلك على ارتباطات هذا الشخص في العالم، فيمكن أن يقود موته إلى قيام حرب عالمية، كما كان في إرهاصات الحرب العالمية الأولى. وثنائية موسى/الخضر في التراث العربي، كانت تتحرك على نمطين مختلفين، نمط المنطق البسيط القائم على الأسباب المباشرة والنتائج المباشرة، ونمط آخر لعدم الارتباط بين الأسباب والنتائج، وللوهلة الأولى يُظهر السلوك العشوائية، ولكن عندما توفرت المعلومات، أصبح النمط مفهوما وإن كان غير مألوف. وأيضا تبني أيديولوجيا معينة، وتفسير العالم على هداها، ورد كل شيء إليها، يمثل جاذبا غريبا وتشوها للرؤية في آن واحد، فما ذلك سوى حلقة تغذية مرتدة في الاتجاه نفسه، متكررة، وإذا كان يدعمها تبني أفراد كثر للفكرة نفسها، فسنشاهد مصيرا يؤدي إلى الانفصال عن الرؤية المتوازنة للواقع، وعدم قبول الآخر، بل يمتد إلى أبعد من ذلك، فنموذج مركزية الأرض في العصور الوسطى يمثل تأطيرا جاذبا يشد إلى مداره كل مخالف ويستبيحه ويقضي عليه، وهذا العقل منتشر حول العالم وفي عالمنا العربي بشكل أكبر، فينبئ عن كسل وعور في الرؤية كامنة في داخله، مثل انحدار كرة واستقرارها على سفح جبل، كما أنها دلل على الخروج من سير العالم نحو الاكتشاف بمنهج علمي واضح وقائم على السؤال وليس تجريمه، ولكن يسبق هذا كله سؤال حول الظروف الأولية التي أدت إلي تشكل مثل ذلك العقل وسلوكه، والنقاط الحرجه والحساسة لأي طفيف، بل يمكن ان يتسع السؤال ليشمل أي ظرف مهما كان حقيرا وغير مرئي، ففرضية حركة الشيء فى ظل ثبات العوامل الأخرى أصبحت فارغة، لأنها لا تتحقق إلا في نظام مغلق مثل تحقق قانون العرض والطلب في الاقتصاد على سلعة واحدة، مع ثبات العوامل الأخرى، فيؤدي ذلك إلى أن اللاخطية هي القانون وليس العكس، اي أن الاستثناء هو الذي ينظم الحياة والكون وليس القاعدة.
وتفضي النهاية إلى أن فضاء كلمة الفوضى يثير كثيرا من المعاني التي تشكل مدارات من الاضطراب واللانظام واللاخطية، وكثيرا من الدوائر التي تتفرع إلى أشكال غير متوقعة، ولكن داخل إطار وفضاء محدد، وهو معنى يتخيله العقل في شكل إنسان ينزلق على رسم بياني معقد من الانحدارات والارتفاعات، المتشابكة والمتشعبة واللانهائية، وغير متوقعة المسار والمصير إلى ما لانهاية، إنسان تتقاذفه الأمواج بين قممها وقيعانها، يقع في يد ديناميكيات تنفلت بشراسة إلى تكرار وتوالد غير منته، يمرّ من نقاط عدم استقرار إلى أخرى، مثل كرة موضوعة على رأس هرم، تندفع بقوة إلى احتمالات مصيرها غير المتوقع، يحدوها الأمل في أن الأشياء البسيطة يمكن أن تحدث فروقا كبيرة ومصائر مختلفة، وكأن في المجهول يكمن سر الحياة.

كاتب من فلسطين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عادل:

    البشرية، والى درجة اقل الطبيعة، تتضمن الاضطراب والفوضى لان الكمال لله تعالى وحده عزت قدرته. البشرية فوضوية لانها تملك حرية الاختيار وبالتالي تفسد وتظلم وتعاند، اما الطبيعة فهي منتظمة على المستوى الكلي الا يوم القيامة حيث يفسد النظام الكلي ويتحول الى فوضى عارمة بقضاء الله وقدره.

اشترك في قائمتنا البريدية