ربما لا يختلف اثنان على قيمة العقلانية، أو العقل في تحقيق مبتغى الإنسان في سائر شؤون حياته، ذلك أن توظيف القيم العقلانية للإنسان عامة، والمثقف خاصة يعدّ جزءاً من إدراك للأفعال والتوابع، ولطالما أُخذ على الشرق فقدانه للعقلانية، وتغليب العاطفة نتيجة تصورات استشراقية مغلوطة، لكن هذا التمايز بين العقل والعاطفة هو جزء من تكوين الإنسان، بيد أنّ قيمة التعاطي مع هذين المكونين يبقى إشكالياً، من مبدأ أن لديه عوامل تتبع مرجعيات متعددة، تتصل بمعطيات ثقافية وحضارية، ولا يمكن أن نتوافق على مقولة النموذج العرقي، الذي ابتكرته المخيلة الغربية الاستشراقية، لكن هل يمكن أن تنطوي بعض القيم العقلانية على الضعف؟ لاسيما أن أفعال المغامرة قد تعدّ أمراً غير مرغوب فيه، لكنْ ثمة سؤال مركزي طرحه الفلاسفة، ويتصل بالتقاطع بين العقلاني والأخلاق، فهل يمكن أن نتقبل حكمة العقل، ونقدمها على المبدأ الأخلاقي؟
يأتي هذا السؤال في سياق من يدّعي أنه يفكر بعقلانية، خاصة من لدن بعض المثقفين أو من الذين يدعون التعاطي مع الثقافة؛ من منطلق أنهم يمثلون قيما عقلانية، فينظرون إلى أن فكرة المقاومة ليست جزءاً من التمثلات العقلانية، غير أنه بغض النظر عن فعل المحاججة تجاه هذا الموضوع، غير أنّ السؤال يتعلق بمسألة أن من ينتقد فعل المقاومة، أو ينتقدها، بداعي أن السياقات ليست مواتية، ومع ذلك يمكن تقبل ذلك تجاوزاً، غير أن ما لا يمكن أن يتقبله العقل (كما الأخلاق) أن يرتهن تفكير أصحاب هذه العقول للتوجه إلى محاكمة الضحية، وتجاهل نقد الجلاد، فثمة من تبنى هذا الموقف متناسياً أن الحقيقة لما يشهده العالم من إبادة جماعية يتصل في المقام الأول بانحسار الموقف الأخلاقي، ومن ثم ينبغي تحديد مدى عقلانية الحالة.
في ظل وجود إبادة جماعية فإن الموقف الأخلاقي يتعالى على بعض تحليلات المثقفين الجوفاء، التي ما هي – في الحقيقة- إلا نتاج تهويمات أيديولوجية، أو تحيزات طائفية شعبوية، لا تعكس إلا ضحالة في التفكير، مع عدم القدرة على فهم المعنى الحقيقي لما يجري الآن في فلسطين، فعندما يطفو الدم، ويفيض، فإن المواقف ينبغي أن تنطلق من توجهات إنسانية في المقام الأول، بداعي العدالة الكونية بوصفها أولوية، ومنطلق هذا أن الموقف العقلاني يخضع للكثير من النقد ضمن التأطيرات الفلسفية التي تبرز هشاشة بعض الأفكار كما يوضح فولتير في بعض نماذجه، ولاسيما بيان أن قيمة العقل قد تكون منحرفة عن إدراك المعنى الحقيقي، وهنا يبحث فولتير في العلاقة بين المبدأ الصحيح والاستنتاج الخطأ، أو العكس؛ فيضرب لنا مثل خادم يصرح بوجود سيده في البيت لمجموعة من الأشخاص ترغب في اغتيال سيده.. من مبدأ أن الكذب سلوك خاطئ، أو أن يقضي قاضٍ بإدانة شخص قتل شخصاً أراد اغتياله.. لأن قتل النفس حرام.
قد تبدو هذه الأفكار جزءاً من معضلة العقل، أو بمعنى آخر قدرة البعض على ادعاء العقلانية في قياسات زائفة، أو كما أطلق عليه فولتير «العقل الزائف» وهنا يبدو هذا المصطلح جلي الدلالة، إذ ليس كل عقل يمتلك القدرة على أن يكون حقيقياً، وفي واقع البعض فإن هذا ينسحب بصورة واضحة لا يمكن أن نطعن فيها، فالادعاء بالعقلانية المنحرفة لا ينتج إلا عن عقل مختل لم يتمكن من تطوير المعنى الحقيقي للعقل، فضلاً عن نقص في الأخلاق، فمحاولة البعض النيل من مشروعية المقاومة ليس سوى دلالة تجاهل الحقيقة، وعلى الرغم من ذلك فيمكن تفهم عواقب الفعل، كما مقولة إن من يعيش الواقع يختلف عمن يراه من بعيد، ويراقب، بيد أنه في مرحلة ما، ولاسيما حين تصبح الجريمة ماثلة للقريب والبعيد فإن المنطق والعقل قد يقضي بالنظر إلى الحقائق أو المبادئ لا المظاهر، فجريمة بهذا الحجم بحق شعب حُوصر لعقود، وتعرض لظلم تاريخي.. لا يتطلب أن تقوم بتنظير عقلي زائف، إنما ينبغي أن يُنظر إليه من خلال تقييم أخلاقي، ويمكن أن ننظر في التاريخ لنرى أن معضلة العقل كانت جزءاً من فيوض بحثية تهدف إلى أن العقل لا يمكن أن يعول عليه بالمطلق، فثمة في العقل أو بعض أحكامه ما يتعارض مع القيم الأخلاقية، كما أفاض الفيلسوف إيمانويل كانط في نقده للعقل.
لقد كان كانط من أشد الفلاسفة الذين بحثوا في ثنائية العقلي والأخلاقي، فقد كان يرى أنّ وجود نظرية للأخلاق ينبغي لها أن تركز على مبدأ «الواجب» مؤكدًا أن الأخلاقيات يجب أن تستند إلى المبادئ العقلانية، التي يمكن تطبيقها بشكل عالمي عادل، وليس فقط على النتائج أو العواقب، أو الاجتزاءات المحدودة، فما يقوم به الكيان الصهيوني يعدّ جريمة ضمن تواطؤ غربي وعربي، والأخير يتواطأ بدافع البحث عن عقلانية المصلحة الخاصة لدى البعض، التي تنمّ عن قصور عقلي، فالتضحيات، وحجم الضحايا لا يبرران أن نتجاهل حقيقة الاحتلال الذي لم يتوقف يوماً.. إنما كان حاضراً كل يوم منذ أكثر من سبعة عقود، ويعمل على تصفية الشعب الفلسطيني، غير أن الفارق – الآن- يتحدد بالإيقاع الذي بات أسرع، وأكثر وحشية، فقد كان في الماضي يمارس دون أن ينتبه أصحاب العقول.
إن العقل من وجهة نظر كانط، يعني القدرة على التصرف وفقاً للمبادئ التي يمكن تعميمها، وبذلك فإن الحرية التي يتمتع بها البعض ليست حكراً على البعض، وإنما يجب أن تكون حقاً مشروعاً للكل، بما في ذلك حق المقاومة، كما لا يمكن أن تصادر حق الآخرين بالحرية تبعاً لمنطلقات أو حسابات عقلية لا تنطلق من مبادئ شمولية، وبذلك يمكن القول إنه في ظل معضلة العقلانية والأخلاق، يعدّ تنظير إيمانويل كانط نقطة محورية في فهم هذا التعارض، فالأخلاق – حقيقة – يجب أن تستند إلى المبادئ العقلانية التي يمكن تطبيقها، دون تحيّز أو قصور في فهم الأبعاد الكامنة خلف أي مسألة، كما ينبغي تقديم مفهوم الواجب نحو نظرية أخلاقية متماسكة وشاملة، خاصة في سياق النزاعات، وطغيان الظلم، كما هو الحال في فلسطين، وهنا يجب تطوير العقلانية كي تتساوق مع القيم الأخلاقية الإنسانية. وبذلك نخلص إلى أنه كيف يمكن للعقلانية أن تكون مضللة عندما تستخدم لتجاوز الممارسات غير الأخلاقية، ما يدعونا إلى إعادة تقييم دور الأخلاق في توجيه السلوك الإنساني، وهنا نستذكر آراء الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في كتابه «الذات عينها كآخر» حين ناقش فكرة التفاعل بين الذات والآخر، وكيف أن العقلانية الأخلاقية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار تجارب الآخرين، ومعاناتهم من خلال هذا التفاعل، وبذلك تصبح الأخلاق مرتبطة بإعادة صياغة الذات من خلال فهم الآخرين، وهو ما يتجاوز أي حسابات عقلانية صارمة.
كاتب أردني فلسطيني
ان القتل والدمار الذي لحق بقطاع غزة ومثله الان نبتهل الى الله نجاة اللبنانيين منه ، ان كل هذا اماط اللثام عن وابان الفهم المغلوط لمعظم معطيات ودلالات نظرية العلوم الاجتماعية الحديثة ، ان لم يكن كلها . لا يجوز انتقاء مقوله ما لكانط او غيره من سياقها قم اسقاطها على الحالة الفلسطينية المعقدة بكل هذه البساطة .