«نفعيّة» العوام و«شعبويّة» الخاصّة: من يُنوّر من؟

حجم الخط
1

اختلف الفلاسفة والفقهاء في أمور كثيرة، لكنهم اجتمعوا على مسلك احترازيّ واحد، بإزاء العدّد الأكبر من الناس، بإزاء «العوام».
فعلى الرغم من كل إقرار فلسفيّ بأنّ الإنسان حيوان ناطق، وعاقل، ومدنيّ بطبعه، وسوى ذلك من التخاريج، وعلى الرغم من إشاعة أرسطو طاليس النهم إلى المعرفة عند كل الأنام، فقد طغت النظرة القائلة بأنّ المؤهّلين للتجريد العقليّ هم قلّة القلّة، واحتار الأمر إذّاك بين التواقين إلى الملك الفيلسوف، أو أقلّه الملك المنحاز للفلاسفة وأهل العقل، وبين المسوّغين لوجود «حقيقتين» واحدة بالعقل، معقودة لخاصّة الخاصّة، وثانية بالإلهام والخيال والمنام والتخمين، لأكبر عدد من الناس، وتندرج من ضمنها المرويّات الدينيّة.
المصادرة التي طبعت معظم تاريخ الفكر الفلسفيّ هو أنّ العقل عامّ بين الناس ونادر في الوقت نفسه. كلٌّ يستخدم عقله، إنما القلّة القليلة فقط هي التي تنجح في عدم تطويع هذا الاستخدام لنقائض العقل من نقمة وسكرة ومن روع وهوى. بالتالي، المطلوب في أقلّ الإيمان حماية المشتغلين بالأمور العقليّة الصرف، والمطلوب إذا كانت الأحوال أفضل التحاكم إليهم، وتفويضهم أمر بقية القوم ما أُمكِن.
حتى مع فلاسفة عصر التنوير، لم يُراجع الأصل في هذا التفكير بالكامل. انبنى التنوير على تقدير بأنّه كلّما توسّع المعلوم تراجع المجهول، وبالتالي، اتساقاً، كلّما تغلغلت المعرفة بين الناس أكثر زادت نسبة من يقدّمون الاعتبار العقليّ في وزن الأمور على ما سواه، بما في ذلك الامتناع عن تضخيم ما في مستطاع العقل البشريّ هذا: تحديده أكثر للتمييز بينه وبين المخيّلة أكثر. أن يمتنع العقل على التخيّل بأنّه الواسطة إلى كلّ شيء، وأنّ كل أبواب الوجود مشرّعة له. أن يمتنع العقل على التخيّل، وأن تمتنع المخيّلة عن محاولات «تجنيد العقل» لحسابها.
لكن التنوير، وصل إلى مفترق أساسيّ. بخلاف تشاؤمية فلاسفة الماضي حيال قابلية العدد الأكبر من الناس على تقديم العقل على سواه، فقد أسّس للفصل بين «عقل نظريّ» لن يضبط حدوده إلا أهل الاختصاص، وبين «عقل عمليّ – أخلاقيّ» قابل للانتشار والتوطّد في العدد الأكبر من الناس. حافظ فلاسفة التنوير في نهاية المطاف على التصوّر الذي يرى ضمنياً بأن حفنة ضئيلة من البشر أكثر إدراكاً ورويّة واتزاناً من ملايين الناس، فهؤلاء لا صبر لديهم على العقل ولوازمه إلا في حدود «العقل العمليّ».

المصادرة التي طبعت معظم تاريخ الفكر الفلسفيّ هو أنّ العقل عامّ بين الناس ونادر في الوقت نفسه. كلٌّ يستخدم عقله، إنما القلّة القليلة فقط هي التي تنجح في عدم تطويع هذا الاستخدام لنقائض العقل

