نيويورك تايمز: هل انتهت مرحلة “جوبيتر” للجمهورية الخامسة وبدأ عهد حكم الجمعية الوطنية الفرنسية؟

إبراهيم درويش
حجم الخط
0

لندن- “القدس العربي”:

نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تعليقا لمراسلها في باريس روجر كوهين، قال فيه إن “فرنسا تعلمت كلمة جديدة: لا يمكن حكمها”، وهذا نتيجة محاولة الرئيس إيمانويل ماكرون بناء “وضوح” في المشهد السياسي بعد نتائج اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي. إلا أنه خلق في انتخاباته المبكرة ارتباكا من الصعب تجاوزه قبل عدة أشهر.

و”بدلا من الاستيقاظ صباح الإثنين على فرنسا وقد هيمن عليها اليمين المتطرف، فقد أصبحت فرنسا إيطاليا، بلد يحتاج إلى مفاوضات مضنية تؤدي في النهاية إلى حكومة اتئلافية قابلة للحياة”. وقالت فرنسا “لا” لمارين لوبان وحزب التجمع الوطني المعادي للمهاجرين في الانتخابات التشريعية. وصوتت لصالح اليسار الصاعد وجعلته في المرتبة الأولى بدون أن تكون له غالبية المقاعد لكي يقود البلاد. كما حولت الانتخابات قلب البلاد من الرئاسة القوية إلى البرلمان.

ومع قرب انطلاق الألعاب الأولمبية بعد أقل من ثلاثة أسابيع، وبداية العطلة الصيفية والرحيل إلى الشواطئ أو الجبال الذي يعتبر مظهرا  مقدسا في الحياة الفرنسية، فمن المتوقع أن تمتد فترة المفاوضات لتشكيل حكومة إلى الخريف، وهو الوقت الذي تحتاج فيه فرنسا لتمرير الميزانية، فـ”الانتخابات التي كانت ستؤدي إلى مظاهرات، خلقت مأزقا”.

وحصلت الجبهة الشعبية الجديدة، وهي ائتلاف يساري صاعد، على المرتبة الأولى بـ180 مقعدا في الجمعية الوطنية، وطلب الائتلاف مباشرة من ماكرون تكليفه بتشكيل الحكومة، قائلا إنه سيقوم بترشيح رئيس للوزراء في الأسبوع المقبل.

ولكن الطلب تجاهل عددا من الأمور. فبناء على الدستور، يختار ماكرون رئيسَ الوزراء. وفي الجمعية الوطنية المكونة من 577 نائبا، فتحالف الجبهة الشعبية الجديدة ينقصه 100 مقعد لكي تكون له الأغلبية. كما أن برنامج اليسار لم يكن وحده الفائز في الانتخابات، بل بقرار الوسطيين واليسار تشكيل “جبهة الجمهورية” لمنع اليمين المتطرف من الفوز.

ورغم هذه العوامل، فقد أكد الزعيم اليساري الصدامي جان- لوك ميلانشون على أنه لن يتفاوض مع شركاء محتملين ولن يغير جملة واحدة من برنامج اليسار. كل هذا لا يبشر بخير، ولن يزيل الغمامة الكثيفة التي خلقتها خطوة “التوضيح” في انتخابات مبكرة دعا إليها ماكرون.

ففرنسا بنظامها الرئاسي، ليس لديها ثقافة بناء تحالفات وتسويات. وقالت المحللة السياسية نيكول باشران: “لا نعرف أيا من هذا، فنحن أمة تخلق رموزا على شاكلة نابليون”. وهذه الشخصيات النابليونية مجبرة الآن على مفاوضات مضنية، والتوافق على أجندة بين الأحزاب ذات المواقف المختلفة والأولويات الوطنية. مثلا، تريد الجبهة الوطنية أن تخفض من عمر التقاعد إلى 60 عاما بدلا من 64 عاما، بعد معركة مرة خاضها ماكرون ورفعه إلى ما بين 62-64 عاما.

أما حزب ماكرون، فيريد أن يتخلص من العجز في الميزانية وجعله أولوية الحكومة. من جهتها، تريد الجبهة الشعبية الجديدة زيادة الحد الأدنى للرواتب وتجميد أسعار الطاقة والغاز. وفي بداية العام الحالي، أقرت حكومة ماكرون مشروع قانون للهجرة قيّد القواعد التي تسمح للأجانب بالعمل في فرنسا. إلا أن اليسار وعد بتبني سياسة أكثر سخاء.

ولم تقدم نتائج الانتخابات التي أفرزت ثلاث كتل كبيرة، اليسار والوسط واليمين، أي قاعدة مباشرة للعمل المشترك. فكتلة ماكرون الوسطية لديها 160 مقعدا، أي أقل من 250 مقعدا، أما التجمع الوطني فلديه 140 مقعدا بزيادة عن 89 مقعدا. وفي الوقت الذي منعت فيه فرنسا اليمين من تولي السلطة، إلا أنها لم توقف صعوده الذي تغذى بمشاعر السخط على المهاجرين وزيادة كلفة المعيشة.

