بدأت حال من اليأس تتسرَّب إلى نفوس الكثيرين من أبناء «بلاد الأرز». إنه الإحباط من عدم القدرة على إنتاج «تغيير ما» للواقع اللبناني الذي كلما لاحت بارقة أمل تحمل معها تباشير ممكنة للخلاص، تنتهي بتظهير مقدار العجز والخيبة. لا أحد يؤمن بأننا في زمن المعجزات. قد تأتي التحولات الكبرى بالفرص، التي لا بدَّ من التقاطها، لأنها فرص قد لا تتكرَّر، لكن البناء عليها لإحداث التغيير يحتاج إلى مسار تراكمي ولا يمكن أن يكون بضربة قاضية.
في الثاني من حزيران/يونيو، حلَّت الذكرى العشرين لاغتيال سمير قصير، الكاتب السياسي والمفكِّر والصحافي والأستاذ الجامعي الذي شكَّلت افتتاحياته في جريدة «النهار»، زمن هيمنة النظام الأمني اللبناني – السوري، رمزاً للمواجهة السلمية في وجه القمع وكبت الحريات، ورسمتْ مساهمتُه في تأسيس «حركة اليسار الديمقراطي» عام 2003 ملامح خطاب سياسي جديد يدعو إلى الاستقلال الوطني وبناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية والعلمنة، في وقت كانت تُعدُّ فيه هذه المفاهيم استفزازاً وتهديداً للسلطة الأمنية المهيمنة على البلاد، والتي تخاف من أن يُلامس حِبْرُ القلمِ العقول ورنينُ الحناجر القلوب، والمتمرسة في ظلمة الدهاليز والأقبية ولا تعرف النور.
لم يأبه حملات التخويف والتهديد وتشويه الصورة، ولا أَرعبته مصادرة جواز سفره. لا يغيب مقاله الجريء «عسكر على مين» يوما. كان فاعلاً في «انتفاضة الاستقلال» التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 5 شباط/فبراير 2005، وانتابه لاحقاً القلق من ضياع الفرصة بغياب خريطة طريق سياسية لما بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، فكتب عن الحاجة إلى انتفاضة داخل الانتفاضة تُعيد ألقها وتُصوِّب البوصلة. فلسطين كانت حاضرة على الدوام في وجدانه، و«ربيع دمشق» في ثنايا روحه، هو الذي كتب يوماً «إنّ ربيع العرب، حين يزهر في بيروت، إنما يُعلن أوان الورد في دمشق».
«ربيع بيروت» ونغصة «الوشاية»
تحوَّلت مؤسسة سمير قصير، التي أُنشئت بعد أقل من سنة على اغتياله، بجهد وجهود زوجته الإعلامية جيزيل خوري ودعم أوروبي، إلى أبرز المدافعين من خلال مركز «سكايز» (عيون سمير قصير) للدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية، والراصد للانتهاكات في حق الصحافيين والمدافع عنهم وعن حقهم في التعبير، ليس في لبنان فحسب، بل وفي سوريا والأردن وفلسطين. بات للصحافي العربي الذي يتعرَّض للاضطهاد ملجأ وحضناً له في تلك المؤسسة، التي دأبت على تقديم جائزة سمير قصير لحرية الصحافة في كل سنة، وعلى إقامة مهرجان «ربيع بيروت» مع حلول الذكرى.
هذه السنة، كان عنوان المهرجان في دورته الـ17 «بيان الحلم»، وهو أحد المقالات المتخيلة التي كتبها سمير قصير في 16 نيسان/أبريل 2004، رأى فيه أن لبنانيين يوزعون بياناًٍ أقرب ما يكون إلى وثيقة سياسية وبرنامج مُكتمِل يستظل «المدينة الفاضلة»، يحمل تواقيعهم ويناشدون فيه إطلاق عجلة التغيير نحو بلد معافى تستعيد فيه الثقافة الديمقراطية زخمها، قبل أن يستيقظ من الحلم.
وبينما كان عرض «بيان حلم» يشهد اللمسات الأخيرة قبل انطلاقه، كانت قوة من الأمن العام تداهم منزل الكاتب والصحافي والأكاديمي وسام سعادة، من مدرسة سمير قصير، بناء على إشارة من القضاء العسكري وتصادر جهازه الخليوي وحاسوبه وجواز سفره، في خطوة لقيت استنكاراً واسعاً في الوسط الثقافي والإعلامي، ليتبين لاحقاً، وفق ما أفاد به سعادة، أن مكتب المعلومات في الأمن العام حقق معه في اليوم التالي من المداهمة، وأن التحقيق يتعلّق بمنشوراته وكتاباته والرسائل على مواقع التواصل الاجتماعي، كما تعلّق بسؤاله عن رسالة وصلته في العام 2019، ومكتوب فيها «اتّصل بي»، والرقم المرفق هو رقم يبدأ برمز كمبوديا (لم يَردّ عليه). لم تكن هناك نقطة مركزية خلال التحقيق على مدار ساعتين، سئل عن الهندوسية والدين اليهودي وموقفه من معاداة السامية وموقفه من السلام. في نهاية التحقيق، وقَّع تعهداً بالالتزام بالقوانين اللبنانية. وقال مركز «سكايز» إنه طُلب من وسام أن يُوقِّع على تعهّدٍ بعدم التواصل مع دولة عدوة، «نحن اعترضنا كونه لم يكن أساساً هناك أي تواصل، وأضفنا في التعهد أنه لم يتواصل ولن يتواصل مع دولة عدوّة ضمن القوانين اللبنانية. وقد تمّ إخلاء سبيله وإعادة كل الأغراض المصادرة».
