نعم لبنان ليس وحيدا… إنه عنوان فشل عربي مزمن

عبارة «لبنان ليس وحيدا» وردت على لسان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بُعيد كارثة ميناء بيروت. قالها تعبيرا عن تعاطف فرنسا والعالم وتضامنهما مع لبنان وشعبه.
تحمل العبارة الكثير من الرومانسية والتعاطف والقرب تجاه لبنان وبيروت. اجتهد ماكرون ومحيطه في انتقاء العبارة حتى يكون لها الوقع العاطفي المطلوب، وليس في ذلك أيّ غرابة أو عنصر مفاجأة من رئيس فرنسي عندما يتعلق الأمر ببلاد الأرز. لكن لبنان ليس وحيدًا أكثر بكثير مما قصده ماكرون في تلك التغريدة التي أراد بها أن يسبق العالم ويكرّس أحقية فرنسا في لبنان (فقط عندما يتعلق الأمر بأزماته الداخلية. فرنسا تنسى لبنان عندما تعربد إسرائيل في سمائه طيلة أيام السنة).
في الواقع، لبنان ليس (ولم يكن) وحيدا قبل كارثة المرفأ بكثير، لأنه لم يُترك لشأنه يوما واحدا. منذ ثلاثين عاما تتقاذفه قوى وحكومات أجنبية، بعيدة وقريبة، تختلف مصالحها وأدوارها فوق أرضه إلى حد التناقض القاتل. ثلاثون سنة هي الحد الأقصى للعمر الافتراضي لاتفاق الطائف، لكن الساسة اللبنانيين ورُعاتهم الإقليميين والدوليين يرفضون الإقرار بهذه الحقيقة طالما أن لبنان يتنفس. حالة الإنكار تجاه اتفاق الطائف تشبه صاحب سيارة يرفض النظر لحالها المهترئة طالما أنها لا زالت تتحرك وتستطيع نقله من أ إلى ب.
كيف يكون لبنان بخير وهو الذي، طيلة ثلاثين سنة، على سبيل المثال، كان يجب أن توافق باريس وطهران والرياض ودمشق وواشنطن ولا تمانع تل أبيب حتى يشكّل حكومة، يتضح بعد أسابيع أنها فاشلة؟
عدا ذلك، لبنان ليس وحيدا في هذه المحنة، وقبلها. تشبهه دول عربية كثيرة قريبة منه وبعيدة ومرشحة، عاجلا أو آجلا، لكوارث مشابهة، بشكل من الأشكال، لكارثة مرفأ بيروت.
ليس هذا ضرب رمل. وليس قراءة كفّ. قبل كارثة المرفأ كان لبنان مطحونا بحرب اسمها التخلف والفشل، مثل كل الدول العربية الأخرى عدا الخليج. تأملوا خارطة المنطقة: الدول القريبة من لبنان، حتى تلك التي تصرُّ على التأثير فيه، تتشابه في انتشار الرداءة والفشل بكل أنواعه. لبنان الأكثر هشاشة، صحيح، بسبب تنوعه الشديد (الذي تحوَّل إلى نقمة عليه) ووقوعه في كمّاشة، لكن الآخرين راكموا أيضا أسباب الكوارث وتسهيل وقوعها، رغم أن ظروفهم أقل تعقيدا من ظروفه. لهذا فلبنان ليس وحيدا. الفرق أن لبنان تحت المجهر أكثر من غيره والأضواء المسلطة عليه أقوى من المسلّطة على الآخرين.

هذه فرصة اللبنانيين التاريخية للسمو فوق الطائفية والعرقية والاختلافات الدينية والمذهبية والسياسية. إذا لم توحّدهم هذه المأساة، فلا شيء في الدنيا سيفعل. هذه أيضا فرصة كل الذين عبثوا بلبنان، من طهران إلى واشنطن مرورا بغيرهما، ليرفعوا أيديهم عنه ويُصفّوا حساباتهم بعيدا

لبنان عنوان فشل عربي مزمن يأبى أن ينتهي. إنه يشبه الآخرين في الإخفاق والفشل الحكومي ويأس الناس وفقدانهم الثقة في قادتهم والإيمان بأوطانهم. ويشبه الآخرين في أن مواطنيه أُجبروا مع الوقت على تعوّد الخذلان وخيبات الأمل، والقبول بالأزمات والعيش معها، والرضى بالحد الأدنى، وفقدان الاستجابة للألم والعجز عن التعلم من الدروس، القريبة منها في التاريخ والبعيدة.
لبنان يُشبه الآخرين أيضا في تكلس سياسييه. هذا التكلس أجهض الرغبة في التغيير التي عبّر عنها شعبه في الخريف الماضي. اُجهضت إرادة شعبه مثلما اُجهضت قبلها رغبات مماثلة في دول أخرى، من المحيط إلى الخليج، مع استثناء تونس إلى حد ما.
لبنان توارثته عائلات تحوّلت مع الوقت إلى مافيات. والدول الأخرى تقاسمتها مافيات تحوّلت مع الوقت إلى عائلات.
هل يستطيع أحد أن يجزم بأن لبنان هو الدولة العربية الوحيدة التي تغاضى حكامها عن تخزين مواد متفجرة أو خطيرة صحيا في قلبها؟ مَن يستطيع أن يجزم بأن العواصم العربية الأخرى تخلو تماما من أسباب كارثة مميتة ككارثة بيروت؟ هل يستطيع أحد أن ينفي حقيقة أن لكل عاصمة عربية نصيبا من العمارات الآيلة للسقوط على رؤوس سكانها في أيّ لحظة، ولا أحد يحرك ساكنا رغم شكاوى الناس المستمرة؟
والأهم، هل سمعتم عن حكومة عربية تحركت بعد فاجعة بيروت وطلبت من مسؤوليها المحليين التأكد من خلوّ مُدُنهم وعواصمهم من أسباب مأساة مشابهة؟ ليس بالضرورة مرفأ ومواد متفجرة رست به في ظروف غريبة، إنما أي شيء يقود لكارثة صحية كانت أو بيئية أو غيرها.
المجتمع السياسي والإعلامي في إسرائيل استنفر في الساعات التي أعقبت انفجار بيروت، لأن حيفا تُخزّن وضعا مشابها لما خزّنته بيروت، لكن أقل خطورة. ولا شك أن الحكومة ستستجيب للضغط وتتحرك لتهدئة مخاوف الناس عمليا وليس بمجرد وعود. لهذا غلبتهم إسرائيل وستغلبهم طالما عجزوا عن اليقظة.
ما حدث في بيروت الثلاثاء يُبكي الحجر. ليس لأنه كان قدرا مقدَّرا لا مفر منه، بل لأنه كان يمكن، ويجب، منع حدوثه بمراسلة تافهة من قاضٍ مغمور أو بيروقراطي صغير. العزاء الوحيد أن ينجح اللبنانيون في تحويله إلى سبب لانتفاضة إيجابية تبعث بلدهم من تحت رماد حرائقه القديمة والحديثة. آنذاك سيكون لبنان وحيدا واستثنائيا، لا خوف منه أو عليه. هذه فرصة اللبنانيين التاريخية للسمو فوق الطائفية والعرقية والاختلافات الدينية والمذهبية والسياسية. إذا لم توحّدهم هذه المأساة، فلا شيء في الدنيا سيفعل. هذه أيضا فرصة كل الذين عبثوا بلبنان، من طهران إلى واشنطن مرورا بغيرهما، ليرفعوا أيديهم عنه ويُصفّوا حساباتهم بعيدا. هذا البلد يستحق قليلا من السلام، لقد ناله أكثر مما يتحمّل.

كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول _خليل_@ عين باء:

    نذكر السيد ماكرون ان فرنسا هي من هندس للدولة الطائفية بلبنان و جعل لكل طائفة

    ولاء للخارج و لكل قبلة يولي وجهه لها يستحيل ان يتركوا لبنان لشأنه و لهم فيه موطئ

    قدم تحياتي

  2. يقول تامر العربي:

    عزيزي الكاتب..لبنان ليس وحيدا.. هناك شعب يحميه. ومقاومة حاضرة للذود عنه .

  3. يقول سميرة:

    فقط للامانة, وزير النقل الجزائري انتقل لميناء الجزائر لتفقد الأوضاع يوما بعد انفجار بيروت, هذا لا يعني أن الجزائر في منأى عن الكوارث والإهمال ولكن الأمانة في النقل واجبة.

اشترك في قائمتنا البريدية