نهاية قصة الحب الأمريكية مع الشرق الأوسط وأهله

لست أدري هل سيكون تراجع اهتمام الإدارة الأمريكية بالمنطقة العربية وهمومها نقمة أم نعمة. الزمن كفيل بالإجابة، لكن الحقيقة التي نتجه إليها هي أن ترتيب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج سيتراجع في قائمة أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة. العلاقة «الخاصة» بين الطرفين تتجه إلى زوال، أو على الأقل إلى تغيير.
هناك عدة ظروف وأسباب ستقود إلى هذا الواقع الجديد. تتقاطع هذه الظروف، فبعضها مرتبط بالدول العربية، وبعضها الآخر لا علاقة للعرب بها ولا تأثير لهم فيها.
بدأ الاهتمام الأمريكي بالمنطقة العربية في النصف الأول من القرن الماضي. لكنه تكرَّس مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وارتبط بدايةً بعنوانين أساسيين: النفط وإسرائيل. ثم تضاعف هذا الاهتمام في نهاية القرن الماضي بظهور متغيّرات أخرى لا تقل أهمية: إيران وطموحاتها العسكرية والاستراتيجية، والإسلام السياسي وتغلغله في الشارع، ثم تحوّل بعض مكوناته إلى ممارسة العنف والإرهاب العابر للحدود.
جعلت أمريكا، بمختلف إداراتها، للنفط عنوانا واحدا هو السعودية وإبقاء الإنتاج والأسعار تحت السيطرة. وجعلت لإسرائيل عنوانا واحدا أيضا هو الأمن والتفوق التقني والعسكري مهما كلّف الأمر.
سارت الأمور مع السعودية وإسرائيل كما اُريد لها عدا بعض الصدمات القليلة المفاجئة مثل حرب 1973 والمتغيرات الجغرافية والاستراتيجية التي ترتبت عنها، إضافة إلى أزمة النفط التي أعقبتها.
مع إيران كان واضحا منذ اليوم الأول أن الأمور تتجه نحو الحرب. كانت مسألة وقت فقط. صحيح أنها لم تكن حربا (بل حروبا) مباشرة بين أمريكا وإيران، لكنها كانت حاضرة على الدوام، ولا تزال، بالوكالة في أكثر من مسرح إقليمي. وهذا أتعب أمريكا وإيران معًا.
مع الإسلام السياسي ومكوناته، مرّت علاقة أمريكا بمرحلتين. الأولى يمكن اعتبارها مرحلة التبنّي عندما استعمل الأمريكيون شبانا عربا ومسلمين ذخيرة في حربهم الدموية ضد الجيش السوفييتي في أفغانستان. المرحلة الثانية يمكن اعتبارها مرحلة العداء، وبدأت مع انتهاء الاحتلال السوفييتي لأفغانستان وبقاء آلاف المقاتلين المسلمين في أفغانستان بلا عدو وبلا سبب وجيه للاستمرار هناك إلا كون حكوماتهم لا تريدهم. عاد بعضهم إلى أوطانهم، وهامَ آخرون على وجوههم في الدول والقارات بينما حوّلت فئة ثالثة البنادق نحو «راعي الأمس» أمريكا.
مع حلول الألفية الجديدة فرضت متغيرات جديدة نفسها على الجميع. تغيّرت المصالح ومعها العداوات والتحالفات. النفط في تراجع، أهميةً وقيمةً.. الآبار إلى نضوب والاقتصادات الغربية أوجدت لنفسها بدائل أقل كلفة وأكثر فائدة.
إسرائيل في الطريق إلى أن تصبح جارًا طبيعيا في محيطها. قريبا ستصبح جزءا أساسيا من النسيج السياسي والاستراتيجي للمنطقة. نجاح أمريكا في إقناع العرب بأن إيران هي عدوهم الحقيقي أدى إلى موجة تطبيع مع إسرائيل غير مسبوقة ستكون لها تبعات إقليمية كبرى.

ترتيب منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والخليج سيتراجع في قائمة أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة. العلاقة «الخاصة» بين الطرفين تتجه إلى زوال، أو على الأقل إلى تغيير

إيران يجري العمل على تحييدها أو تركيعها. الأمر متوقف عليها وكيف تدير أمورها مع الآخرين. القوة المؤذية هنا ليست العرب بل إسرائيل التي ستبقى شوكة في خاصرة إيران تلحق بها الأذى كلما دعت الحاجة.
الإسلام السياسي نجحت أمريكا في تحويله إلى قضية محلية لكل دولة. تحرص أمريكا، وستحرص، أكثر على توفير المساعدة اللوجستية والخبرات والمشورة، مع إشراف عن بُعد طالما بقي الإرهاب محليا وضحاياه غير أمريكيين.. مرة عراقيون، مرة أفغان، مرة صوماليون، مرة مصريون.. إلخ. واقع الحال أن أمريكا تخشى اليوم الإرهاب المحلي الذي ينمو في مجتمعها أكثر مما تخشى الإرهاب القادم إليها من العراق أو أفغانستان، والذي عجز عن الوصول إلى الأراضي الأمريكية في العقد الأخير على الأقل بينما عاث قتلا وسفكا للدماء في كل أوروبا.
في مقابل هذه المتغيّرات الاستراتيجية التي تشبه بداية انطفاء الأضواء على هذا الجزء من الكرة الأرضية، كانت مناطق أخرى من العالم تنهض بشكل سريع ولافت يزعج أمريكا ويهدد مصالحها.
روسيا ومنطقة جنوب شرق آسيا بالذات، خصوصا الصين وشبه الجزيرة الكورية، أصبحت تشكل صداعا يؤرق القادة العسكريين والسياسيين في واشنطن.
مشكلة الولايات المتحدة مع «الأعداء» الجدد، باستثناء كوريا الشمالية، أنهم يقارعونها بعيدا عن أراضيهم مثلما قارعت هي الآخرين، وطيلة أكثر من ستة عقود، بعيدا عن أراضيها. سلاحهم يوازي سلاحها ويتفوق عليه أحيانا.
متاعب أمريكا اليوم مع الصين مسرحها العالم كله تقريبا، بما في ذلك أمريكا ذاتها، إلا الصين. وكذلك الحال مع روسيا التي أصبحت لها في عهد فلاديمير بوتين اليد العليا في إدارة العلاقة مع أمريكا، ونجحت هي الأخرى في نقل بعض حلقات من الصراع إلى الأرض الأمريكية حتى باتت جزءا من وقائع داخلية (انتخابات الرئاسة في 2016 و2021).
وبينما وجدت الولايات المتحدة في الصين وروسيا أعداء من طرازها وحجمها يخوضون معها نزاعات استراتيجية وحروبا إلكترونية جد معقدة ومتطورة، يبدو الأمر مع دول الشرق الأوسط مثل لعب هواة متخلفين عديمي الخبرة وبلا أدوات مواجهة عدا المال الذي لا يكفي وحده.
ولا علاقة للمسألة ببايدن أو أي اسم آخر. الاعتقاد في مراكز صنع القرار الأمريكي الآن هو أن منطقة شرق آسيا هي المشكلة وهي الحل. هي الخير إذا استتبت الأمور وسارت نحو التعايش. وهي الشر إذا عمَّ الخصام واستفحل العداء. وفي المقابل، أصبح الشرق الأوسط أقل أهمية وأقل خطورة وأقل إغراءً.
لهذا سيكون من الخطأ الاعتقاد أن الإدارة الجديدة بقيادة جو بايدن ستجتثُّ التركة الدبلوماسية التي خلّفتها إدارة دونالد ترامب.
عدا ما يتعلق بعناوين العولمة مثل التجارة مع أوروبا وقضايا المناخ، لا خلاف في العمق بين ترامب وبايدن في الرؤية على الصين وإلى كوريا الشمالية وإسرائيل. هناك فرق سطحي يكمن في الطريقة والشكل: ترامب مدفوع بـ«أناه» المتضخم ومفتون بشخصنة كل شيء، بينما بايدن أكثر هدوءا ورصانة وميلا للعمل ضمن الماكينة المؤسساتية التقليدية.

كاتب صحافي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الصوفي الجزائر:

    واين موقع تركيا من الاعراب

  2. يقول Ahmed HANAFI اسبانيا:

    صدق الكاتب العزيز القول: ” إسرائيل تسير إلى أن تصبح جارا طبيعيا في محيطها ( العربي)”.
    بالفعل إسرائيل لا يمكن أن تعيش إلى الأبد ضدا على جيرانها. لذلك اجتهدت إدارة اترامب في توسيع دائرة التطبيع مع الدول العربية والتزمت إدارة بايدن بالبناء على ما تحقق بهذا الخصوص.

  3. يقول بشير/من الصحراء الغربية:

    سلم فكرك ولاجف قلمك، الاستاذ القدير: توفيق رباحي. تحليل في قمة الرصانة والدقة.

  4. يقول بشير الصحراوي:

    تحليل في الصميم.

  5. يقول صالح/ الجزائر:

    متى كانت هناك نهاية قصة حب أمريكية مع الشرق الأوسط وأهله ليجري الحديث اليوم عن نهايتها ؟ . من الصواب الكلام عن الغرام لنفط الشرق الأوسط عامة والخليجي منه خاصة والسعودي أخص وأخص ، مقابل حماية الملكيات وعروشها .
    اتفاق كوينسي (Quincy Pact) ، في 14 فبراير 1945، بين مؤسس المملكة العربية السعودية ، الملك عبد العزيز آل سعود ، والرئيس الأمريكي ، فرانكلين روزفلت ، يؤكد على “ضمان الحماية العسكرية للنظام الملكي السعودي مقابل الحصول على النفط” ، بل ويدقق أكثر بأن “استقرار المملكة العربية السعودية هو جزء من ‘‘المصالح الحيوية’’ للولايات المتحدة ، التي تضمن الحماية غير المشروطة لعائلة آل سعود وكذلك حماية المملكة ضد أي تهديد خارجي محتمل” .
    لكن لماذا كل هذا “الحب العفيف” ، لآل سعود وعرشهم ؟ .
    لأنه في مقابله فإن العائلة المالكة “تضمن معظم إمدادات الطاقة الأمريكية ، … ، وتتمتع أرامكو باحتكار استغلال جميع حقول النفط في المملكة لمدة ستين عامًا على الأقل” .

  6. يقول صالح/ الجزائر:

    تابع- أظن أن الشرق الأوسط تلاعبت به “بريطانيا العظمى” ، قبل أن تفقد عنفوانها وتسلمه لأمريكا ، أو تنتزعه منها هذه الأخيرة . يبدو أن أمريكا بدأت تفقد عظمتها وجبروتها أو امبرياليتها على العالم وبدأت تخطط لتسليم الشرق الأوسط ، الذي لم يستطع أن يكون كبيرا ، إلى عشيقتها إسرائيل ، أو عشيقها الكيان الصهيوني الذي يستولي عليها . لكن لماذا ؟ .
    لأن أمريكا لا بد أنها مقبلة على ما أصيب به الاتحاد السوفييتي السابق .

  7. يقول احمد الشمري:

    امريكا لم تذهب للشرق الاوسط من اجل السعوديين او غيرهم بل ذهبت من اجل النفط الذي تسرقه والتي لا تستطيع البقاء بدونه شاء من شاء بأي تصريح يب انها لا تستطيغ البقاء حتى بدون نفط الحوثي وايران والتفط المهرب من شمال العراق وسوريا

اشترك في قائمتنا البريدية