نوفيلا «بينيه»: العالم حقيقة نصفها خيال

حجم الخط
0

يستمر الغموض محيطا بحياة الفتاة أنخيلا. بيت العائلة الذي تقيم فيه كثيرا ما يوحي بذلك. عدد المقيمين فيه قليل: الأخ سانتياغو، والخالة المتشدّدة إليسا، وكاتالينا الخادمة الطيّبة مثل أمّ. أما الأب فيقضي أكثر أيامه مسافرا، ولا يعود إلا ليزيد من غموض البيت، وغرابة العيش فيه. لكن هناك أطيافا تظهر بين الحين والآخر عند السياج الفاصل بين حديقة البيت والغابة. ثم إن هناك الفتاتين، الأختين وإن من أبوين مختلفين تعيشان في عشة بائسة في الجوار. كثيرا ما تشاهد الأخت الصغرى خوانا بصحبة رجل عجوز لن يتقدم كثيرا بنا السرد، حتى نعرف أنه شحّاذ تدور به خوانا على البيوت. بدا ذلك مفاجئا للقرّاء وهم بعد في مطلع النوفيلا، إذ ظننا أن العالم الموصوف على لسان فتاة في البيت الموسر لن يحتمل أن يكون لرفيقتها مثل هذا الجدّ. كما يبدو غريبا أن تبدأ حكاية تروى بلسان فتاة صغيرة، وهي بعد في سطرها الأول، بذكر الفقد والموت.
هو عالم غامض إذن ذاك الذي ترويه الفتاة آنخيلا، يزيده غموضا مجيء الفتاة بينيه، الغجرية في الأصل، لتقيم كخادمة في منزل العائلة. من فور دخولها انقلب كل شيء رأسا على عقب، بدأ ذلك حين راحت بينيه تتحول إلى فتاة أخرى. كان قد سبق ذلك ارتياب الخالة منها، من لحظة دخولها، كأن الخالة كانت ملمّة بتاريخ مخيف لها، أو كأنها فُرضت فرضا وبالقوة على أن تعمل خادمة للعائلة الصغيرة. كانت تسير بالكعب العالي بين غرف البيت وممرّاته، بما لا يتناسب مع مظهر فتاة ولا مع مظهر خادمة تقوم بعملها. وهي، بعد انقضاء أيام، لم تعد تأبه لكلام أحد. حتى ما تقوله الخالة لم يعد يُسمع منها، أو تعمل بموجبه. فقد الجميع السيطرة على تصرّفاتها بمن فيهم دونيا روساورا المعلّمة التي كانت تتردّد على البيت لتدريس أنخيلا.

أما ما يزيد بينيه غرابة فهو تبدّل سحنتها، هكذا بنحو مفاجئ، فتبدو كأنها لم تعد هي ذاتها، تبدو في أحيان كأنها تصغي لكلام شخص غير موجود ذاهلة عمن يكون واقفا أمامها. وفي نظر الفتاة أنخيلا، الراوية وابنة البيت، لا بد أن هناك صلة ما بين انذهال بينيه وذاك الغجري الذي يظهر طيفه لأنخيلا. كان قد شاع بين الوسط القليل المحيط بأنخيلا أن بينيه على علاقة بذلك الغجري الطيف. لكن مع تقدّم الرواية تمزج الكاتبة بين واقع الحياة في ذلك المنزل، والخيال المرعب الذي يهيمن على المقيمين فيه. فتلك الأصوات الليلية تبدو كما لو أنها صادرة عن العالَميْن معا. وهذا الاختلاط سيزداد وقعه مع تقدّم الأحداث، فبخلاف ما هو شائع في الأعمال الروائية من ذهاب الرواية، مع تقدم سردها، في إحدى الوجهتين، حيث تتراجع إحداهما مخلية السبيل إلى الأخرى، نقرأ هنا كيف أن الوجهتين تنموان معا، وتظلان متداخلتين حتى انتهاء الرواية.
أي أننا إزاء قراءة جامعة بين ما هو حقيقي وما هو خيالي. تلك التحركات الليلة لم يكن سببها فقط إدخال طيف الرجل الغجري إلى البيت، بل العلاقة التي نسجتها بينيه مع أب أنخيلا ذاك الذي، في العادة، تقتصر إقامته على زيارة يطيل الغياب من بعدها. لكن هذه المرة، مع وجود بينيه، مكث في المنزل ولم يغادره. ولم تكشف الكاتبة عن سرّ هذه العلاقة بين الأب وخادمته، ولا متى وكيف بدأت. لقد أبقت ذلك واحدا من الأسرار، كما فعلت بتلك العلاقة الأخرى مع الفتى سانتياغو، الذي كانت تصحبه بينيه، مع شقيقته أنخيلا إلى النزهات في أطراف الغابة أو في داخلها. وصف تلك النزهات ظلّ محيّرا للأخت الراوية، كما للقرّاء بالطبع، حيث تظلّ المخاوف من شيء جرى، أو سيجري، هو أكثر أهمية من أي واقعة حقيقية.

«بينيه» نوفيلا مشوّقة إلى حدّ أنها تُبقي قارئها مشدودا إلى ما يجري في عالمها الضيّق، حيث المماشي تفوق الغرف أهمية، وحيث العليّة في أعلى البرج هي بؤرة الأسرار. ذاك المكان الغامض السحري يذكّر بأعمال روائية مشابهة يخطر في الذهن منها رواية شارلوت برونتي «جين أيير» حيث تبدو الشخصيات القليلة مقيمة في مكان وحدتها وخوفها. ما يدفع أيضا إلى التشويق في قراءة «بينيه» قدرةُ الكاتبة على إبقاء الغموض مسيطرا على الدوام، وكذلك سردها الاعترافي الذي تبدو فيه كأنها تنقل وقائع من تاريخ لا يعلم به أحد سواها. ولنضف إلى ذلك عدم استرسال الكاتبة في توسعة ذاك العالم. كل سطر نقرأه يبدو كأنه اختير من بين احتمالات سطور ومقاطع كثيرة. في ختام النوفيلا نقرأ عن الزمن الذي استغرقته كتابتها: «كابيليرا، يناير/كانون الثاني- فبراير/شباط 1981 ـ ومدريد، مارس/آذار 1984». هي مدّة زمنية تزيد عن ثلاث سنوات لإنجاز عمل سردي لا يزيد عدد صفحاته عن 79 صفحة. هل استدعت الدقّة كل ذلك التمهّل؟
*«بينيه» نوفيلا للإسبانية أديلايدا غارثيا موراليس نقلها إلى العربية مارك جمال وصدرت عن دار تكوين- مرايا سنة 2024.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية