كثيرا ما يشكو العراقيون من التغيرات الاجتماعية التي أصابت مجتمعهم، وإشارتهم الى شيوع نمط من القيم الاجتماعية السلبية التي لم تكن موجودة سابقا، حسب ادعاء المتكلمين، وإن تفشي سلوكيات إجرامية غريبة على المجتمع، والنهب والفساد وإهدار المال العام، وشيوع العنف المجتمعي، وارتفاع معدل الجريمة كلها تُقرأ على أنها مؤشرات على ما أصاب المجتمع العراقي من أمراض اجتماعية.
ويطالب العراقيون الحكومات المتعاقبة باتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة لإنقاذهم من التردي الذي أصاب حياتهم، ووضع حلول جادة وحقيقية لمحاربة الفساد والجريمة وخرق القوانين.
يدرس الباحثون في علم النفس الاجتماعي، وعلماء الاجتماع، وعلماء الإجرام التغيرات والمشاكل التي تصيب المجتمع، ويحاولون التعرف على سبب هذه المشكلات الاجتماعية وعلى وضع حلول أو مقترحات لعلاجها. ومن بين النظريات التي وضعت قيد التنفيذ في المجتمع الأمريكي في تسعينيات القرن الماضي كانت نظرية «النوافذ المكسورة». فما هي هذه النظرية؟ وماهي آليات تطبيقها؟ وهل يمكن أن تمثل مدخلا لمعالجة مشكلات الوضع العراقي؟
يرجع أصل نظرية «النوافذ المكسورة» الى عالم النفس الاجتماعي الأمريكي فيليب زيمباردو، الذي قام بتجربة اجتماعية عام 1969 لقياس مدى عنف المجتمع عبر المقارنة بين مدينتين واحدة فقيرة وأخرى ثرية، إذ ترك سيارتين بأبواب مفتوحة ولوحات أرقام مفقودة في منطقتين مختلفتين، إحداها في حي فقير، والأخرى في حي غني. وقام بمراقبة سلوك المواطنين تجاه السيارتين المتروكتين، إذ بدأ المارة في الحي الفقير بسرقة وتخريب السيارة بعد بضع دقائق، وتم تدميرها بالكامل في غضون ثلاثة أيام. بينما تطلب الأمر وقتا أطول لتدمير السيارة في المنطقة الغنية. وهنا تدخل زيمباردو وأضاف عاملا آخر للتجربة إذ قام بكسر إحدى نوافذ السيارة المتروكة في الحي الثري، فبدأ الناس بكسر المزيد من النوافذ وسرقة السيارة واستغرق الأمر وقتا مماثلا لما حصل من تدمير في الحي الفقير لتتحول السيارتان بالكامل إلى خردة في بضعة أيام.
استنادا لتجربة زيمباردو طوّر باحثان أمريكيان هما جيمس كيو ويلسون وجورج كلينغ في عام 1982 إطروحة نظرية أطلقا عليها اسم نظرية «النوافذ المكسورة» كاستعارة للاضطراب داخل الأحياء السكنية، حيث ربطا بين الفوضى والفظاظة داخل المجتمع بالأحداث اللاحقة للجرائم الخطيرة. وقد تم تقديم هذه النظرية في مقال بعنوان «النوافذ المكسورة» في عدد آذار/مارس 1982 من مجلة أتلانتيك الشهرية. ويميل الباحثون في علم النفس الاجتماعي وضباط الشرطة إلى الاتفاق على أنه إذا تحطمت نافذة في مبنى وتركت دون إصلاح، فإن جميع النوافذ المتبقية ستتحطم قريبا.
يطالب العراقيون الحكومات المتعاقبة باتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة لإنقاذهم من التردي الذي أصاب حياتهم ووضع حلول جادة وحقيقية لمحاربة الفساد والجريمة وخرق القوانين
هذا صحيح في الأحياء الجميلة كما هو الحال في الأحياء المتهدمة. بالطبع لا يحدث كسر النوافذ بالضرورة على نطاق واسع وفي كل الأحياء بنفس الكمية والكيفية، لأن بعض المناطق يسكنها الكثير من المشاغبين بينما يسكن أحياء أخرى مواطنون ملتزمون بالقيم والقوانين. لكن لابد من الإشارة الى أن إحدى النوافذ المكسورة التي لم يتم إصلاحها هي إشارة إلى أن لا أحد يهتم، وبالتالي فإن كسر المزيد من النوافذ لا يكلف شيئا، ولن يحاسب أحد على فعلته إذا اعتدى على الممتلكات الخاصة أو العامة.
تبنّى نظرية «النوافذ المكسورة» في تسعينيات القرن الماضي مفوض شرطة مدينة نيويورك وليام براتون ورئيس البلدية رودي جولياني، اللذان تأثرت سياساتهما الشرطية بالنظرية. فوفقا لنظرية «النوافذ المكسورة» ترسل البيئة المنظمة والنظيفة التي يتم الحفاظ عليها، إشارة إلى أن المنطقة تخضع للمراقبة وأن السلوك الإجرامي لا يمكن التسامح معه. وعلى العكس من ذلك فإن البيئة المضطربة، التي لا تتم صيانتها (النوافذ المكسورة ، الكتابات على الجدران، والقمامة المتجمعة) ترسل إشارة إلى أن المنطقة غير خاضعة للمراقبة وأن السلوك الجانح لا يُكتشف إلا في حالات نادرة، وبالتالي لن يكون مرتكب الجنح عرضة للعقاب.
إذن نحن إزاء تفسير علمي يتلخص في أن إهمال معالجة أي مشكلة في بيئة ما، بغض النظر عن صغر حجمها، سيؤثر على مواقف الناس وتصرفاتهم تجاه تلك البيئة بشكل سلبي مما يؤدي إلى مشاكل أكثر وأكبر. في العراق اليوم نتيجة تجمع الكثير من العوامل المتداخلة أصبح سلوك الأفراد أكثر سلبية وانكفاء على النفس، ورفع شعار (خليك بحالك، ولا تتدخل في أمور الغير)، ربما كان ذلك نتيجة الخوف من العنف العشائري، أو نتيجة الانفلات الأمني، أو نتيجة العنف المصاحب لانتشار السلاح المنفلت في المجتمع.
إن نظرية « النوافذ المكسورة» تؤكد على دور أفراد المجتمع الكبير عبر تعاونهم مع الجهات الرسمية في تطبيق القانون، فلا يجوز أن تكون قاعدة (حشر مع الناس عيد) شعارنا في التعامل مع حالات الفساد والمحسوبية وقبول السلوكيات الشاذة والسلبية. كما لا يجوز أن نقبل بمقولة (هي ضلّت عليه) في ارتكاب المخالفات والجنح والاعتداءات الصغيرة، لأنها تشيع نوعا من الاعتقاد إن الفساد منتشر، وإن سلوك فرد واحد لن يؤثر، لأن هذا بالضبط هو محور نظرية «النوافذ المكسورة»، فحسب تجربة زيمباردو إن من قاموا بتكسير ونهب السيارتين ليسوا مجرمين، بل هم أفراد عاديون لاحظوا عدم وجود رادع يردع خرق القانون فشاركوا بأعمال التكسير والنهب. والنتيجة إن حماية مرتكب الخروقات القانونية الصغيرة باعتبارها أفعالا لا تؤثر على المجتمع أمر بالغ الخطأ والخطورة، فالمشاركة في إلقاء القمامة في الأماكن العامة، أو تدمير الممتلكات العامة مثل المباني الحكومية أو وسائط النقل العام ستروّج لروح الانفلات من القانون وستقود بعد ذلك الى جرائم أكبر.
تجدر الاشارة الى أن التعامل مع بعض التجاوزات بطريقة تغلفها الرحمة والتعاطف مع بعض المحتاجين تقف عائقا في تطبيق القانون وإنقاذ المجتمع من الفوضى، وهذا ما حصل في ما يعرف بالمناطق العشوائية التي نتجت عن البناء في أراض حكومية تعرف بالسكن في (التجاوز)، أو احتلال مبان حكومية لغرض السكن، أو التجاوز على الأرصفة وإشغالها في بسطيات البيع التي حولت الأرصفة الى غابة من الدكاكين العشوائية. هذا الأمر لا يجوز التعاطف معه بمبرر عدم محاربة المحتاج في سكنه أو مصدر رزقه، لكن ينبغي المطالبة بوضع حلول حقيقية لمعالجة مشكلات أزمة السكن وأزمة توفير فرص العمل بشكل حقيقي، إذ أشار علماء اجتماع الى أن الاستخدام غير الملائم للأرض يمكن أن يسبب الفوضى، وكلما كبرت مساحة الأراضي العامة المتجاوز عليها، زادت الحالة العامة للانحراف الإجرامي.
ويمكن اعتبار جين جاكوبس واحدة من الرواد في هذا المنظور لنظرية «النوافذ المكسورة»، إذ يركز جزء كبير من كتابها (موت وحياة المدن الكبرى في الولايات المتحدة)، “The Death and Life of Great American Cities” ، على مساهمات السكان وغير المقيمين في الحفاظ على النظام في الشارع، ويشرح كيف توفر الشركات والمؤسسات والمتاجر المحلية إحساسا «بالاهتمام بالشارع» باعتباره فضاء عاما تقع مسؤولية المحافظة عليه على جميع المواطنين.
كما أن القبول بالواسطة والمحسوبية عندما يتعلق الأمر بنا أمر خطير، وأن اعتبار الأمر مجرد أمر بسيط هو إنجاز لمعاملة أو تنفيذ مراجعة روتينية لدائرة حكومية لأنه يشيع روح التسامح مع الفساد المالي والإداري الذي بات آفة عراقية منتشرة في كل مفصل من مفاصل الدولة، لذلك يجب أن نحاسب أنفسنا أولا وأن نلتزم بالقوانين واللوائح في تنفيذ المراجعات الحكومية وبالتالي ستنفذ كل الإجراءات وفق سياقاتها القانونية، إذ لا يجوز أن نطالب الجهات الحكومية باتخاذ إجراءات رادعة بحق الفساد والنهب والمحسوبية ونستثني أنفسنا حتى وإن كان الأمر بسيطا، من وجهة نظرنا، ويتمثل في عملية واسطة أو رشوة صغيرة نقدمها لتسيير معاملاتنا الحكومية، لأن (أكبر الحرائق من مستصغر الشرر) كما قالت العرب.
كاتب عراقي
” فحسب تجربة زيمباردو إن من قاموا بتكسير ونهب السيارتين ليسوا مجرمين، بل هم أفراد عاديون لاحظوا عدم وجود رادع يردع خرق القانون فشاركوا بأعمال التكسير والنهب. ” إهـ
وماذا عن الرادع الديني ؟
ولا حول ولا قوة الا بالله
القبائلية ًالعشاءرية كانت اساس العنف المجتمعي في زمن الملكية ولو ان الحكومة في ذلك الوقت كانت مسيطرة وتتمكن من إخماد العنف.
بعد ١٩٥٨ كان الحزب الشيوعى العراقي مسؤول بالدرجة الاولى عن العنف السياسي. في عام ١٩٦٣ جاء حزب البعث للحكم وازداد العنف. وتمت تصفيته من قبل الضباط الذين تعاًنوا معه. مارس الأكراد العنف من بعد تموز ١٩٥٨ الى الاحتلال الامريكي للعراق عام ٢٠٠٣ . وكذلك عانى الأكراد من عنف الحكومات العراقية المتعاقبة. لقد حاول عبد الكريم قاسم أستغلال الأكراد ضد المنادين بالوحدة العربية في العراق ولكن عندما شعر بإن الاكراد يشكلون خطرا على الحكم واجههم بعنف. اود ان اكرر دعوتي لانشاء هبة مصالحة تستعرض العنف في العراق من عام ١٩٥٨ احد الان الغاية منها دراسة أسباب العنف سواء كانت سياسية او اثنية او طائفية وكيفية تجاوز هذه الظاهرة .
أمام سكني في الكويت ، عبر شارع رئيسي، كان هناك معسكر للحرس الوطني . كل صباح و أنا ذاهب لعملي أرى عشرات السيارات تعود للعاملين في المعسكر مصفوفة في ساحة ترابية أمام المعسكر .
بعد غزو ٢ آب ١٩٩٠ لم أغادر المستشفى منذ وصولي يوم ١ آب و حتى يوم ٥ من الشهر .
ما لفت نظري و أنا أقترب من تلك الساحة أن عشرات من تلك السيارات جميعها غطاء الماكنة و غطاء الصندوق الخلفي عاليين و العجلات الأربعة مزالة.
عندها فكّرت : صدام حسين لم يأتي بنفسه و قام بذلك العمل.
إذاً من يصدر أمراً بعملٍ كبير يكون مسؤول عن تلك الأعمال الثانوية
و كذلك بشأن غزو العراق عام ٢٠٠٣ و ما تبعه من إجرام .
و هذا على عكس نظرية النوافذ المكسورة
شكرا للاستاذ صادق على هذه المقالة الجميلة التي تدفع الكثيريين للتمعن والتعمق في كيفية تطور مجتمعنا.
السبق الحضاري والعلمي الاجتماعي للمجتمعات الغربية يعطي المتحكمون بمجتمعنا فرصا عديدة لتسييره وحكمه بطريقة تخدم مصالح المتحكم.
هنالك تساؤل : هل استفادت الولايات المتحدة الامريكية من نظرية النوافذ المكسرة في ترسيخ الفساد والجريمه والتخلف الاجتماعي داخل المجتمع العراقي؟ ولكي نطرح السؤال بشكل مختلف ، هل من مصلحة الولايات المتحدة الامريكية تجسيد التخلف وارساء الفساد على اصعدة مختلفة داخل المجتمع العراقي؟ ولكم الشكر.