منذ 4 شباط لم يُبلّغ عن أي هجمات لمليشيات مؤيدة لإيران على أهداف أمريكية، مقارنة بـ 20 اعتداء في الأسبوع في الفترة السابقة، وحوالي 160 اعتداء في العراق وسوريا منذ 7 تشرين الأول. في الأسبوع الماضي، نشر موقع “آرام” في أبو ظبي نقلاً عن مصادر إيرانية بأن سبب وقف الهجمات زيارة قائد “قوة القدس” في حرس الثورة الإيراني، إسماعيل قاآني، للعراق بعد فترة قصيرة على مهاجمة قاعدة أمريكية على الحدود الأردنية في نهاية كانون الثاني، التي قتل فيها ثلاثة جنود أمريكيين.
حسب التقرير، التقى قاآني رؤساء المليشيات المؤيدة لإيران في بغداد، وطلب منهم وقف الهجمات، وافق معظمهم على ذلك باستثناء رؤساء مليشيا واحدة باسم النجباء، الذين وافقوا هم أيضاً في نهاية المطاف. وقف الهجمات في الحقيقة لم يمنع هجمات الرد الأمريكية، ولكن يبدو أنها هجمات كانت ضئيلة من حيث الحجم والكثافة مما كان متوقعاً أو مما أشارت إليه الإدارة الأمريكية في واشنطن.
القرب الزمني بين زيارة قاآني ووقف مهاجمة الأهداف الأمريكية، ليس مفاجئاً. في الحقيقة، عادت إيران وأعلنت بأن أي شريك في “محور المقاومة”، ضمن ذلك حزب الله في لبنان والحوثيون في اليمن والمليشيات المؤيدة لإيران في العراق، يعمل بشكل مستقل “حسب الشروط والظروف التي تناسبه في كل ساحة”. ولكن ظهور قاآني في العراق أثبت وضوح، إذا كانت حاجة للإثبات، وجود علاقة مباشرة بين طهران وقيادات “محور المقاومة” في المنطقة.
لهذه العلاقات الوثيقة قيود فرضت عليها، وهي ترسم قيود قوة التأثير. مثلاً، يمكن التساؤل لماذا كان يجب إرسال قاآني، الذي لا يتحدث اللغة العربية، للالتقاء مع قادة المليشيات وعدم الاكتفاء بتوجيه عبر الهاتف. سبب ذلك مزدوج.
الحكومة في العراق دخلت مؤخراً في حوار مكثف مع الجيش الأمريكي حول سحب كل قواته من العراق، الذي فيه نحو 2500 جندي أمريكي. خافت إيران أن تؤدي المواجهة بين الجيش الأمريكي والمليشيات في تأخير انسحاب القوات الأمريكية، وتوفير الذريعة للولايات المتحدة لتمديد وجودها في العراق. احتاج قاآني إلى جدول زمني للتنسيق مع الحكومة العراقية بهدف السماح بالانسحاب والتأكد من عدم نية العراق التراجع عن قراره.
ويكمن السبب الثاني في ضرورة تسوية العلاقات بين المليشيات الحكومة العراقية. المليشيات في العراق غير متشابهة؛ فلكل منها، إضافة إلى مشاركتها في محور المقاومة، أجندة خاصة بها مرتبطة بإيران، وبالزعماء الحزبيين في العراق، وسلوك الحكومة العراقية برئاسة محمد السوداني.
على سبيل المثال، في حزيران 2020، بعد نصف سنة على تصفية سلفه في المنصب، قاسم سليماني، اضطر قاآني للمرة الأولى إلى التزود بتأشيرة دخول إلى العراق كي يستطيع القيام بزيارة عمل في هذه الدولة. رئيس الحكومة في حينه كان مصطفى الكاظمي، الذي قرر تقليص حجم نشاطات ونفوذ المليشيات المؤيدة لإيران، بل وعمل ضدها بشكل غير مسبوق عندما أمر وحدة مكافحة الإرهاب في الجيش الإسرائيلي باقتحام قاعدة مليشيا “كتائب حزب الله” في العراق. وعُثر في القاعدة على سلاح ومواد متفجرة وصواريخ، أُعدت للإطلاق على أهداف أمريكية.
لم يكن لقاآني في حينه أي بشرى سارة لرؤساء المليشيات. فقد قال لهم إن إيران تنوي تقليص ميزانياتهم، وأن عليهم الاعتماد على تمويل يحصلون عليه من ميزانية وزارة الدفاع في العراق، الذي كان يبلغ في حينه 2 مليار دولار في السنة لكل المليشيات. أصبحت المليشيات في العراق قوة عسكرية تهاجم قواعد الولايات المتحدة، بل وتهدد قدرة سيطرة الحكومة على الدولة، حسب النموذج الذي يعمل به “حزب الله” في لبنان. وتحولت هذه المليشيات إلى قوة اقتصادية كبيرة جداً، وسيطرت على مشاريع حكومية. قادة المليشيات يشغلون معابر حدودية خاصة، لا سيما على الحدود مع إيران، ويهددون المستثمرين الأجانب ويديرون بنوكاً خاصة. هكذا، هم يفشلون جهود رئيس الحكومة في العراق لتجنيد المستثمرين الأجانب، لا سيما من الغرب.
