لا يخطئ الشعراء الكبار المميَّزون بغزارة الإنتاج وتعدّد العوالم وتنوع الأساليب الإبداعية ضمن الخصوصية المميزة لهم، باختيار أهم القصائد المعبِّرة عن عوالمهم، من مختلف مجموعاتِهم إنْ كانوا أحياء، أو باختيار كتّاب معروفين بالكفاءة والخبرة لقصائدهم إنْ رحلوا؛ ووضْعها في كتاب «مختارات شعرية»، يبلورون فيها هذه العوالم لقرّائهم. وقد فعل أحد أعلام الشعراء العرب، اللبنانيّ عباس بيضون، الأمْرين معاً حين أصدر مختارات شعرية شاملة من مجموعاته العشرين في حياته، واختار لها عنوان «نقد الألم وقصائد أخرى».
وبتجاوز التساؤل حول وضع عنوانٍ محدودٍ بمجموعةٍ أمام اتساع عوالم المختارات الساطع أمام القارئ، ومبرِّرات وضع هذا العنوان، قام الشاعر ومحرر المختارات محمود وهبة بتجاوزٍ لافتٍ في التقديم الذي يوضع عادة لتفسير وتبرير الإصدار، حين رفداها بأربع قراءات تصل إلى مستوى الدراسات، تحت عنوان: «مداخل لقراءة شعر عباس بيضون»، من أعلام لديهم تجارب غنية في الشعر والنقد. وهو أمر مهمٌّ فعلاً، ليس من جهة احتياج شعر بيضون المتشابك الغامض والعميق والمثقف إلى مفاتيح يتزوّد بها القارئ لزيادة متعة اكتشافه فحسب، وإنما كذلك لصعوبة التمييز بين ثمين الشعر ورخيصه في عجيج ما يخرج عن دور النشر ومواقع التواصل من غبارٍ يطرد القراءَ عن عالم الشعر. إضافة إلى افتقاد مراكز البحوث والجامعات العربية إلى نقّاد حقيقيين ووسائلِ نشرٍ موضوعيةٍ وشفافةٍ ومحايدةٍ، لإنتاج مفاتيح تُقرِّب القارئَ من باب شجرة الشعر.
وقد تكون مفيدةً حقاً الإشارةُ وإن بإيجازٍ إلى بعض ما استخلصتْه القراءات الأربع، من عناصر مميِّزة لشعر بيضون، ومحاولة الإضافة إلى ما استُخلِص، متابعةً ووصلاً مع تطوّر شعره الذي يكشف أهميّة ما أسستْه القراءات التي كُتبت في أزمانٍ سابقة على التطوّر:
1: قراءة الشاعر أمجد ناصر في «بورتريه لعباس بيضون»، حول تطوّر شعره، وخصوصية كتابه «نقد الألم» الذي كرّسه واحداً من رواد الموجة الثانية لقصيدة النثر العربية، ودفع شاعره ربّما لوضعه عنواناً لمختاراته. إذ أن هذا الكتاب وفق رؤية ناصر: «سيؤسس لخصائص أسلوبية سترافق كتابة عباس وقتاً طويلاً. من ذلك الجمل القصيرة التي تكرّ لتصنع إيقاعاً سريعاً متلاحقاً، كأنها حُكْمٌ أو خلاصات. كأنّ كلَّ جملةٍ صورةٌ أو استعارةٌ واحدةٌ أو حياةٌ قائمةٌ بذاتها. ومن ذلك أيضاً عدم تلكّؤ الكتابة عند مقدمةٍ أو عتبةٍ ودخولها مباشرةً على موضوعها. إنها أشبه بالأغنية التي لا مقدّمة موسيقيةً لها. أنت من أول كلمةٍ في قلب الكتابة لا في ضواحيها أو على أطرافها أو بالقرب من دندناتها. ويخطر لي أن أصف ذلك، رغم خطورة هذا الوصف وسمعته السيئة، بـ«المباشرة»، و«لكنها المباشرة المدرّعة بالمجاز، بالصور التي تنثال عن مخيّلةٍ ولّادة».
وبطبيعة مرور الزمن على هذه القراءة الكاشفة، وصقْل عباس لخبراته الشعرية أكثر، سوف يلمس القارئ، رغم وضع المختارات في بنية الكتاب بترتيب المجموعات الأحدث رجوعاً إلى البدايات في قصيدة «صور ــ قصيدة» التي كتبت عام 1974، مدى التطور الذي جرى على تغليب المجاز من «درع للمباشرة» إلى تشابكٍ عضويّ يمحوها فيه ليخرج بتركيب جديد للجمل الشعرية ينبض بألق اللغة وعمق المعاني، والتداخل مع تساؤلات العلم حول الوجود والمصير، وبالأخص عند احتكاك بيضون بتهديد إفناء البشرية من قبل فيروس كوفيد.
2: قراءة محمد علي شمس الدين في «عباس بيضون شاعر يقتحم المعنى عبر التشكيل اللغوي»، حول لغة بيضون وبالأخص في مجموعته «لُفِظَ في البرد»، والقصيدة الأولى منها «كُفّار باريس»، وحول كتابة بيضون بالمخرز، ولغته القاسية الصادمة بما تحمل من صور وتعبيرات مثيرة للارتباك، وبما يكتشف شمس الدين أنّ «الشعر هنا، ليس لتلطيف الوجدان أو دغدغته، بل لبقر بطن الوجدان بَقْراً مباشراً بمخرز اللغة، وكشف أحشاء (الحال)، والحال هو هذه اللغة بالذات، ذلك ما أشار إليه ت. إس. إليوت فيما سمّاه (المعادل الموضوعي) للشعر أو القصيدة». حتى وصول شمس الدين إلى طرح سؤاله في هذا المعادل: «أين هو الذباب؟ على الشجر أم في الذاكرة واللغة؟ وأين هو المخاط؟ على الخصلات أم في اللغة؟». ويخلص إلى أنّ «ما هو هناك هو أيضاً هنا… أو أن كلَّ شيءٍ ليس سوى قصيدةٍ، في الشعر».
3: قراءة الناقد والمفكر وضّاح شرارة في: «صور ــ قصيدة»، التي يشرّح فيها قصيدة بيضون الشهيرة عن مدينته صور، ويصل إلى سبر الشعر للموت في الحي والحي في الميت، حيث «نحن الذين نتكلم من جثتكِ/ نفتح نوافذنا في رمّتكِ المصخَّرة». وهي قراءة مهمّة من حيث تناولها لقصيدة تأسيس شعر بيضون عن القصيدة التي جعلت منه أحد رواد قصيدة النثر.
4: قراءة الشاعر الناقد كاظم جهاد «عباس بيضون في قصائده عن جائحة كورونا/ الخيال الشعري يواجه أسلحة الوباء الخفية»، التي يكشف فيها الأبعاد التراجيدية في شعر بيضون، ومعالجته للوجود والعدم، بفلسفة تُظهر الأمل من قلب اليأس، وتفتحُ المسالك في جدران «الآفاق المعطّلة وجودياً أو تاريخياً»؛ وبالأخص في مجموعته الوجودية «لُفِظَ في البرد»، ويكشف فيها جهاد، خلفيات هوس بيضون بالأرقام، حيث: «في البدء كان العدد»، وحيث يوردُ جهاد جملةً فاتحةً لاكتشافات تطوّر شعر بيضون، وتسليط النظر إلى قراءة عُمقِ تداخله بالعلم الذي يحاول كشف ماهية الزمن، ومسائل الاحتمالات في واقع الإنسان من وجهة نظرِ فيزياء الكم، وخلافِها مع مفهوم أينشتاين عن الزمن والواقع والوعي البشري لوجود عالمنا. كما يوردُ بدراسته لأثر أزمة كورونا على خيال بيضون الشعري جملةً تكشف عن التشابك بين معالجة الشاعر الخاصة للاحتمالات، وقول أينشتاين لعلماء الكم: «إن الله لا يلعبُ النرد مع الكون». يقول جهاد: «مراراً يَبرُز أثر الجائحة عبر هوس الأرقام… ويُحيل هذا الهوس بالعدد إلى رقمٍ مجهول، كما في لعبة النرد…». مثلما يشير إلى شغل بيضون على الثقوب السوداء في قميص الكون، بقوله: وهو أيضاً ثقب هائل ذو سجايا جنائزية: «هناك ذلك الثقب/ الذي ابتلع ما تبقّى/ جميع الذين تواروا/ أكاذيب تعبتْ وهي تنتظر أوان خروجها».
