المعطيات المخيفة التي تفرزها الأزمة الاقتصادية في لبنان، وعدم وجود حكومة عاملة، والفساد العميق، والخلاف حول ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان وحتى إغلاق معظم محطات الوقود في الدولة، كل ذلك لا يعني أحمد ابن الـ 12، وهذا ليس اسماً مستعاراً، فصورته تظهر في موقع “درج” اللبناني، وهو يمثل الآن، رغم أنفه، معظم أبناء الـ 12، وبالأساس معظم الفتيان في لبنان. ترك أحمد المدرسة لأن شقيقه يتعلم فيها، والوالدان لا يمكنهما تمويل رسوم التعليم. منذ كان عمره تسع سنوات، وهو يعمل في أعمال عارضة مثل تصليح السيارات والبناء وبيع الخضار والفواكه. والآن يعمل في محل تجاري، في عمل جسماني شاق، ويكسب 7 دولارات في الأسبوع، يعطيها لوالديه. أمام الذين أجروا معه المقابلة، أخذ قلماً وكتب اسمه بتفاخر من أجل إظهار ثقافته. شقيق آخر له ابن 15 سنة، يعمل مساعد نجار، وهو أيضاً مطلوب منه إعطاء دخله الصغير لوالديه حتى يستطيعا إرسال إخوتهم الصغار للدراسة. “العمل شاق والصناديق ثقيلة، لكنني تعودت”، قال أحمد، وهو يأمل أن يتمكن ذات يوم من العودة إلى الدراسة.
حسب تقرير الأمم المتحدة الذي نشر مؤخراً، فإن نحو 12 في المئة من العائلات اللبنانية اضطرت في هذه السنة إلى سحب الأولاد من المدارس وإرسالهم إلى العمل. وهذا رقم، حسب التقرير، لا يعكس الواقع كله. يصعب جمع معطيات عن التسرب من المدارس؛ وأولاد كثيرون يضطرون إلى التعلم بشكل جزئي، ثم يعملون في الوقت المتبقي، ولكنهم ما زالوا مسجلين في جهاز التعليم. القانون يحظر في الواقع تشغيل أولاد قبل بلوغهم الـ 16 سنة، لكن لا يوجد من يقوم بتنفيذ القانون. وحتى لو وجد، فمن المشكوك فيه أن تكون للعائلات الفقيرة قدرة على تنفيذ ذلك.
لبنان، الذي كان رمزاً للتعليم المتقدم في الشرق الأوسط، والذي تنافس طلابه بنجاح كبير في مسابقات العلم والمعرفة الدولية، يفقد الآن جيلاً كاملاً من الطلاب والمعلمين. الاستطلاع الذي نشره مركز الدراسات اللبنانية في الجامعة الأمريكية في لبنان، وجد أن نحو 70 في المئة من المعلمين ينوون ترك التعليم، و89 في المئة أبلغوا عن ضرر نفسي بسبب الوضع الاقتصادي، من بينهم 69 في المئة أبلغوا عن تآكل عميق في دافعيتهم للتعليم. “كيف يمكن التعليم في مدارس بدون مكيف وبدون ربط بالإنترنت لأن المدارس لا تملك أموالاً تدفعها لمزودي خدمة الإنترنت؟”، تساءل أحد المستطلعين.
ليست المدارس الأساسية والثانوية هي التي تقوم بإحصاء عدد الكراسي التي فرغت في الصف كل أسبوع، فبداية السنة الدراسية أبقت آلاف الطلاب الذين لا يمكنهم تمويل التعليم في الخارج أيضاً، حتى في الجامعة الحكومية اللبنانية التي يعد التعليم فيها بالمجان. الطالبة سهى، التي تأتي إلى بيروت من بلدة في البقاع اللبناني، قالت إنها تدفع 25 دولاراً في الشهر أجرة سكن لسرير في غرفة مشتركة، و10 دولارات في الأسبوع للسفر من البيت إلى الجامعة. إضافة إلى ذلك، تحتاج إلى بضع عشرات الدولارات الأخرى للطعام والكتب والأدوات الدراسية والقليل من المال لدفع ثمن القهوة مع الأصدقاء. هي لا تثق بأنها تستطيع مواصلة السنة في دراستها؛ لأن والدها، الذي هو موظف حكومي بدرجة متوسطة، يكسب نحو 60 دولاراً فقط في الشهر. هذا هو أيضاً راتب الجنود والضباط الصغار في الجيش اللبناني وفي الشرطة، وأقل من ذلك بقليل هو راتب المعلمين. وسائل الإعلام في لبنان تنشر بأن آلاف الجنود ورجال الشرطة قرروا ترك الخدمة خلال سنتين. ينوي بعضهم الهجرة من الدولة، وآخرون يحاولون العثور إلى مكان عمل أفضل. في الاستطلاع الذي نشر في هذا الشهر في لبنان، قال 80 في المئة من المستطلعين بأنهم يريدون مغادرة الدولة. نسبة مشابهة قالت بأنها غير متفائلة بخصوص حل الأزمة الاقتصادية والسياسية في الدولة.
مؤخراً، حدث إضراب للمحاضرين في الجامعات بسبب الخلاف على التعويض الذي يحصلون عليه بسبب واجبهم الأكاديمي بتكريس كل وقتهم فقط للبحث والتعليم. حسب القانون وأنظمة الجامعات، فإنه محظور على المحاضرين العمل في مكان آخر خارج الجامعة، ويمكنهم زيادة دخلهم قليلاً عن طريق إضافة ساعات التعليم أو إجراء أبحاث فيها. المشكلة أنه لا يوجد للجامعات نفسها ميزانية لتمويل زيادة نطاق التعليم، وهي تجد صعوبة في دفع رواتب المحاضرين. قبل نحو ثلاث سنوات فقط، لم يبحث المحاضرون عن مصادر دخل أخرى، ورواتبهم بالليرة اللبنانية كانت تساوي 2000 دولار في الشهر، لكن بعد انخفاض سعر الليرة مقابل الدولار أصبح الأجر الحقيقي 60 – 70 دولاراً في الشهر. الآن يمكن رؤية محاضرون يعملون في أعمال عارضة، مثل سائق سيارة عمومية أو مساعد طباخ إلى جانب الأولاد الذين تسربوا من المدارس.
التعليم في لبنان على جميع المستويات، تحول إلى ترف، وفقط المئوية العليا هي التي يمكنها أن تسمح لنفسها بالحصول على تعليم جيد في مؤسسات خاصة، التي يضطر فيها الآباء إلى الدفع بالدولار. الألفية العليا لا تعنيها هذه الضائقة. فهم يرسلون الأولاد للتعلم في الخارج، وينضم الآباء للأولاد في بعض الحالات ويبقون في الخارج لسنوات. لم يعد لمفهوم “افتتاح السنة الدراسية” أي معنى احتفالي في لبنان، ولا يوجد فيه أي ضوء للمستقبل، وبالتأكيد ليس لآلاف الأولاد الذين أصبح الزي المدرسي صغيراً عليهم.
بقلم: تسفي برئيل
هآرتس 5/9/2022