وبعد لقائه مع رئيس الوزراء غابرييل أتال يوم الإثنين، طلب ماكرون منه البقاء في منصبه في “الوقت الحالي” من أجل التأكيد على استقرار البلد. وبدا أتال بعيدا عن ماكرون بنيّة واضحة بالدخول في السباق الرئاسي لعام 2027 لخلافته في الرئاسة.

وفي خطاب مبطن يوم الأحد، قال: “لم أختر هذا الحل”، أي حل الجمعية الوطنية، مضيفا: “بدأ في هذا المساء عهد جديد، ومن يوم الغد، سيكون مركز الجاذبية للسلطة بيد الشعب الفرنسي، وسيكون بيد البرلمان أكثر من أي وقت مضى”.

وكان كلامه توبيخا مباشرا للرئيس ماكرون وطريقته الشخصية في الحكم من فوق إلى أسفل، وتجاهله للجمعية الوطنية. ومن الصعب تخيل هذا النقد من تلميذ سابق له.

والتزم ماكرون في الأيام الماضية على غير عادته بالصمت، وهو أمر غير عادي من رجل مدته في الحكم محدودة، ويجب أن يغادر في 2027. ورغم خسارة حزبه ثلث مقاعده في البرلمان، إلا أن الانتخابات لم تكن فشلا متوقعا له، فقد نجا من الإهانة، وأثبت أن فوز التجمع الوطني في انتخابات البرلمان الأوروبي لن يقود مباشرة إلى فوز في الانتخابات الوطنية، وهذا أمر ليس صغيرا.

ويُتوقع أن يأخذ ماكرون وقته ويتشاور مع الأحزاب لتشكيل تحالف واسع من الوسط. ولدى الرئيس خطان أحمران: الحكم مع التجمع الوطني الذي كان زعيمه الشاب جوردان بارديلا يأمل بتولي الحكومة، أو الحكم مع زعيم حزب “فرنسا الأبية” ميلانشون والذي اتهمه ماكرون بمعاداة السامية. وسيحاول دفع اليسار بمن فيهم الاشتراكيون والخضر وكذا المحافظين من التيار السائد للمشاركة في الائتلاف.

وستمنح زيارة ماكرون لواشنطن فرصة له لتأكيد حضور فرنسا على المسرح الدولي، وأن الدعم لأوكرانيا لم يتراجع، وهو أمر يريد ماكرون إظهاره أثناء قمة الناتو التي سيرعاها جو بايدن، في وقت تعاني السياسة الأمريكية من غموض كبير. فإذا كانت صحة بايدن هي حديث واشنطن، فحديث باريس هو عن ماكرون وسلطته، فهل سيجبر على تغيير مساره وتبني ما قاله أتال عن “العهد الجديد” المتمركز حول البرلمان؟

وقال الاشتراكي البارز رفائيل غلاكسمان “اليوم، وضعنا حدا لمرحلة جوبيتر (إله السماء والرعد في الأساطير الرومانية) للجمهورية الخامسة”، في إشارة إلى كلمة “جوبيتري” في عام 2016 والتي وصفت نهج ماكرون في الحكم، حيث قال إن سلطة الرجل الجبار الشبيهة بالرب هي أكثر مناسبة للفرنسيين من السلطة العادية لسلفه فرانسوا هولاند.

وألمح إلى أن الفرنسيين متحيزون لأسرار السلطة العظيمة. مع أن الأدلة من سبعة أعوام من الحكم تقترح أن هذا التحيز له مدى. وقال غلاكسمان: “نحن في جمعية وطنية منقسمة، وعلينا التصرف ككبار”.

ونجح غلاكسمان في حملته للبرلمان الأوروبي الشهر الماضي عن الحزب الاشتراكي، و”هذا يعني أن علينا الحوار والتواصل وتقبل تحول الجمعية الوطنية لمركز السلطة”، واصفا هذا التحول كـ”تغير أساسي في الثقافة السياسية”.

وبتحالف من حزب فرنسا الأبية الذي حصل على 75 مقعدا، والاشتراكيين 65 مقعدا، والخضر 33 مقعدا، والحزب الشيوعي بأقل من 10 مقاعد، فالحفاظ عليه سيكون شاقا كما يقول غلاكسمان. فمن ناحية نظرية، يمكن أن يكون غلاكسمان رئيسا للوزراء بتحالف يضم الاشتراكيين والخضر والشيوعيين وكتلة ماكرون وحوالي 60 محافظا من المحافظين في الحزب الجمهوري.

إلا أن مواقف ومعتقدات غلاكسمان تتصادم مع مواقف ميلانشون الذي رفض التحاور مع الشركاء ومع  ماكرون. ولا يوجد هناك ملامح تسوية أو  تنازل. ولا يوجد أي طريق لتخليص فرنسا من الغيمة الكثيفة التي تخيم عليها، حتى مع بدء الألعاب الأولميبة وإشعال شعلتها في 14 تموز/ يوليو المصادف ليوم الباستيل، عندما تحتفل فرنسا بثورتها وقطع رأس ملكها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اشترك في قائمتنا البريدية