نوفيلا «الشطرنج»: إلى أقصى ما توصل إليه اللعبة – الحرب

حجم الخط
0

وقائع الكتيّب الصغير «الشطرنج» تجري على متن سفينة تبحر من نيويورك إلى بوينس آيرس. ربما كان الكاتب واحدا من المسافرين، في تلك الرحلة ذاتها أو في رحلة سواها فهو قام بتلك الرحلة مهاجرا في أواخر حياته. على متن الباخرة إذن حيث إن ما يرويه في النوفيلا يمكن أن يُنقل إلى أيّ مكان عام مزدحم. لا مشاهد عن البحر هنا، ولا تفاصيل تخصّ السفينة، على غرار ما قرأناه في كتب الإبحار الأخرى، ثم إن ما يمتعنا به الكاتب شتيفان تسفايج، إضافة إلى روائيّته، هو محض بناء عقلي قائم على التصوّر. فالرجلان، بطلا الرواية يمكن أن يكونا مصنوعين صناعة في مخيّلته، حتى إن كان أحدهما، كما في الكتاب، بطل العالم بلعبة الشطرنج. أما الثاني، واسمه المختصر «السيّد. ب». ذاك أن كلا منهما أقرب إلى أن يكون حالة مرضية علم نفسية منه إلى شخصية تامة التكوين والتفاصيل. أما الرقعة التي تجري تفاصيل المبارزة بينهما على مربّعاتها فهي ميدان النزاع، أكثر بكثير من الباخرة وما يجري على سطحها وفي أنحائها.
اللاعب الأول، بطل العالم، بدأ النوفيلا به صبيا فقيرا تولّى تربيته راعي الكنيسة بعد تخلّي أهله عنه. كان الطفل قليل الدراية بكل شيء، لا يمكن الاعتماد عليه إلا بتلك الأمور التي لا تتطلّب أي جهد عقلي، وليس لديه أيّ حسّ بالمبادرة. وكان راعيه يضيق به على الدوام. فجأة، ظهر شيء من الصبي دلّ على موهبة كامنة يصعب وجودها في أكثر العقول ذكاء. وقد تجلّى ذلك بقدرته على هزيمته لملاعبه، شريك الكاهن في اللعب، من دون أن يكون قد أمسك بيدقا من قبل. ثم استمر هذا الصبيّ بإلحاق الهزائم بمن يلاعبهم، حتى تمكّن، وهو بعد في عمر الشباب الأول، من حيازة بطولة العالم بتلك اللعبة. كان تناول هذا الضرب من المرض العقلي والكفاءة المعجزة في حقل ما غير معروف بين قرّاء ذاك الزمن، وكذلك بين مشاهديه الذين تأخر عنهم في «رجل المطر» الذي أدّى بطولته داستن هوفمان. (كانت نوفيلا «الشطرنج» قد نشرت في 1942، وذلك بعد أشهر من إقدام مؤلّفها على الانتحار).

اللاعب الثاني، السيّد. ب، كان يتفرّج على جولة لعب جارية بين بطل العالم وأحد ركاب الباخرة الأثرياء فتدخل، من موقع المتفرّج، ليحول دون أن يرتكب هذا الأخير نقلة كانت ستعني خسارته المحقّقة. وهكذا تحوّل السيد. ب إلى البطل الثاني للرواية الصغيرة، بل إلى الشخصية الأكثر أهمية فيها، إذ بدا أن لديه تاريخا شخصيا يرويه بنفسه، إلى جانب الراوي الآخر، الذي هو الكاتب نفسه. فالرجل المتفرّج ذاك يروي عن عمله واعتقاله من قبل الشرطة السرية النازية وهو حُبس في غرفة مؤثثة، تمييزا له وذلك لظن معتقِليه أن لديه معلومات سيكشف عنها. كان مكان اعتقاله غرفة فندق مقفلة تطل على مشهد مقفل، وكان ممنوعا عن أي كلام، نطقا أو سماعا، من المسؤولين عن سَجنه. عزلة تامة حطّمت أعصابه . لكنه، وهو في هذه الحال، سرق من معطف ضابط كان يستجوبه كتيّبا يحتوي على وصف تفصيلي لألعاب الشطرنج، فقرأه مرارا كثيرة، ثم راح يتخيل رقعا وحجارة ينقّلها، ثم، في مرحلة ثالثة، صنع تلك الحجارة من فتات العجين، وراح يلعب ضدّ نفسه بعد أن كان قبل ذلك يلعب على رقعة مفترضة قائمة في الرأس. ببراعة ومعرفة نادرتين يصف الكاتب معضلة أن يلعب رجل الشطرنج ضد نفسه، إذا كان شخص واحد يلعب بالأبيض والأسود معا، نكون أمام وضع شاذّ، «إن ذهنا واحدا ينبغي أن يعرف شيئا ينبغي له أن لا يعرفه مثل هذا التفكير المزدوج يفترض انقساما كاملا في الوعي، ما يعني وميضا وانطفاء في عمل المخ».

احتلّ «السيد. ب» الجزء الأكبر من التحليل والإبداع اللذين يؤلفان كتاب الشطرنج. ذاك أنه الشخصية التي تلتقي فيها السياسة بالتاريخ والمرض النفسي، ما يترك الآخر، بطل العالم، شخصية صمّاء بلا أبعاد. وإذ يُستأنف الروي فذلك لتتابع التحولات التي راحت تجري في وعي السيّد . ب وحواسه، كما في عقله. لكن، إضافة إلى إلمام تسفايج بالعلم النفسي، هناك متابعته ومعرفته بذلك العلم، وحصره بلعبة الشطرنج. ولنقف قليلا عند وصف تسفايج لتلك «اللعبة» التي يرى أن في تسميتها كذلك حطّا من شأن الشطرنج الذي هو بحسبه: «رابطة فريدة، وجديد أبدا، قوانينه جامعة لكل الأضداد. عتيق كالأزل، قوانينه آلية ومع ذلك لا يُبلغ تأثيره إلا عبر الخيال، محدود في فضاء هندسي جامد، ومع ذلك غير محدود في تنويعاته، متطوّر دائما ومع ذلك عقلاني بارد، إنه تفكير لا يقود إلى شيء، علم رياضي لا يحسب شيئا، فنّ من دون أعمال فنيّة، هندسة معمارية من دون مادّة، إلخ».
ولنتخيّل أن أغلب ما سيرد في النوفيلا من أوصاف وأحداث ستظل عند ذلك المستوى من المعرفة والإبداع وجموح التخيّل. ربما لذلك لقيت، رغم قلة عدد صفحاتها ، ذاك الاهتمام بين نقاد العالم وكتّأبه في كل اللغات التي ترجم إليها. وقد أشار تعريف مترجمه إلى العربية، عن لغته الأصلية، سمير غريس، بما كتب عنه في صحافة العالم.
«الشطرنج» لشتيفان تسفايغ نقله عن الألمانية سمير غريس وأصدرته «دار الكرمة» في 2024، وذلك بما لا يزيد عن 116 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية