جاء اتفاق وقف إطلاق النار الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم الثلاثاء 24 تشرين الأول/أكتوبر لينهي عاما من المواجهات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل التي بدأت بعد يوم من هجمات حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ضد إسرائيل.
وكان بايدن واضحا في حديثه عن طبيعة وقف إطلاق النار بأنه دائم، رغم أن الصفقة الموقعة تعطي إسرائيل ستين يوما لسحب قواتها من جنوب لبنان. واعتبر كل طرف في الحرب بأنه المنتصر، حيث تباهت الإدارة الأمريكية وهي في الساعات الأخيرة من النهاية بأنها حققت انتصارا دبلوماسيا في الشرق الأوسط وبعد عام من الاخفاقات في غزة، أما نتنياهو فقد سارع بالقول إنه أرجع حزب الله لعدة عقود من الزمان وجرده من قيادته التاريخية. وبالنسبة لحزب الله فقد كان صموده بمثابة انتصار، حيث أكدت تصريحات الأمين العام له، نعيم قاسم هذا، فقد شكر صمود اللبنانيين والمقاومة في المنطقة وإيران وجماعة الحوثيين وغيرها في محور المقاومة وأكد أن الحزب سيدعم غزة بطرق أخرى.
غزة الحاضرة
وكانت غزة حاضرة في تفاصيل الهدنة، حيث أثيرت التساؤلات عن إمكانية تحقيق هدنة مماثلة بعد عمليات الافشال الدائمة لكل محاولات وقف إطلاق النار وإحباط الوسطاء وخاصة قطر، من استمرار عرقلة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو إفشال كل المساعي الأمريكية ومواصلته عمليات التجويع وحصار شمال غزة والتطهير العرقي لسكانه. والسؤال هنا عن «وحدة الساحات» التي رفعها محور المقاومة بعد بداية حرب غزة ومتانتها اليوم، فهل نجحت الولايات المتحدة وإسرائيل في الفصل بين لبنان وغزة وصنعاء وطهران، أم أن محور المقاومة ما زال قائما وإن بدرجة نسبية؟ صحيح أن إسرائيل مارست كل ما لديها من قوة تدميرية غير متناسبة مع الهدف، واستخدمت في لبنان ما استخدمته عام 2006 بشراسة أشد، وما تفعله اليوم في غزة والضفة الغربية من دمار شامل على البشر والحجر، لكن إسرائيل لم تحقق أهدافها الإستراتيجية لا في لبنان أو غزة. ومن هنا يفهم غضب السكان الذي شردتهم صواريخ حزب الله من مستوطنات الشمال لأكثر من عام، وأن نتنياهو لم يحقق وعوده بتدمير كلي لحزب الله وأن العودة إلى الشمال ليست آمنة. وهو نفس السياق في غزة، حيث لم يحقق نتنياهو هدفه النهائي بالنصر أو الإفراج عن الأسرى لدى حماس. وما يعلم استراتيجيته في غزة بأنها ترفض تقديم التنازلات لحماس وتؤمن بإمكانية مواصلة التدمير والقتل اليومي للشعب الفلسطيني بدون أن يتأثر نتنياهو لا سياسيا أو عسكريا، بل على العكس، سيجد الجيش الإسرائيلي فرصة في إعادة نشر قواته من الشمال بعد الهدنة ونقلهم لجبهة غزة ومواصلة العمليات التي يتحدث قادة إسرائيل أنها مستمرة.
ممر غزة
ومن هنا تأتي أهمية غزة في سياق الاتفاق اللبناني، فأي تسوية دائمة وعادلة في المنطقة تمر عبر غزة، وهو ما طرحه عدد من المعلقين، فقد قالت صحيفة «الغارديان» (27/11/2024) في افتتاحيتها إن نتنياهو لم يبد أي استعداد للمشاركة في محادثات وقف إطلاق النار بغزة التي توسطت فيها قطر، التي علقت دورها كوسيط هذا الشهر في حالة من الغضب.
وتقول الصحيفة إن التسوية الدائمة يجب أن تمر عبر غزة وتقود إلى إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة. إلا أن نتنياهو ليست لديه أي رغبة في أن يكون صانع سلام، وهو يحاول التهرب من محاكمة الفساد، والانتخابات التي من شأنها أن تعزز غضب الناخبين بعد 7 أكتوبر. وعليه، فمصلحته تكمن في إدامة حالة الحرب ومواصلة «تدليل» اليمين المتطرف في حكومته والذين بيدهم قرار إسقاطه ويحلمون بعودة الاستيطان إلى غزة بعد تطهيرها عرقيا.
قواعد عسكرية في غزة
وعليه فهو لا يواصل الحرب ولا يرفض الحديث عن ترتيبات لغزة فقط، بل ويقوم بخلق وقائع على الأرض. وهو ما هو واضح في تصريحات وزير الأمن الغذائي، ومدير الشاباك السابق، أفي ديختر الذي أكد على انتشار دائم للقوات الإسرائيلية في غزة وبدون خطة لإدارة القطاع الذي يعيش فيه 2.3 مليون نسمة، وقال: «أعتقد أننا سنبقى في غزة لفترة طويلة. وأعتقد أن معظم الناس يدركون أن إسرائيل ستظل لسنوات في وضع مماثل للوضع في الضفة الغربية حيث تدخل وتخرج وربما تبقى على طول ممر نتساريم». ونقلت صحيفة «الغارديان» (29/11/2024) عن جنود احتياط ارسلوا إلى غزة وصفهم لحجم البنى التحتية التي يجري العمل عليها في غزة. وقال جندي أنهى خدمته أنه قضى 70 يوما من خدمته وهو يدمر البيوت من أجل فتح المجال لبناء قاعدة عسكرية في ممر نتساريم. وقال «كانت هذه هي المهمة الوحيدة، ولم نترك ولا بناء قائما أعلى من وسطي، كل شيء باستثناء قواعدنا وأبراج المراقبة».
وتقول الصحيفة إن رواية شاهد العيان، تؤكد التقارير في الصحافة الإسرائيلية عن عمليات البناء الكبيرة في معبر نتساريم ومناطق أخرى في غزة. وقال جنود احتياط آخرون تم تسريحهم إن الكثير من المتفجرات استخدمت لتدمير المباني الواقعة إلى الشمال والجنوب من ممر نتساريم لدرجة أن بعض الوحدات لم تعد قادرة على العمل.
سلام بايدن
وهو ما يعني أن نتنياهو ليس مهتما بترتيبات ما بعد اليوم التالي التي تكررها الإدارة الأمريكية وأكد عليها بايدن في إعلانه عن الهدنة في لبنان، من أنه يريد غزة بدون حماس وترتيبات تطبيع بين السعودية وإسرائيل تقود في النهاية لمسار دولة فلسطينية.
ورأت صحيفة «واشنطن بوست» (26/11/2024) أن بايدن كان متفائلا جدا في إعلانه عن الهدنة، مع أن تحقيق صفقة سلام كبرى حسبما تحدث الرئيس تظل حلما مراوغا. مضيفة أن الأمر ليس بيد بايدن ليحلم في صفقة كبرى، فهذا من مهمة الإدارة المقبلة. وقالت إنه لا يزال من غير الواضح مدى حديث إدارة بايدن مع الفريق الانتقالي للرئيس المنتخب دونالد ترامب الذي قد يواصل مثل هذه الصفقة بسبب الضمانات الأمنية الأمريكية المقدمة للسعودية. وأشار مسؤول إلى ان الإدارة المقبلة تدعم خطوات الرئيس بايدن.
عامل ترامب
ومن هنا جرى الربط بين الصفقة في لبنان ولقاء وزير الشؤون الإستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية، رون ديرمر في مقر الرئيس المنتخب بفلوريدا يوم 11 تشرين الأول/نوفمبر، قبل لقائه وزير الخارجية أنتوني بلينكن من أن إسرائيل وافقت على ملامح الخطة الأمريكية لوقف إطلاق النار في لبنان. وقالت الصحيفة إن ترامب أخبر نتنياهو بأنه يريد وقف حروب المنطقة قبل أن يدخل البيت الأبيض في 20 كانون الثاني/يناير. وكان فريق ترامب واضحا في الحديث عن دور الرئيس المنتخب في صفقة لبنان، ونشر مرشحه لمستشار الأمن القومي مايكل والتز، على منصة إكس قائلا إن «انتخاب ترامب جلب الجميع إلى الطاولة». مع أن مسؤولا في إدارة بايدن أكد أن الصفقة كانت جاهزة في تشرين الأول/أكتوبر. ولم ينف معرفة الفريق الانتقالي بها بعد اكتمالها. ولم يفت مجلة «بوليتيكو»(28/11/2024) الإشارة إلى ما أسمته «أثر» ترامب، قائلة: «أيا كان هذا جيدا أم سيئا، فهذا يعتمد على وجهة نظرك، إلا أن ترامب شكل حسابات المتقاتلين في الشرق الأوسط وأوروبا وهم يحاولون التكهن بما يرغب بتحقيقه حال وصوله إلى البيت الأبيض. وفي الوقت نفسه يتنافسون للحصول على التأييد المسبق منه». وعلى ما يبدو فقد أدى فوز ترامب إلى تركيز العقول بما يكفي لإقرار وقف إطلاق النار.
دور إيران
وأشارت المجلة إلى الدور الإيراني في صمود الهدنة، فالكثير يعتمد على الكيفية التي سيتصرف بها رعاة حزب الله في طهران. ويبدو أنه لا توجد شهية في العاصمة الإيرانية لإثارة غضب ترامب، فالبلاد ليست في وضع يسمح لها بخوض حرب بالوكالة ضد إسرائيل، في حين يضغط ترامب على إيران اقتصاديا. وعلى هذا فقد تركت إيران الباب مفتوحا لإجراء محادثات مع واشنطن بشأن برنامجها النووي. وبلا شك فكيفية رد إيران ستحدد المدة الزمنية لوقف إطلاق النار، طويلة أم قصيرة الأمد. ومع ان إيران لم تكن طرفا في المفاوضات التي قادها مبعوث بايدن الخاص للبنان عاموس هوكشتاين، والذي التقى نبيه بري، رئيس البرلمان اللبناني المفوض من حزب الله للتفاوض نيابة عنها، إلا أن طهران كانت في الخلفية وموافقة. وأشار ديفيد إغناطيوس في صحيفة «واشنطن بوست» (27/11/2024) نقلا عن مسؤول خليجي قوله: «بالطبع كانت هناك بعض الاتصالات الخلفية مع إيران بشأن وقف إطلاق النار الذي يشمل وكيلها. وقال مسؤول بارز في الإدارة الأمريكية إن الولايات المتحدة وإيران تبادلتا رسائل منتظمة و لو كانت إيران تعارض هذا، لما حدث». وجاء الموقف الإيراني من الهدنة نتيجة لظروفها المحلية وحساباتها الخارجية. وأشارت صحيفة «نيويورك تايمز» (28/11/2024) إن إيران أرسلت مسؤولا رفيع المستوى إلى بيروت في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر لحث حزب الله على قبول وقف إطلاق النار مع إسرائيل. وفي نفس الوقت تقريبا، التقى سفير إيران لدى الأمم المتحدة بإيلون ماسك، في محاولة للتقارب مع الدائرة الداخلية للرئيس المنتخب دونالد ترامب. وقالت الصحيفة إن التحول الإيراني من الكلام القاسي إلى نبرة أكثر تصالحية في غضون أسابيع قليلة له جذوره في التطورات في الداخل والخارج. وأشارت الصحيفة نقلا عن خمسة مسؤولين إيرانيين، أحدهم عضو في الحرس الثوري، إن قرار إعادة ضبط السياسة كان مدفوعا بفوز ترامب في انتخابات 5 تشرين الثاني/نوفمبر، مع مخاوف بشأن زعيم لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، والذي سعى في ولايته الأولى إلى سياسة «أقصى ضغط» على إيران.
لكن القرار كان مدفوعا أيضا بضرب إسرائيل لحزب الله في لبنان، أهم وكلائها والأزمات الاقتصادية في الداخل، حيث انخفضت العملة بشكل مطرد مقابل الدولار ويلوح نقص الطاقة في الأفق مع اقتراب الشتاء. وقال المسؤولون الإيرانيون الحاليون المطلعون على التخطيط إن هذه التحديات مجتمعة أجبرت إيران على إعادة ضبط نهجها، إلى نهج نزع فتيل التوترات. وأضافوا أن إيران علقت خططها لضرب إسرائيل بعد انتخاب ترامب لأنها لا تريد تفاقم التوترات مع الإدارة القادمة، التي كانت بالفعل تصطف مع مرشحين للوزراء معادين لإيران وداعمين لإسرائيل. وفي رأي سنام وكيل، مديرة قسم الشرق الأوسط في تشاتام هاوس بلندن، يبدو من الواضح أن إيران تستجيب للتغيرات القادمة في واشنطن، فضلا عن المشهد الجيوسياسي المحلي والإقليمي المتغير الذي تواجهه الآن.
مصير حزب الله
وفي النهاية ترتبط الهدنة بالتزام إسرائيل فيها، وبما سيتمخض عنه المشهد اللبناني، فالعودة الظافرة للاجئين والمهجرين اللبنانيين المنتصرة تخفي وراءها حجم الدمار والتوقعات بإعادة البناء. لكن المهم أن نتنياهو أعاد المعادلة مع حزب الله إلى عام 2006 وإن تميزت الحملة الحالية بدمار واسع وكبير على البنى التحتية ومحاولة معاقبة السكان على دعمهم لحزب الله. وكما يقول كولين كلارك، مدير الأبحاث في مجموعة صوفان بنيويورك، بمقال نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» (27/11/2024) حزب الله خرج من حرب 2006 منهكا ولكنه متحديا بعد أن صمد في وجه أقوى جيش في الشرق الأوسط. والآن، ومع التوصل إلى وقف إطلاق نار هش بات من الواضح أن الجماعة تمر بمرحلة تطور من نوع مختلف. ويرجح الكاتب ظهور حزب أكثر محلية، يعمل بنفوذ إيراني أقل ــ قد يغير التوازن الأمني الإقليمي الذي دام عقودا من الزمان في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. لقد نجحت إسرائيل في إضعاف حماس وحزب الله على مدى العام الماضي، وإيران منافستها اللدودة في هذه العملية. ومع تراجع التهديد الذي يشكله حزب الله وخشية إيران من الرد الإسرائيلي الناتج عن دعمها المستمر لحزب الله وحماس، فإن طهران قد تحول تركيزها في الأمد القريب إلى تعزيز العقد الأخرى في شبكة وكلائها، بمن فيهم الحوثيون في اليمن أو الميليشيات الشيعية المختلفة في العراق. لكن من الصعب أن نتخيل أن إيران ستتخلى عن حزب الله بالكامل. ذلك أن هذا سيدفع وكلاء آخرين لفقدان الثقة في طهران واتخاذ موقف أكثر استقلالية، ما يقلب قواعد اللعبة السياسة الخارجية القديمة رأسا على عقب. ومع ذلك فالسجل التاريخي يثبت أن الجماعات المتمردة من الصعب القضاء عليها بالكامل، وحزب الله ليس استثناء.