من خلال نصوص مختارة للشاعر العراقي عارف الساعدي، يمكن اكتشاف تساؤلات دائمة تسعى إلى هدم الثوابت، والمسلمات، وإعادة بنائها وتكوينها برؤية جديدة، ومنظور مختلف. تساؤلات كهذه لا تأتي من العدم، فالساعدي يسعى من خلال نصوصه جاهدا لتغيير الماضي، وقلب الحقائق، وتوثيق ما تم تهميشه، وتعرية الجانب المعتم من التاريخ الكامن في السلطة الدينية والسياسية، في محاولة للهروب من عبئه الجاثم على روحه وواقعه. فالساعدي هو أحد أفراد جيل عراقي عاصر حربين واحتلالا، وعانى الأمرَّين من العنصرية الطائفية والدينية التي كانت وما زالت رحاها تطحن العراق منذ عشرات السنين. ما حدا به كشاعر، ومن خلال ترسبات نفسية ومجتمعية إلى محاولة السفر عبر الكلمات إلى الماضي، الذي يعتبره مسؤولا عن كل هذه الأحداث التي تؤرق واقعه وتهدد أمن وسلامة الإنسان فيه، محاولا نقضه وتغييره.
شكّل النص القرآني والموروث الديني رافدا رئيسيا في أغلب نصوص الساعدي، وقد استفاد الشاعر من توظيفها في قصيدته
الموروث الديني
شكّل النص القرآني والموروث الديني رافدا رئيسيا في أغلب نصوص الساعدي، وقد استفاد الشاعر من توظيفها في قصيدته، فجاءت نصوصه متناصة مع، ومقتبسة من النص القرآني، كما اكتسبت مزية ثنائية التجلي والغموض، وقابلية التأويل على عدة أوجه عند المتلقي، وإذا أخذنا نماذج من بعض قصائد الساعدي حسب ترتيبها زمنيا مثل: «الطوفان، مدونة إعرابي، قتيل الخضر»، نجد أن الشاعر استخدم ما يطلق عليه النقاد «تقنية القناع» التي يستخدمها كثير من الشعراء المعاصرين لأسباب سياسية أو اجتماعية أو غيرها. حيث يستحضر من خلالها قصصا وشخصيات من النص القرآني، أو الموروث الديني، استحضارا يجيء واصفا واقع الشاعر، ومعبرا عنه، بشخصية أخرى وصوت آخر، هادئ لا يعلو ضجيج صوته في القصيدة، ويتجنب المباشرة الفجة في طرح القضايا والرؤى، وطنية كانت أم اجتماعية أم سياسية.
يقول الساعدي في قصيدته «الطوفان»، على لسان ابن نوح عليه السلام الذي يعاتب والده على تركه في الطوفان وحيدا قائلا:
أنا صغيرك أقنعني وخذ بيدي
أم أنت بالموت والطوفان مقتنع؟
الماء يأكل أحداقي وتُبصرني
كيف استرحت وعيني ملؤها هلع؟
ثم يواصل متسائلا عن جدوى الطوفان، الذي لم يبتلع الشر من وجه الأرض، الشر الذي ظل متجددا إلى الآن، في إشارة رمزية إلى بقاء الحروب والضغائن والفتن كمتلازمة مع البشرية:
ماذا صنعتَ وهذي الناس ثانيةً
من كل ليلٍ إلى سوءاتهم رجعوا
صاغوا ملامحَ موتٍ لا يليق بنا
وحزمة من مناف فوقنا وضعوا
لأجل من أنت يا مولاي ترفضني؟
لأجلهم؟ أكلوا الدنيا وما شبعوا
وها هم زرعوا الأنهار خيطَ دمٍ
وكم حصدناه في صمت وكم زرعوا
ماذا صنعتَ إذن مولاي؟ معذرةً
كُلِّي سؤالٌ وشكِّي كله بُقعُ!
وفي قصيدته « مدونة أعرابي»، يحكي الساعدي قائلا:
لم نكن نعرف الله إلا قليلا
ولم نك نعرف أن الإله الذي وحدته القبائل شتتها بعد حين
لم أكن بعد أسلمت إلا قليلا
فما زال الإله الذي كنت أعبده في ضلوعي
أشكله مثلما أشتهي وأدس بأسراره خمرتي ودموعي
لم يكن غاضبا حين أسكر أو شاكيا حين أغضب منه
فهو رب بسيط خجول
لا يكلف أبناءه رهقا في عبادته
والذات الشاعرة من خلال هذا النص تراوح بين الزمن الذي سبق وجود الآلهة، وهذا الإله الذي يصوره الفكر الراديكالي المتشدد، في مقارنة تثير فضول القارئ على لسان إعرابي بسيط، يرمز غالبا إلى ضحايا الفكر الديني المتشدد عبر العصور، من البسطاء والعامة وضحايا الحروب الدينية والطائفية، ويعتبر نفسه منهم.
والساعدي لا يبحث في النصوص الدينية والموروثات ويستحضرها في نصوصه لمجرد إضفاء بعد أسطوري على قصيدته، بل إنه يوظف هذا الاستحضار في التأسيس لحاضر جديد، لا يتأتي إلا بهدم الماضي المعتم هدما كاملا شاملا. وفي قصيدته «قتيل الخضر» التي كتبها على لسان الغلام الذي قتله «العبد الصالح» المذكور في سورة الكهف يناجي الغلام/ الشاعر ربه قائلا:
«أنا تائهٌ يا إلهي
لماذا بعثتَ العجوز ليقتلَني
كان يكفي بأنْ توقظَ النهرَ ليلاً
وتسحبَني نحوه بخطىً باردة
كان يكفي بأنْ تأمرَ النهرَ
يشربنُي دفعةً واحدة»
هنا لا يثير الساعدي التساؤلات بحثا لتفسير جديد لمعنى الآيات، وإنما يعيد بناء القصة القرآنية على المستوى الشعري الرمزي، بمعنى أن الحديث عن تقديم معنى جديد للآيات لا مكان له هنا، ولكن شعرية هذا النفي والهدم الفني الذي تمارسه فتنة السؤال الشعري تشكل مدخلا لقلق السؤال عند الشاعر، مرتبط بإثارة السؤال الشعري من خلال تقنية القناع، والتناص التي تهدم فنيا من أجل بناء الرؤية الشعرية باستثمار المرجعية الدينية وإعادة خلقها شعريا. ولا يتوقف نفي المسلمات عند حدود الموروث الديني لدى الساعدي، بل يتجاوزه إلى نفي التسليم بالوطن كمكان يجب أن يليق بممارسة إنسانية متحررة من قيود التاريخ والموروثات التي لم تنجب سوى الموت والدماء، حين يقول:
«إذن سأغادر هذي البلاد
فلا تزعلوا أيها الأصدقاء
لنصنع منا بلاداً بلا رافدين
بلا نفط، لا أولياء، ولا أضرحة
ونحرق تاريخ كل البلاد
فتاريخها مولغ بالدماء مع الأسئلة
وكأن الشاعر يرى أن الخلاص يكمن في التحرر من أعباء كل ما كان سببا في التعلق بهذا الوطن، والانعتاق من الماضي، وأوجاعه، هروبا نحو وطن بين تفاعيل قصيدته، حدوده الإنسانية، وسماؤه الحرية، وهنا تحضرنا مقولة نيكوس كازانتزاكي:
تخلصت من الوطن
تخلصت من الكاهن
تخلصت من الماء
أنا أغربل نفسي
كلما تقدم بي العمر غربلتها أكثر
إنني أتطهر
أتحرر
أصبح إنسانا!
من الذات إلى الهَم العام
وكلما تقادمت تجربة الشاعر، تحررت من الهم الذاتي وحلقت نحو الهم العام، نحو الغربلة التي يتحدث عنها كازانتزاكي في نصه أعلاه، ونحو رؤى جديدة للحياة لا تقف على ركائز ماض مُدمر ومشوه. ونصوص الساعدي وإن اشتملت على تصوُّرات وأخيلة نسجها خيال الشاعر، وأضفى من خلالها بعدا مسرحيا حواريا للأسطورة الدينية، فإنها اشتملت أيضًا على نفي واضح لمسلمات وحقائق، نفي يتجلى مثيرا للتساؤلات، معلنا فتح أبواب جديدة لدخول إجابات مقنعة. يذكر أن عارف الساعدي من مواليد بغداد عام 1975. حاصل على الدكتوراه في الأدب العربي الحديث ونقده، ويعمل أستاذا للأدب والنقد في الجامعة المستنصرية. صدرت له ستة دواوين شعرية أهمها: «مدونات، جرة أسئلة، عمره الماء، ورحلة بلا لون». كما أصدر عدة كتب في النقد الشعري منها: لغة النقد الحديث/من السياقية إلى النصية عام 2014، ومسارات المعرفة الأدبية، إضافة إلى مشاركته في العديد من المهرجانات العراقية والعربية.