وربّما يكتشف القارئ تداخل بيضون مع رائد شعر احتمالاتٍ فاتح للخيال الشعري حول التداخل في فلسفتها هو الشاعر محمود درويش، بقصيدته «لاعب النرد»، وربّما قاده البحث في تجارب التداخل لدى هذين الشاعرين الرائدين كذلك، إلى التفكير في الواقعية والسوريالية ومفهوم الواقع والواقع الافتراضي الذي ينطلق بيضون في معالجته له من جملته التي يردّدها مكرّرةً في العديد من قصائده، بما يعكس «لو» الاحتمالات، بخصوصية: «كان يمكن أن…». مثلما يفعل كمثال في قصيدة «كأنْ لم يحصلْ شيءٌ»، من مجموعة «بطاقة لشخصين» الصادرة عام 2009، والتي يتداخل فيها الواقع بالشعر، (كما هو أسلوب بيضون)، مع استبدال الواقع بواقعٍ افتراضي في تيار ما يمكن تسميته بـ «نهاية الواقع». حيث: «الواقع يعاد كما هو إلى الصناديق/ حياةً غيرِ مستعمَلةٍ تُشحَن بدون أن تمس… قفزنا فوق المسألة… انتقلنا فقط إلى الفقرة التالية/ نفيٌ بسيطٌ غير ملحوظ أنهى الموضوع… حيطانٌ وكلمات/ لم نقرأْها، قِسْنا بها انفصالنا/ كانت فقط الذي لا يحصل وهو يسدّ كل الفراغات الممكنة/ الذي لا يحصل/ وهو لا يتقدم أو يتحرك/ إذ لا حاجة بعد إلى واقعٍ/ وما من مجال لأي خيالٍ على الإطلاق».
وربما شطح خيال القارئ إلى نظرية وجودنا في واقعٍ افتراضي أو في برنامج «الماتريكس»، كما يشطح بيضون في قصيدة «الحياة هربت»، حيث: «لن نكونَ أحياء تماماً/ سنكونُ مبنَّجين إلى الآخر ونطفو في الفضاء/ مع دببةِ القشّ والحقائق الرخيصة/ لن نذهب إلى أيّ مكان/ ستبقى الأشياء سليمةً كأنها غاطسة في الكحول».
ولكي يتأكّد شغل بيضون الإبداعي على الواقع، وتداخله بشطح العلم، للقارئ وللشعراء المهتمّين بمسائل الوجود، ويعيقُهمُ الخوف عن التوغل في أبعاد الكون أو أعماق أنفسهم، لاجتراح ما يجدّد الشعر، فإنّ بإمكانهم الذهاب مع بيضون في قصيدة «أبواب بيروتية/ دقيقة تأخير عن الواقع»، المصاغةُ بأسلوب المقطع أو القطعة، من مجموعة «ب ب بـ«: الصادرة عام 2007، ومتابعته لتغيّرات الواقع وتداخلات التغير مع الزمن ومع مفهوم الإنسان حولهما في مقاطع القصيدة الأربعة.
ويمكن للقارئ التمتع عند هذا بجمال الأرض وتناسق كائناتها من دون سؤال، كما فعل أينشتاين الذي بدا أنه استسلم لمفهوم أنّ الواقع هو من صنعِ وعينا، فقال كلمته الشهيرة: «أنا أحبّ الاعتقاد أنّ القمر موجود حتى لو لم أنظر إليه لكي أراه».
كما يمكنه التمتع والاستفادة من تجربة غنيّة ثرة في شعر قصيدة نثر ما بعد الحداثة هي قصيدة بيضون الذي قال عنه الشاعر الراحل أمجد ناصر إنه «»شاعر أثّر بشكل عميق في الشعرية العربية ابتداء من الربع الأخير من القرن العشرين، وأسهم في النقلة الكبيرة التي عرفتها الكتابة الشعرية العربية الحديثة. وأشك أن شاعراً من أبناء جيلي لا يدين لعباس بيضون بقسط من تطوره ووعيه الشعري».
ويبقى أن مجموعة مختارات «نقد الألم» تضمّ إلى جانب القراءات الأربع، قصائدَ لا تعدّ من عشرين مجموعةً، تريح القارئ وتختزل عليه طريق البحث عن مجموعات مهمّة ربّما وعلى الأغلب نفدت طبعاتُها، في الوقت الذي يحتاجه تجديد الشعر والتمتع به إليها.
عباس بيضون: «نقد الألم وقصائد أخرى»
دار راية للنشر، الشارقة 2023:
384 صفحة.