تستطيع إيران السيطرة على نشاطات هذه المليشيات ضد الأهداف الأمريكية. ولكن في كل ما يتعلق بسلوكها في العراق وإزاء الحكومة العراقية، فإن موقفها معقد ومحدود إلى درجة أنه يبدو أنه في الميزان بين المصالح الإيرانية وبين مصالح الزعماء المحليين، معظم المليشيات تفضل العمل حسب أوامر السياسيين المحليين وليس حسب التوجيهات الإيرانية، إلى الدرجة التي تتعلق فيها الأمور بالسياسة الخارجية الإيرانية والأمن الإيراني.
إن تشغيل المليشيات والقوات الحربية المحلية الأخرى عن طريق التحكم عن بعد، حسب أسلوب “وحدة الساحات”، يملي على إيران شروطاً مقيدة حتى في ساحات اليمن وسوريا ولبنان. أول أمس، نشر أن الحوثيين أطلقوا صواريخ على سفينة بريطانية ومسيّرة أمريكية. في المقابل، نشرت القوات الأمريكية بأنها أصابت للمرة الأولى سفينة للحوثيين تعمل تحت سطح المياه. الولايات المتحدة وبريطانيا في الواقع تهاجمان أهدافاً في اليمن يومياً، ولكنها هجمات لم تحقيق بعد الردع المطلوب لوقف استمرار الحرب في البحر الأحمر، التي يرتفع ثمنها الاقتصادي كل يوم.
إيران في الحقيقة هي التي سلحت الحوثيين بالسلاح المتطور والمعرفة والتكنولوجيا التي تمكنهم من صناعة الصواريخ والمسيرات بأنفسهم. ولكن من غير الواضح مدى قدرة إيران تحديد شروط تشغيلهم وأهدافهم.
للحوثيين جدول أعمال مستقل، ليس بالضرورة مرتبطاً بجدول الأعمال الإيراني. الرئيس الأمريكي جو بايدن، قرر وضعهم على قائمة المنظمات الإرهابية مرة أخرى، في مكانة أقل من التي كانت في فترة ترامب في البيت الأبيض، لكن بصورة تمكن من فرض عقوبات دولية عليهم. في الوقت نفسه، يتفاوضون مع السعودية على إنهاء الحرب في اليمن، ويبدو أنهم ينوون استغلال المواجهة أمام قوات التحالف في البحر الأحمر بهدف ابتزاز الإنجازات لأنفسهم، دون صلة بموقف إيران. لذلك، لا تأكيد على موافقة الحوثيين في جبهتهم “الخاصة”، على الانضمام لوقف إطلاق النار في الحرب في غزة وقت حدوثه، حتى ولو طلبت إيران منهم وقف الهجمات في البحر الأحمر.
تدرك إيران أيضاً أن سوريا لا يمكنها المشاركة في معادلة “وحدة الساحات” أمام إسرائيل. لا لأن وكلاء إيران في سوريا، بما في ذلك قادة كبار في حرس الثورة الإيراني، يتعرضون لخطر التصفية، بل إن الرئيس بشار الأسد أوضح لإيران حدود نشاطات المليشيات المؤيدة لإيران ضد إسرائيل.
على سبيل المثال، اضطرت إيران في 2021 بتعليمات من الأسد لإعادة الجنرال أحمد مدني من سوريا، المعروف بلقب “الحاج جواد الجعفري”، والذي عمل في منصب قائد قوة القدس في سوريا. أحد أسباب إعادته القسرية، مبادرته إلى هجمات من داخل سوريا ضد إسرائيل وضد أهداف أمريكية، التي أوشكت على أن تؤدي إلى حرب ضد سوريا. وتم استبداله بالجنرال رضي موسوي، الذي صفّي في كانون الأول بهجوم نسب لإسرائيل.
ليست إسرائيل وحدها التي تعمل ضد القوات الإيرانية في سوريا؛ فروسيا أيضاً تقيد نشاطاتها العسكرية في إطار تفاهماتها مع إسرائيل التي تتمتع بحرية نشاطاتها الجوية المنسقة ضد أهداف إيرانية أعدت لمساعدة حزب الله، لكنها ستمتنع عن المس بأهداف حكومية في سوريا.
إيران نفسها لم تدفع بعد ثمن تشغيل المليشيات والمنظمات التي تعمل باسمها في المنطقة. حيث إنه إلى جانب تنصلها من المسؤولية، تطرح نفسها بأنها الدولة الوحيدة التي تمسك بيدها تشغيل فضاء الساحات العنيفة في المنطقة، حتى في وقت يكون فيه تحكمها بهذه المليشيات غير كامل ومطلق، ويتعلق باعتبارات محلية لا تخضع لتوجيهاتها دائماً.
هكذا، بفضل الحرب في غزة، حققت إيران لنفسها مكانة استراتيجية متميزة. وهي مكانة تعززت بفضل استئناف العلاقات الدبلوماسية مع السعودية والحوار السياسي غير المباشر مع واشنطن، التي تحاول تقييد فضاء هذه الساحة.
تسفي برئيل
هآرتس 20/2/2024
إيران منذ ثورتها الخومينية بدأت ببناء ترسانتها الإقتصادية والعسكرية والثقافية.