كذلك الماركسية. ميّزت بين صناعة البشر لتاريخهم وبين أنهم لا يصنعون هذا التاريخ على هواهم مع أنّهم يوهمون أنفسهم بخلاف ذلك، وشدّدت على أن الأفكار تتحول إلى قوى ماديّة حين تجد لها موطئ قدم في كتل من الناس تكتسبها، وكثيراً ما رأت في الانفصال عن الواقع سمة لنخب ضاع حظّ طبقتها في التاريخ، وليس عند الأقل اكتساباً للمعرفة بحكم موقعهم الطبقيّ الرازح تحت اضطهاد أو تهميش أو استغلال. ومع هذا، لم تغادر الماركسية فكرة أن نخبة من الراسخين في النظرية «يفهمون» أكثر من كل الطبقة العاملة مجتمعة، وهو ما أصّله كارل كاوتسكي ثم فلاديمير لينين بنظرية «ضخ الوعي» أي أنّ العمّال إذا ما تركوا لأنفسهم، لما زاد مستوى نضالهم عن النوع المطلبيّ – النقابيّ، الاقتصادويّ، وأن تثويرهم السياسيّ رهن بالتلقيح من خارج دائرتهم الطبقيّة، أي بواسطة المثقفين الثوريين الآتين أساساً من أوساط غير كادحة.
وحتى بالنسبة لمن رفض نظرية «ضخ الوعي» هذا، وتتمتها أن «الحزب الثوريّ» صار بحكم «الملك الفيلسوف الجماعي» فإنهم لم يغادروا ثنائية «الخاصّة من الطليعيين في مقابل عموم المناضلين وعموم الكادحين» هم أيضاً. جلّ ما طالبوا به في الواقع هو إسناد الخاصّة لمصدر معرفتهم إلى إلهام يأتيهم من «عفويّة الجماهير». للجماهير العفوية، ولهم المصفاة التدبّرية.
حال علماء الدين والفقهاء اختلف بإزاء العوام، إنما لم يختلف بشكل مطلق.
في الغرب الوسيطيّ، لم يرفض توما الأكويني كلياً شيوع النهم المعرفيّ عند كل البشر، بالشكل الذي سطّره أرسطو في الميتافيزيقا. لكنه وجد أيضاً أن أغلب الناس كسالى بطبعهم، على صعيد المعرفة وتشغيل العقل.
في الشرق الإسلامي، وجد علماء الدين أنفسهم وسط تصوّر يميّز بين «منازل ثلاثة». أولي الأمر والسلطان من جهة، والعامّة من جهة أخرى. بعض الفقهاء تماهى مع أولي الأمر، والبعض الآخر مع الأوساط العاميّة. لكن الفقه كمؤسسة، والاشتغال بالعلوم الدينيّة بشكل عام، ظلّا منشدّين أكثر للنظرة التي تفيد بأن علماء الدين هم فئة رزينة، متحسّبة، متعقّلة، تشتغل بالأثر وبالدليل، وتوفّق بين السمع وبين العقل، وبين النواهي وبين الضرورات، وتحافظ على وحدة العمران الإسلاميّ في مقابل النزعات التفجيرية والطاردة من فوق ومن تحت. فمن ناحية، سلطة حاكمة لطالما تستبدّ بها شهوات ونمائم البلاط ونوبات الغضب والهلع من المكائد. ومن جهة، عوام الناس. تارة يخضعون ويطيعون السلطان فوق اللزوم وتارة يتمرّدون على الجابي والمحتسب والأمير بشكل عشوائيّ وانفعاليّ ويستجرّ طيشهم بطش الجلاوزة والعساكر. علماء الدين يتحولون والحال هذه إلى شريحة متعقلة بين استعدادين للجنون. عند من في السلطة وعند عموم المحكومين. شغلة العلماء والحال هذه بثّ موجات التعقّل والتصبّر في الاتجاهين. فالسلطة شرّ لا بدّ منه، والعدل ضروريّ لحماية من في السلطة من المتربّصين بهم. بقيت النظرة إلى العامة والحال هذه أنّ كلمة تأخذهم وأخرى تردّهم.
كل هذا كان في الماضي. ماضي الفكرين الفلسفي والديني على حدّ سواء إزاء مسألة غير تفصيلية، ما دامت متعلّقة بسلوكيّات العدد الأكبر من الناس. واليوم لا يزال هذا المنحى من التفكير منتشر. فهناك من يتداعى عند كل ملمة تصيب بلد ما إلى اجتماع طارئ لقادة الرأي، أو رهط من الحكماء، وهناك من يستغيث بالنخبة، يريد لها أن تنطق فتعتدل الحال وترفرف راية العقل من جديد. المستبعد في المقابل طرح السؤال المعاكس على طول الخط: ألم يصبح العوام أقل انفعالية وأقل احتياجاً لاستيراد وتصدير الأوهام من النخب؟ زعمنا أن هذا السؤال وإن كانت له حيثية عربية مباشرة اليوم، تتعلّق بتفنيد خرافة أن الجماهير هي أكثر تطرّفاً وشطحاً من النخب، بل أكثر حرصاً من هذه النخب على طرح أسئلة الجدوى، فإن للسؤال أيضاً دلالته الكونيّة. «الشعبويّة» باتت وإلى حد كبير خصلة في النخبة، في حين أن الميل إلى «النفعيّة» بات أكثر تجذّراً لدى عموم الناس. فإذا استذكرنا سؤال سبينوزا عن علّة سعي الناس في طلب العبودية كما لو كانت هي الحرية بالنسبة لهم، لربما حدث شرخ في السؤال نفسه عند استحضاره اليوم: لماذا تسعى النخب إلى الانفعالية كما لو أنها تظنّ أنها بانفعاليتها ومزايداتها و«سقوفها العالية» الوهمية هذه تصير «هي الشعب» في حين أن العدد الأكبر من الناس بات أقل شعبوية بالفعل من هذه النخب، وأكثر رغبة في الحكم على الأعمال بالكلفة والجدوى ومن يعوّض وكيف. ثمة انقلاب دلاليّ حاصل هنا. في عصر التنوير، كان السؤال هو عن كيفية تنوير الفلاسفة للعدد الأكبر من الناس. في عصر الماركسية، عن كيفية تثوير المثقفين المحترفين للطبقة الثورية من حيث الاستعداد والقابلية. اليوم السؤال بات معكوساً: عن دور العدد الأكبر من الناس في تنوير النخب… بأن ما يضرّ الناس لا ينفعها، وأنه ما من داعي لرؤية تباشير الخلاص في أتون كل كارثة.

كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول أسامة كلّيَّة سوريا/ألمانيا:

    شكراً أخي وسام سعادة. لا أعرف لماذا وجدت في القسم الأخير أن المقصود بالنخبة هو النخب السياسية! بينما بداية المقال مان الحديث عن دور النخب الفلسفية أو في يومنا هذا النخب المثقفة. أياً كان فقد أثبت الربيع العربي أن الشارع أو العامة تقدمت على النخب المثقفة العربية. بل مازال هذا الأمر مستمراً باستثناء قسم من هؤلاء المثقفين إلى جانب العامة بينما قسم أخر إما لم يعترف بفشله أو مازال مستمراً يقف إلى جانب السلطان!

اشترك في قائمتنا البريدية