خرج سعادة باستنتاج أن ما جرى معه مبني على «وشاية» من أحد ما. وبأن لا دولة قانون في لبنان، وتوجد حاجة لإصلاح المؤسسات والأجهزة والقضاء. وهناك مشكلة في منظومة الدولة وكيفية مقاربتها للمخاطر على المجتمع، ذلك أنها غير متصالحة مع المجتمع، ولا تنظر إليه على أنه مجتمع مفتوح قائم على التآخي وعدم خوف المواطن من مواطن آخر ومن هاتفه.
رب ضارة نافعة
حرَّكت قضية وسام سعادة المياه الراكدة. عادت الأسئلة عن دور المحكمة العسكرية والمطالبات بإلغائها، ولا سيما إن كان هناك تعويل على أداء مختلف مع عهد جوزف عون وحكومة نواف سلام، في ظل الاقتناع السائد بأن المحكمة العسكرية عادة ما تُستخدم كوسيلة ضغط على الأصوات المعارضة. وهناك أمام لجنة الإدارة والعدل اقتراح قانون يتعلق بإلغاء المحكمة العسكرية، فيما وجهات النظر تتوزع بين إلغائها أو حصر صلاحياتها بالنظر بقضايا تخص العسكريين الموجودين في الخدمة، مع التشديد على حق الدفاع وحق استئناف القرارات الصادرة عنها. قد يكون القضاء العسكري جائراً، ولكن أيضاً، تحتاج كل المحاكم إلى ورشة إصلاح في هيكليتها والكثير من قضاتها الذين يتبعون جهات سياسية ويُغلّبون مصالح تلك الجهات، ويُجيِّرون القضاء لخدمتها.
ورب ضارة نافعة، لأن الصرخة كانت، وما زالت، قائمة في ما يتعلق بـ«لوائح الإخضاع» الصادرة عن الأمن العام، وبـ»وثائق الاتصال» القائمة على وشاية أو معلومة من مُخبر أو «شبهة» من هنا وهناك، أو تصفية حساب مع فلان أو علتان، أو ممارسة ضغوط على فئات معينة أو مناطق بعينها، وهي وثائق تصدرها مديرية المخابرات في الجيش اللبناني، من دون إذنٍ قضائي، وعددها بالآلاف. ولسنوات مضت، ضاق أبناء الشمال بها ذرْعاً ولا تزال سيفاً مسلطا على رقابهم ورقاب الكثير من المواطنين، حيث يجري إلصاق تهم الإرهاب والتواصل والارتباط بجماعات وتنظيمات إسلامية، فيما غالبية هؤلاء لا يعلمون بصدور مثل تلك الوثائق بحقهم سوى عند السفر أو تنفيذ معاملات رسمية.
هذه حال الموقوفين في السجون من دون محاكمات، وفي مقدمهم الموقوفون الإسلاميون. ويُشكِّل موضوع التوقيفات في السجون، وحجز الحريات لسنوات من دون أحكام، قنبلة موقوتة يُحذِّر منها سياسيون كثر، ولكن هناك اقتناعا اليوم بأن المناخات التي كانت سائدة سابقاً نتيجة عوامل عدة قد تكون تبدَّلت. وكان صادماً ما قاله وزير العدل عادل نصار من أن ما نسبته 67 في المئة من الموجودين في السجون، هم موقوفون غير محكومين. وسُجل ارتياح لإعلان نصار ووزير الداخلية أحمد الحجار قبل نحو أسبوعين عن إعادة العمل بمحكمة سجن رومية المركزي تسهيلاً للبت بالملفات وتسريع المحاكمات، وأمل كثير من الموقوفين وأهاليهم بانتهاء هذه المحنة مع انطلاق أولى جلسات المحاكمة قبل أيام في القاعة المخصصة داخل السجن.
بشرى طال انتظارها.. ولكن
جاء يوم المئة من عمر الحكومة حاملاً معه بشرى سعيدة. خطى رئيس مجلس الوزراء خطوة مهمة احتراماً للحرية الشخصية وحفاظاً على الكرامات وضماناً لعدم المسّ بحقوق المواطنين من أي توقيفات اعتباطية أو تعسفية، إذ أصدر مذكرة حكومية توجّه فيها إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية للتأكيد على وجوب إلغاء وثائق الاتصال ولوائح الإخضاع بشكل فوري والاستعاضة عنها بمراجعة القضاء المختص.
كان سبق لمجلس الوزراء برئاسة تمام سلام أنّ قرَّر في 24 تموز/يوليو 2014 إلغاء وثائق الاتصال ولوائح الإخضاع الصادرة عن الأجهزة العسكريّة والأمنيّة، وصدر في 6 آب/أغسطس من السنة نفسها، وعطفاً على القرار وتطبيقاً له، تعميم النائب العام لدى محكمة التمييز الذي ألغى جميع بلاغات البحث والتحريّ الصادرة بحَقّ الأشخاص المُعمّمة استناداً إلى وثائق الاتصال ولوائح الإخضاع الصادرة حتى ذلك التاريخ عن الأجهزة العسكريّة والأمنيّة، لكن لم تلتزم الجهات الأمنية بقرار إلغائها ولم تضعها موضع التنفيذ، وبقيت سارية المفعول وسلوكاً معتمداً. لا يشمل بالطبع قرار الإلغاء وثائق الاتصال المتعلقة بالتواصل والتعامل مع العدو الإسرائيلي أو الإرهاب المبني على قرار قضائي.
ما قاله سلام في مذكرته أنه تبيَّن أنّ بعض وثائق الاتصال ولوائح الإخضاع ما زالت موجودة، وتصدر عن الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة من دون أي نصّ قانونيّ يُجيزها، ما من شأنه المَسِّ بالحريّة الشخصيّة للإنسان وحقوقه، في حين يُمكن لقضاة النيابة العامّة إصدار بلاغات بَحث وتحرّ سنداً لأحكام القانون، مشيراً إلى أن المديرية العامة للأمن العام أفادته، بموجب كتاب، أن وثَائق اتصال وبرقيّات صادرة عن قيادة الجيش لا تَزال تَردها لأجل استثمارها في المديرية، وليست هي المُصدرة لها بل تتولى وضعها موضع التنفيذ بناءً على طلب الجهات الصادرة عنها. وبالتالي، بعد ما تبيَّن أنّ بعض الجهات ما زالت تُصدر وثائق اتصال إضافة إلى أن الوثائق القديمة ما زالت سارية المَفعول، طلب إنفاذاً للقوانين المرعيّة الإجراء، العمل الفوري على إلغاء جميع وثائق الاتصال وتجريدها من أي مفاعيل ومُراجعة القضاء المُختّص عند الاقتضاء ولا سيما في حال وجود ما يُبرِّر إصدار إمّا بلاغ بحث وتحرٍّ، أو مُذكرة توقيف، أو أي تدبير يقرره القضاء المختص بما تجيزه القوانين والأنظمة المرعيّة الإجراء.
لقيت خطوة سلام ترحيباً كبيراً وثناءً من مروحة واسعة من السياسيين والناشطين، غير أن تعليقات عدة تخوَّفت من عدم التزام الجهات الأمنية والعسكرية من قيادة الجيش إلى قوى الأمن الداخلي إلى الأمن العام وأمن الدولة والجمارك بمضامين المذكرة.
التحدي- الامتحان
يبقى الهاجس على الحريات في لبنان مشروعاً، فرغم مرور 100 يوم على الحكومة وما يزيد بقليل على العهد الجديد، فإن المواطن العادي لم يلحظ بعد تبدلاً وتغييراً ملموساً في حياته اليومية، حيث يغرق في الفوضى. وإذا كانت السلطة نجحت في إدارة الاستحقاق البلدي وأبدت احترامها للمهل الدستورية، وإذا بدأت تسجل بعضاً من النقاط الإيجابية في ما خص ضبط المرافئ الحيوية من المطار إلى المعابر البرية والبحرية، فإن المسار لا يزال في بداياته، والطريق طويل والتحديات كبيرة، فضلاً عن أن معضلة السلاح، الذي هو معبر حتمي وضروري لإعادة بناء الدولة وبسط السلطة الشرعية نفوذها على كامل الأراضي اللبنانية وفي مختلف المناطق، ما زالت قائمة، وتتعثر عملية تسليمه في ظل تمسّك «حزب الله» ببقاء سلاحه خصوصاً شمال الليطاني. ولا شك في أن هذا السلاح سيلقي بظلاله على الاستحقاق الكبير المقبل والمتمثل بالانتخابات النيابية في ربيع 2026، وسيبقى تأثيره على مناطق نفوذه وسيطرته في البيئة الشيعية، بما يحد من حرية الحركة لأي قوى مستقلة أو معارضة لـ«ثنائي أمل – حزب الله»، ولا سيما إذا بقي قانون الانتخاب على حاله ولم يتم إنشاء «الميغا سنتر» الذي من شأنه أن يفتح المجال أمام قدر من الحرية للناخب بعيداً عن سطوة القوى السياسية النافذة في القرى والبلدات، وتوفر من عبء التنقل الذي يُشكِّل عاملاً مؤثراً في العملية الانتخابية.
سيكون العهد الجديد أمام اختبار تلو الاختبار، وكذلك الحكومة المطلوب منها أن تُنجز الكثير في عمر قصير مداه الفترة الفاصلة عن أيار/مايو 2026، والذي يفترض أن تُشكِّل فيه الانتخابات النيابية مرحلة فاصلة بين الحاضر والمستقبل بما يحمله من فرص محفوفة بمخاطر فقدان الأمل بغد أفضل.