يتوج كتاب «نقد الشعر بين البلاغة والتحليل النفسي» للناقد حسن المودن، مسارا بحثيا طويلا، حاول من خلاله تطوير آليات قراءة النص الأدبي، انطلاقا من المنظور النفسي، منهج التحليل النفسي بشكل عام. وقد توزع هذا المسار بين نقد النصوص الأدبية وتطوير المفاهيم، والحفر في البلاغة بنوعيها القديم والجديد.
يستهل حسن المودن مبحثه النقدي بالإشكالية التي تؤطر لهذا الكتاب: هل يمكن أن نجمع بين البلاغة والتحليل النفسي؟ هذا السؤال الإشكالي قاد الكاتب إلى مجموعة من الافتراضات التي توزعت على سبع فصول، يكاد كل واحد منها يشكل فرعا من فروع الشجرة الإشكالية التي تحاول أن تبحث عن مظاهر العلاقة بين البلاغة، والتحليل النفسي.
يحاول الفصل الأول تبيين شروط وسياق ولادة النص الشعري من منظور البلاغة القديمة. وفي هذا الإطار، يسوق الباحث ثلاثة آراء لدى البلاغيين العرب؛ يستدرجنا من خلالها إلى مجموعة من نتائج تؤكد قابلية النص الشعري العربي لاستيعاب مفاهيم مستمدة من المناهج الحديثة، خاصة منهج التحليل النفسي وما يتفرع عنه، مثل علم التربية، أو علم النفس التكويني. هذا الاستدراج جاء بمثابة استنباط منهجي، ومبدأ حجاجي يبرهن على العلاقة بين البلاغة والتحليل النفسي. وبالتالي، يمكن أن نستنتج أن مؤلف الكتاب يسلك مسلكا حديثا في قراءة النص الشعري، محاولا تأصيل بعض المفاهيم النقدية المعاصرة. ولعل من بين المفاهيم النفسية والتربوية التي يمكن أن تربط الشعر بالبلاغة، هو ما سماه الباحث الكفاية النفسية الانفعالية، وهو ما يوازي مفهومي الطبع والصنعة في التراث النقدي العربي، فالطبع كفاية فطرية، والصنعة تحيل على الكفاية اللغوية والثقافية حسبما ذهب إليه الباحث. بناء عليه، يضع الكاتب عملية الإبداع الشعري بين مفهومين مركزيين في التحليل النفسي: الوعي واللاوعي. فالانتقال من الطبع إلى الصنع، يوازيه الانتقال من اللاوعي، باعتبار أن الإبداع الشعري في مرحلته الأولى وليد شعور باطني، إلى الوعي بالنص باعتباره يحيل على تمثل عقلي للنص.
يعيد حسن المودن اكتشاف مفاهيم التحليل النفسي من داخل البلاغة القديمة، بل إنه يذهب أبعد من ذلك حين يربط بين الإبداع الشعري، كما تصورته البلاغة القديمة، ومفهوم النقد التكويني الذي يذهب إلى التأكيد على تأثير المرحلة الزمنية لما قبل ولادة النص على ولادة النص الشعري. إن غاية حسن المودن انطلاقا من هذا المؤلف، هو بناء تصورات جديدة تساعد على قراءة النص من جهة، وبلوغ أهداف علم التربية. ومن ثم، تتفرع عن الغصن الإشكالي للكتاب، صياغة فرضية تتعلق بعلاقة التربية بالشعر. والهدف هو إعادة تأمل علاقة علم النفس بالشعر والشاعر، وتجاوز سلبيات منهجنا التربوي العربي في قراءة وتمثل وظيفة الشعر.
ولعل من بين المفاهيم النفسية والتربوية التي يمكن أن تربط الشعر بالبلاغة، هو ما سماه الباحث الكفاية النفسية الانفعالية، وهو ما يوازي مفهومي الطبع والصنعة في التراث النقدي العربي، فالطبع كفاية فطرية، والصنعة تحيل على الكفاية اللغوية والثقافية حسبما ذهب إليه الباحث.
في هذا الإطار، يستلهم حسن المودن انطلاقا من أفكار سيغموند فرويد فكرة علاقة الشعر باللعب، ليقارب من خلالها قصور المنهج المدرسي في العالم العربي، عن استجلاء أبعاد اللعب في تمثلاته وأبعاده الشعرية؛ ما قلل من أهمية ووظيفة الشعر، في سيرورة العملية التربوية يقول، «هل تأخذ النظريات البيداغوجية والمؤسسات التربوية هذا المعطى بعين الاعتبار: وهي أن الطفل شاعر يلعب وأن الشاعر طفل؟».
ينطلق الباحث من أجل الاستدلال على الفرضية الأصل، وما يتفرع عنها مثلما هو الأمر في ما يخص علاقة التناقض في الدرس الشعري التربوي، والقيم المدرسية. وتأسيسا عليه، يدعو الباحث إلى إعادة النظر في تمثل الشعر في كتب التربية، بما يضمن تجاوز التناقض بين قيم المدرسة، والقيم التي يمثلها الشعر بالاستناد إلى قراءة تستثمر آليات التحليل النفسي. فهذا الأخير، يعلمنا اكتشاف الشخصيات المتعددة، والجمع بين المتناقضات الذي يمكن إرجاعه من منظور التحليل النفسي إلى الصراع النفسي داخل شخصية الإنسان، ولذا، ينبغي للتربية على القيم أن تقوم على اكتشاف التعدد في شخصية الانسان حسب الباحث.
يستمر حسن المودن في الحفر في المفاتيح التي تقود إلى قراءة جديدة للشعر، يستمدها من التحليل النفسي. وهو ما سنعاينه في الفصل التالي في سياق تحليل ظاهرة الأتوبيوغرافي في الشعر. فحضور الأتوبيوغرافي حسب حسن المودن في الشعر، سواء كان قديما أو معاصرا، يفرض علينا إعادة النظر في تعريف، ومعايير الأتوبيوغرافي الذي طالما انحصر في حدود النثر، حسب دراسات فيليب لوجون. وانطلاقا من مقاربة مجموعة من النصوص وتحليلها بناء على مفاهيم التحليل النفسي؛ ينتهي حسن المودن إلى أن الأتوبيوغرافي لا يستحضر فقط الحياة، بل ينزع نحو تمثل الموت، ومن ثم، فكثيرا ما انزاح حضور الأتوبيوغرافي عن طابعه المنطقي المعروف في السرد، على صعيد تسلسل الوقائع ومطابقتها للواقع، والزمن والمطابقة بين المؤلف والأنا والسارد. «وبعبارة أوضح، فالذات الشعرية حسب الباحث لا تتحدث مباشرة عن أشياء العالم، بل هي تتحدث أساسا عن أصداء هذه الأشياء في دواخلها. وهذا ما يدفعنا إلى بناء ملفوظات غير واقعية غير حقيقية مجازية وتخييلية»، وهو ما أكده حسن المودن انطلاقا من تحليل نماذج الشعر الحديث. في هذا الإطار يخلص الباحث إلى أن حضور الذاتي يخضع لمجموعة من المقتضيات التي تقود إلى نحت مفاهيم تحليلية، مثل الأنا المجازي والأنا المتعدد، والمتخيل الأتوبيوغرافي فـ«قد يتخذ هذا الصوغ المجازي للأنا شكل حوار ولقاء بين أنا وآخر كأنما الأنا الأتوبيوغرافي لا يمكن أن تتأسس إلا من خلال الآخر».
إن أهمية دراسة حسن المودن تكمن في اكتشاف ملاءمة مفاهيم التحليل النفسي باعتبارها مفاتيح لاكتشاف، وقراءة النص العربي قديمه وحديثه، وهذا ما يتضح من خلال مقاربة تطبيقية لمجموعة من النصوص الشعرية لحسن نجمي، ياسين عدنان، أدونيس، عبد الله زريقة، أمل دنقل، وغيرهم كاشفا حضور الذاتي بصور متباينة، ما جعله ينتهي إلى أن حضور الأتوبيوغرافي مسكون بالفجوات والفراغ والفقدان عكس ما يمكن أن نلحظه في السرد..
وفي سياق القسم التطبيقي للمؤلف، يستمر حسن المودن في تتبع النصوص المعاصرة مستندا إلى تطورات المنهج النفسي بين جاك لاكان وشاييم بيرلمان. فيتوقف عند صورة البطريق ورمزيته في شعر مصطفى غلمان، التي تدعو إلى استعادة مفهوم الأمومة، كما نستشف من خلال علاقته بالبياض. وحسب حسن المودن فالمبدأ الأساسي في حياة البطريق هو الحب، وهذا ما يجعل الذات تستدعي الآخر. من هذا المنطلق، فحضور الذات يحيل على الازدواج والاختلاف وليس على التطابق، كما عهدنا في النص السردي.
ويختتم حسن المودن مؤلفه بالعودة إلى هاجس تأصيل مجموعة من المفاهيم البلاغية وعلاقتها بالذات من داخل حقل التحليل النفسي، وهو ما ينطبق على تمثل الاستعارة بين جاك لاكان وشاييم بيرلمان، فبالنسبة للاكان لا يمكن ان نناقش الاستعارة بعيدا عن الذات. وهذه الأخيرة هي ما يمثله دال بالنسبة لدال آخر على خلاف بيلمان الذي يركز على المدلول. ويسجل حسن المودن في هذا الإطار أن أنجيل مارتين أقامت جسرا بين لاكان وبيرلمان عبر البلاغي كينيت بورك. فإذا كان بيرلمان يركز على الجانب الاجتماعي في اللغة باعتبارها أداة للتواصل والتأثير، فإن بورك ينظر إلى الإقناع بوصفه يحدث التماهي. إن جسر التواصل الذي حاولت أنجيل مارتين تأسيسه بين لاكان وبيرلمان قاد مؤلف الكتاب إلى صياغة سؤال افتراضي: كيف يحدث أن اللغة لا تكون لها الفعالية القصوى، في علاقتها بالذات كما في علاقتها بالمجتمع، إلا عندما يحدث لها أن تقول شيئا من خلال قولها شيئا آخر؟
وخلاصة القول، إن كتاب ‹›نقد الشعر›› قدم مفاتيح منهجية جديدة لقراءة النص العربي على ضوء منهج التحليل النفسي، محاولا في الوقت ذاته، تأصيل بعض المفاهيم التي تمثل أساس البلاغة العربية القديمة، بغية تأسيس بلاغة جديدة للنص الشعري العربي.
كاتب مغربي
لطلاما آمنت بمدرسة التحليل النفسي في مجالها الاصلي، وهو علم النفس. لكن قراءتي المتواصلة لأعمال الناقد المغربي حسن المودن في مجال التحليل النفسي للأدب، جعلني اتأكد أن البناء العلمي لمشروع نقدي، بصرف النظر عن مرجعياته، ما من شأنه إلا أن يصل إلى خلق مفاهيم جديدة تغني الأصل وتتجاوزه.
كتابات الأستاذ المودن تحلق خارج السرب، وهذا جدير بالمتابعة والنقد.
شكرا.